الذاكرة هي مفتاح هويتنا وشخصيتنا، إنها المكوّن لما نحن عليه، ومن دونها نصبح سجناء للحاضر، غير قادرين على الاستفادة من دروس الماضي لنغيّر مستقبلنا.
يعتقد معظم الناس أنهم يفهمون ما هي الذاكرة، لكن تبيّن أنها واحدة من أعقد الألغاز في عصرنا. لا أحد حتى يومنا هذا استطاع الوصول إلى فهم ماهية الذاكرة، لكن الأبحاث في هذا المجال لا تتوقف، ولا تلبث أن تخطو خطوتها الأولى على طريق الألف ميل.
نكرر يومياً عبارات مثل “أنا أتذكر …” و”هل تتذكر؟”
فنحن نحتاج للذاكرة في كل تفصيل من تفاصيل حياتنا اليومية، من تذكرنا أين وضعنا مفاتيح المنزل إلى استعادة معلومات الدراسة. ويخزن دماغنا مختلف أنواع الذكريات التي مررنا بها سعيدةً كانت أم حزينةً، قديمةً أم حديثةً (أول يوم لنا في المدرسة، الغداء الذي تناولناه اليوم).
لكننا جميعنا نمتلك أشياءً في ماضينا نود أن ننساها ونعتبرها وكأنها لم تحدث، من انفصالٍ عن أشخاصٍ أحببناهم إلى فقد شخصٍ عزيزٍ …، ومهما حاولنا فعل ذلك نجد أن تلك الذكريات تطاردنا ولا نستطيع الهروب منها.
هل وصلنا إلى اليوم الذي أصبحنا قادرين فيه -بكبسة زر- على إعادة كتابة ماضينا؟ هل أصبحنا قادرين على تعديل ذكرياتنا وحذف أكثر الأشياء مزعجة لنا!؟ هل هي كما يقول البعض أنها مسألة وقتٍ فقط لنصبح قادرين على ذلك!؟
لقد طُرحَت فكرة التلاعب بالذاكرة البشرية في العديد من قصص وأفلام الخيال العلمي، ولعل أبرز مثال على ذلك هو فيلم “Eternal Sunshine of the Spotless Mind” الذي طرح فكرة محو الذكريات المؤلمة من حياتنا باستخدام بعض الأجهزة المتطورة التي تمكننا من التلاعب بكهرباء دماغنا ونسيان ما يزعجنا.
وبعيداً عن الخيال العلمي -ولنكن واقعيين- لم يتصور أحدٌ منا حدوث ذلك على الأقل في المستقبل القريب، لكن العلماء قد بدؤوا، بخطواتٍ جبارةٍ في هذا المجال.
كان الاعتقاد السائد أن الذاكرة هي شيءٌ ثابتٌ غير قابل للتعديل، متى تعرضنا لحدثٍ ما فإنه يخزّن في ذاكرتنا طويلة الأمد ونستعيده متى أردنا. بمعنى آخر، كان يُعتقد أن الذاكرة عبارة عن مكتبة وكل ذكرى جديدة نضيفها هي عبارة عن كتاب جديد نضيفه، ومتى أردنا استعادة هذه الذاكرة فإننا نرجع إلى ذاك الكتاب.
مصفوفةٌ حقائبي على رفوف الذاكرة.“ – أمل دنقل
لكن الدراسات الجديدة في هذا المجال أظهرت أن الذاكرة ليست كما اعتقدنا. في الحقيقة، وفي كل مرةٍ نسترجع فيها ذاكرةً ما، فإننا نجعل تلك الذاكرة قابلة للتغيير أكثر ونضفي عليها أشياءً جديدةً. حيث وجد العلماء أن الذاكرة ليست محفورةً من الصخر، وإنما مكتوبةٌ على الرمال، سهلة التغيير.
توجد الذاكرة، وكما هو معروف، في منطقة من الدماغ تدعى “الحصين”، تخزن هذه المنطقة المعلومات (الحقائق) المتعلقة بالذاكرة، أما المشاعر المرتبطة بالذاكرة فإنها مبعثرة في الدماغ من القشر الحركي والقشر الحسي إلى القشر السمعي وغيره.
للحصول على فكرة أوسع عن شكل الحصين وبنيته يمكنك زيارة الرابط التالي حيث استخدمت وسائل تكنولوجية حديثة في تلوين خلايا الحصين فأصبح شبيهاً بقوس القزح فيما يُعرف بـ “Brainbow”.
فإذا استطعنا التعديل على خلايا الدماغ التي تحتوي على الجانب العاطفي من الذاكرة واعتراضها، يمكننا تحويل الذكريات الحزينة إلى مفرحة والعكس بالعكس.
قام علماء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT بتعديل ذاكرة الفئران في تجاربهم مستخدمين علم البصريات الوراثي “Optogenetics”، ومن ثم استطاعوا زراعة ذاكرة خاطئة في دماغها مستخدمين التقنية ذاتها.
الخطوة القادمة كانت من قبل علماء في هولندا، والذين استطاعوا إزالة رهاب العناكب لدى المشاركين في دراستهم.
حيث أظهرت الدراسات المتعاقبة أن تثبيط مادة النورابينفرين، الموجودة في الدماغ، والتي تسيطر في حالات الشدة النفسية والكروب، بإمكانه إزالة الجانب السلبي المرتبط بالذاكرة وتفريغها من محتواها العاطفي السيء، مما يساعد على إزالة الخوف أو الحزن المرتبط بذاكرةٍ ما ولكن فقط عند تفعيل تلك الذاكرة.
