يسيطر الحزبان الجمهوري والديمقراطي على المشهد السياسي في الولايات المتحدة، ويضفيان معا ثنائية حزبية على الحياة السياسية الأميركية رغم وجود أحزاب أخرى في البلاد كحزب الخضر والحزب الدستوري والحزب الليبرالي.
تاريخيا، توجس القادة الأميركيون الأوائل من الحياة الحزبية بشكل عام ومن نظام الحزبين بشكل خاص، حتى قال توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة "إن لم يكن في استطاعتي دخول الجنة إلا برفقة حزب، فإنني لا أفكر في الذهاب إلى هناك أبدا"، لكن الأميركيين وجدوا أنه لا مفر من الحياة الحزبية لتنشيط الديمقراطية الأميركية في نهاية المطاف.
وشهد المؤتمران الحزبيان القوميان للجمهوريين والديمقراطيين هذه المرة تدافعا غير مسبوق كشف عن انقسام حقيقي داخل الحزبين الكبيرين في البلاد، ما قد يهدد بتفكك الثنائية الحزبية الأميركية التي استمرت لعقود.
فالمرشح الجمهوري المحتمل السابق تيد كروز قطع أميالا من مقر إقامته في ولاية تكساس إلى ولاية أوهايو ليلق خطابا يدعو فيه الناخب الجمهوري إلى تحكيم ضميره خلال عملية التصويت في الانتخابات الرئاسية، وهو الأمر الذي اعتبر خروجا عن أعراف الحزب ورفض دعم مرشحه بشكل صريح كما جرت العادة.
المشهد نفسه تكرر وإن بصورة مغايرة في المؤتمر القومي للحزب الديمقراطي، فأنصار المرشح المحتمل السابق بيرني ساندرز رفضوا دعوته لهم دعم هيلاري كلينتون باعتبارها مرشحة الحزب في انتخابات الرئاسة، مؤكدين أن محاباة قيادة الحزب المركزية لكلينتون والتي أظهرتها نصوص رسائل إلكترونية سربها موقع ويكليكس، تدلل على أنها لا تستحق بطاقة ترشح الحزب.
ويشير المشهدان الحزبيان إلى صورة من صور التداعي التدريجي للمركزية الشديدة التي حظي بها الحزبان في شحذ همم الناخبين الأميركيين منذ تأسيسهما في ظل انقسام حزبي على مرشح كل منهما للرئاسة. وتقول استطلاعات الرأي التي أجراها معهد "بيو" للأبحاث عقب سباق الانتخابات التمهيدية للحزبين إلى أن درجة استعداد قواعدهما لدعم مرشحين مناوئين لمرشحهم الخاسر في الانتخابات التمهيدية تصل إلى أربعين في المائة فقط، وهي النسبة الأقل مقارنة بالسباقات الرئاسية الماضية.
ويشير "بيو" إلى إمكانية اتجاه هؤلاء لدعم مرشح مستقل أو عدم التصويت في انتخابات الثامن من نوفمبر المقبل. وهو الأمر الذي يذكر بمراحل تعرض فيها الحزبان لشروخ وانقسامات تم احتواؤها.
الحزب الجمهوري واحتواء "حزب الشاي"
تعود حركة حزب الشاي القديم إلى عام 1773 الذي اشتعل فيه فتيل احتجاج شعبي نفذه أميركيون ضد ضرائب فرضها البرلمان البريطاني على الشاي المستورد إلى المستعمرات الأميركية، وقاموا خلاله بالاستيلاء على ثلاث سفن بريطانية في ميناء بوسطن، ورموا صناديق الشاي في المياه، ليشعلوا بذلك شرارة الثورة الأميركية أو حرب الاستقلال ضد الاستعمار البريطاني.
وفي محاكاة لذلك أعاد أعضاء بارزون في الجناح المحافظ المتشدد للحزب الجمهوري الحياة لحزب الشاي عام 2009، بعد فوز الرئيس باراك أوباما بالرئاسة، إذ دعوا إلى حركة احتجاجية داخل التيار المحافظ في البلاد بعد فشل قيادة الحزب الجمهوري في الدفاع عن السياسات المحافظة، كمنع زيادة الضرائب على الأغنياء وتقليل نفقات الحكومة الفيدرالية، ووقف المساعدات الخارجية.
