لا شك في أننا نعيش في عالم مجنون، متقلب، ومتغير إلى أقصى حد، وبشكل يثير الدهشة، بالأمس القريب كنا نذرف الدموع على ضحايا نيس، وحاليا نتابع بعيون محدقة وأفواه مفتوحة من فرط الدهشة ما يحدث في تركيا، إنقلاب عسكري دون سابق إنذار وبلا مقدمات .. فما الذي حدث ؟
ما الذي حدث؟
فجأة وبدون سابق إنذار عشرات الطائرات العسكرية تحلق في سماء أنقرة، تنذر بليلة حالكة السواد، بعدها بقليل يصرح رئيس وزراء تركيا بن علي يلدريم بأن هناك محاولة تمرد ضد الديمقراطية والإرادة الشعبية – حسب قوله – يقوم بها أفراد داخل الجيش، ومؤكدًا على أنهم سينالون العقاب المستحق، لكن الأمر تعدى ذلك وتوالت الأحداث، بداية بإغلاق جسر البوسفور، مرورًا بضرب مبنى الاستخبارت التركية ثم مبنى المخابرات العامة ، إلى مبنى البرلمان، ثم السيطرة على الإعلام التركي، وبث بيان يؤكد سيطرة الجيش التركي على الحكم، وبأنه هو المسؤول عن تركيا، وهو المتحدث الرسمي لها حتى إشعار آخر، حماية لحقوق الشعب التركي، وحفاظًا على الديموقراطية!
لم يفت الكثير حتى ظهر أردوغان من خلال مكالمة على “سكايب”، يدعو الشعب للخروج للشوارع والتصدي للجيش، والحفاظ على الديموقراطية ومواجهة العسكر، ما دفع المواطنين للنزول على الفور، بعد شعورهم بأن ثمة كارثة ما على وشك الحدوث.
الهدوء الذي سبق العاصفة
كل شيء يحدث بسبب ولسبب، قد يبدو لك ظاهريًا أن تركيا دولة مستقرة، وأنها لا تعاني ما نعانيه نحن في الشرق الأوسط، أي أن لا داعي أساسًا من الإنقلاب، دولة مستقرة إقتصاديًا وسياسيًا وكل شيء على أفضل وجه، لكن في الحقيقة أنها قد تكون مستقرة إقتصاديًا بالفعل، أما سياسيًا فلا، بالرغم من الهدوء الذي يخيم على سياسة تركيا الخارجية مؤخرًا، بعد الاعتذار لروسيا، والتطبيع مع اسرائيل، والبدء في تحسين العلاقات مع سوريا والعراق، الذي يوحي بأنها تريد إنهاء كل الخلافات الخارجية والتركيز على مصالحها فقط، لكن هذا لم يشفع للحكومة ولا لأردوغان عن الجيش وبعض مؤيدي الإنقلاب، لهذه الأسباب:
– الجيش ليس راضيًا: منذ تولي رجب طيب أردوغان حكم تركيا، علاقته بالجيش علاقة متوترة، خاصَة بعد سجنه لعديد من الضباط من لديهم صلة بالداعية الإسلامي فتح الله غولن، المتهم الأول في محاولة الإنقلاب هذه، والذي لطالما انتقد حزب العدالة والتنمية وانتقد أردوغان نفسه.
– إتهامات دائمة بالمركزية: لطالما اتهم أردوغان بمحاولة تركيز السلطة حوله، وتحصين نفسه من أي تهديد لإزاحته عن السلطة.
– علاقته مع الغرب: علاقة أردوغان بقادة الغرب، يسودها توترات على كافة الأصعدة، بدءًا من بريطانيا التي تصوت بالرفض لدخول تركيا الإتحاد الأوروبي مرة تلو أخرى، مرورًا بأمريكا التي إختارت الوقوف في منطقة الحياد وعدم إبداء رأي حول ما يحدث، كما فعلت ألمانيا وغيرها من دول الإتحاد الأوروبي، والتي إنتظرت حتى ينتهي الموقف وتتشكل ملامحه لتبدي رأيها، وتدين ما يحدث وتعلن رفضها للإنقلاب بعد أن ترنح وسقط.
– الحياة العلمانية: تركيا من الدول المحيرة لكثيرين، هل هى علمانية ؟ أم دولة إسلامية؟ وذلك بسبب أن القيادة إسلامية في حين أن الحياة اليومية والقيم والطابع الغالب للدولة تيار علماني، هذا التضاد ظن أردوغان أنه بإمكانه تغييره ففرض القيم الإسلامية من خلال بعض القوانين، ومحاولة تحويل مسار الدولة من علمانية إلى إسلامية، جعل البعض يتأفف منه ومن حكومته.
شعب واعي .. ومعارضة ناضجة .. وشرطة في خدمة الشعب
ببساطة شديدة كان فشل الإنقلاب نتيجة لهذه المعادلة: شعب واعي + معارضة ناضجة + وشرطة في خدمة الشعب حقًا .
بمجرد ما لجأ أردوغان للشعب، إملتئت الشوارع وإكتظت بالمؤيدين والمعارضين معًا، وجنبًا إلى جنب، حيث كان هدفهم واحد وهو الحفاظ على إستقرار الدولة، خاصًة أن الشعب التركي عانى كثيرًا من الإنقلابات، وذاق ويلات من الحكم العسكري لسنين، وهو ما دفعه للوقوف أمام انقلاب تركيا العسكري، حفاظًا على الديمقراطية وعلى حريته في الإختيار.
أما بالنسبة للمعارضة فتغاضت عن كرهها ورفضها لأردوغان وحزبه، وقررت عدم الإنسياق وراء العسكر، ليس حفاظًا على أردوغان نفسه، بل حفاظًا على الحرية والديمقراطية التي تمتع بها البلاد، والتي ستندثر وتخبو ما أن يتولى العسكر الحكم، وفقًا لما عاشوه في الماضي في ظل إنقلابات متتالية، والتي كان آخرها في عام 1997، بإختصار أثبتت المعارضة ناضجة بما يكفي، بترك خلافها مع أردوغان، وعدم إستغلال الموقف لإزاحته والفتك بحزبه ودعم انقلاب تركيا العسكري، حيث إختارت مصلحة البلاد أولًا ومصلحة الشعب الذي تمثله بصورة أو أخرى.
ما الذي سيترتب على هذه محاولة انقلاب تركيا الفاشلة ؟
بالتأكيد لفشل انقلاب تركيا العسكري نتائج كثيرة، أهمها ستتخذ الحكومة التركية إجراءت سريعة وصارمة لمحاسبة القائمين، حيث تعهد أردوغان بتطهير الجيش ومعاقبة التورطين في الإنقلاب، وحتى الآن تم إقالة أكثر من ألفين قاضي، بالإضافة إلى عشرات الضباط المشاركين، أيضًا من المتوقع زيادة نفوذ حزب التنمية والعدالة، وزيادة المؤيدين له بعد فشل الإنقلاب، وبالتأكيد إزدياد شعبية أردوغان، بإختصار؛ فشل انقلاب تركيا العسكري صب في صالح أردوغان من كل النواحي.