وهذا ما قام بها العلماء في جامعة أمستردام مستخدمين دواء لتثبيط تلك المادة (النورابينفرين).
حيث وضعوا أمام المشاركين قفصاً يحوي عنكبوت، وذلك لتفعيل ذاكرة الرهاب لديهم وجعلها قابلةً للتعديل، والذين استجابوا لذلك سواءً بالتعرق الشديد أو بارتفاع معدل ضربات قلبهم، ثم أعطوهم الدواء. وكانت النتائج مذهلةً حقاً، فخلال فترةٍ وجيزةٍ أصبحوا قادرين على لمس العنكبوت وحمله، ولم يعد عندهم ذلك الخوف، حتى بعد سنةٍ من التجربة، وكأن ذاكرة الخوف لديهم قد مُسِحَت بالكامل!
تظهر الصورة يد مشاركة في الدراسة السابقة في جامعة أمستردام بعد ما حذف ذاكرة الخوف منها – من وثائقي Memory Hackers.
يعتقد البعض أنّنا لسنا سوى قطعٍ من الذكريات المتراكمة على مرّ السنين، كلوحة “البزل – puzzle” التي تشكلها القطع الصغيرة وإذا غابت إحدى القطع غاب معها جزءٌ من هوية اللوحة وماهيتها.
إن ذلك يطرح سؤالاً هاماً: هل عملية حذف الذكريات هي عملية خالية من المخاطر، وخصوصاً أنها تمحي جزءاً من شخصية الفرد؟
من المؤكد أنّ إزالة الذكريات المؤلمة من حياتنا هو أمرٌ في غاية الأهمية، وخصوصاً بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من المشاكل النفسية التالية للصدمات التي مروا بها في حياتهم فيما يعرف باضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية PTSD أو غيره. وخصوصاً في هذه الظروف التي يمر بها الوطن العربي من حروبٍ وصراعاتٍ، والتي ستترك حتماً آثاراً نفسيةً مدمرةً على الأجيال.
“النسيان شكل من أشكال الحرية.“ – جبران خليل جبران
فكم هو رائع أن يستيقظ أحدنا ولا يتذكر أيُّ شيء من الأحداث المريعة التي شهدها؟ لكن الأمر ليس بتلك البساطة فهناك عوامل عدة تتدخل بالموضوع.
لنفكر بالجانب الآخر من الموضوع، الجانب المظلم، ولن نتحدث عن وضع هكذا تقنية بين يدي الأشخاص غير الصالحين، فذلك موضوع لا يحتاج للنقاش، فآثاره الكارثية على الحياة الإنسانية واضحةً جليةً (من غسيل الدماغ إلى غيرها من التطبيقات الخطيرة الأخرى).
لكن لنفترض حسن النية عند “المستخدم” لهذه التقنية، وأنه يريد مساعدة الناس الذين لديهم ذكريات محزنة بالفعل، فإن محو الذاكرة ربما يتسبب بما يعرف بـ “تشرذم الذات” أي تبديل الشخصية والسلوك، كما هو الحال في العديد من الأمراض الدماغية المعروفة التي تسبب فقدان الذاكرة. إن هذا التغير المفاجئ في الشخصية يختلف كل الاختلاف عن التبدل الذي تخضع له شخصيتنا من خلال التجارب المختلفة على مر السنين، وهو مجالٌ لم نكتشف نتائجه بعد.
وللتعمق أكثر بالموضوع، بعض الباحثين يعتبرون أنّ الصدمة النفسية القوية ستترك ذاكرةً ذات مشاعر محفورة عميقاً في عقلنا الباطن، وأنً مسح الذاكرة من عقلنا الواعي سيغدو سطحياً كما الجلد من الجسم تاركاً الصدمة على حالها دون تغيير.
ويمكن لأحدهم القول، إنّ العبث بالمشاعر المرتبطة بذاكرةٍ ما ومحوها، سيجعلنا نقع في نفس الظروف مجدداً لكن من دون “جرس” المشاعر المنذر بالخطر المحدق، والذي يساعدنا على التأقلم مع التجارب القادمة المختلفة.
“بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان.” – محمود درويش
وبالنهاية، إنّ فهم الذاكرة هو شيء يطمح له الإنسان منذ وجوده، وحتى أيامنا هذه لا يوجد تصورٌ واضحٌ عن ماهية الذاكرة وإنما كما وجدنا في طيات هذه المقالة ما زالت في طور التأسيس. فلا ندري إذا ما كانت الذاكرة مثل العاصفة، عندما تستيقظ فلا أحد يستطيع إيقافها فتجرف كل شيء في طريقها بلا رحمة، أو أننا فعلاً أصبحنا قادرين على توجيه هذه العاطفة وتعديلها بما يتلاءم مع احتياجاتنا. ولكن الموازنة بين ما نجنيه وما نخسره من تعديل الذاكرة هو أمرٌ عائدٌ لنا نحن، الموجودين في هذا الزمان، لنقارن إيجابيات هذا الموضوع بالنسبة للفرد إلى سلبياته بالنسبة للمجتمع ككل. ويبقى السؤال: ما الذي سيحدث لهويتنا، ووعينا، وإلى جوهر كينونتنا في حال امتلاكنا هذه التقنية وكانت متوفرة متى شئنا كما في الخيال العلمي؟ لندع الزمن يخبرنا بذلك.