لكن هذه الحركة التي بدأت في الصعود شيئا فشيئا داخل أروقة الحزب الجمهوري تم احتواؤها من قيادات الحزب وجرى الدفع برموزها إلى صدارة المشهد السياسي، عبر ترشيح سارة بالين وبول راين في منصب نائب الرئيس على بطاقتي ترشح جون ماكين وميت رومني للرئاسة.
ويرى أي جي ديون، الكاتب في صحيفة واشنطن بوست أن الحزب الجمهوري يشهد حركة تمرد من قواعده ضد المركزية الحزبية، وقد وجد هذا التمرد ضالته في دونالد ترمب الذي يستخدم خطابا مناهضا للنظام السياسي الحزبي المتصلب الذي يرفض الحديث بصراحة مطلقة عن السياسات اليمينية المتشددة ونزعة تفضيل البيض، خوفا من خسارة الأقليات التي تمثل ثلث الكتلة الانتخابية في انتخابات الرئاسة المقبلة.
ويشير ديون إلى ابتعاد أعضاء الكونغرس الأميركي من الجمهوريين عن اظهار الدعم العلني لترمب ومواقفه خوفا من خسارة مقاعدهم في مجلسي الشيوخ والنواب. وينظر ديون إلى سخط أتباع الحزب الجمهوري علي خطاب الحزب السياسي، باعتباره نذير تفكك مستقبلي، فقد ينشأ تيار يميني متشدد يصعب احتواؤه كما جرى مع حزب الشاي الجديد ويتسبب ذلك في الانفصال الحتمي.
وقد أظهرت قيادات الحزب الجمهوري تخوفا شديدا من خروج ترمب عن الحزب وترشحه مستقلا وسحبه كتلة تصويتيه كبيرة من القواعد الحزبية، وهو الأمر الذي دفعهم للتسليم به كمرشح عن الحزب بالنظر إلى ملايين الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات التمهيدية سواء من الناخبين الحزبيين الأصليين أو المنضمين الجدد الذي قدروا بمئات الألاف ممن وجدوا في خطاب ترمب المتشدد محفزا على التصويت للحزب الجمهوري.
"ثورة ساندرز" وشباب الحزب الديمقراطي
" الانتخابات تذهب وتعود، لكن الثورة باقية" هكذا ختم ساندرز مشاركته في مؤتمر الحزب الديمقراطي بعد تسليمه بفوز غريمته هيلاري كلينتون ببطاقة الترشح عن الحزب. لكن كتلة ساندرز التصويتية التي يمثل فيها الشباب نحو ستين في المائة وفق استطلاعات الرأي هددت بعدم التصويت لكلينتون بل ووضعوها في نفس كفة ترمب.
ويشهد الحزب الديمقراطي حركة داخلية مناهضة لتماهي قيادات الحزب مع المنظومة الرأسمالية التي أصبحت تسيطر على السياسة في الولايات المتحدة بعد قرار المحكمة الدستورية العليا الأميركية السماح بالتمويل المالي للحملات الانتخابية بلا سقف محدد. ويقول سام فلوود الباحث في مركز التقدم الأميركي إن اختيار كلينتون لتيم كين سناتور فرجينيا المعروف بليبراليته المركزية، مع اغفال التيار اليساري الكبير داخل الحزب الذي وضع ثقله خلف بيرني ساندرز، أثار حفيظة مؤيدي ساندرز.
ورغم تسليم فلوود بأن تيار اليسار المتنامي داخل الحزب الديمقراطي مازال في بدايته، إلا أنه يرى أن الاستقطاب السياسي الذي تعيشه البلاد بعد فترتي حكم الرئيس أوباما وتقويض الجمهوريين لخطواته السياسية عبر وضع العراقيل من خلال سيطرتهم على الكونغرس، قد يدفع بهذه الحركة الشبابية اليسارية إلى البحث عن طريق مختلف عن نهج المركزية الحزبية بالخروج عن الإطار التنظيمي وربما تشكيل حزب جديد.
www.skynewsarabia.com