جريدة المواطن
(أحمد جعفر) جندي مجهول في إنفجار مكتب هيئة النزاهة
بقلم/ د. ميرزا حسن دنايي
لقد اعتدت منذ ثمانية أعوام، كلما زرت العراق، أن أرى دموع الأسى والمرض على وجوه أطفال أبرياء، كان ذنبهم الوحيد انهم خلقوا من رحم عراقي وعاشوا هاهنا، حيث ساحات الوغى وويلات الحروب. واذا كانت حياة الغربة عودتني على السكينة والأمان، فقد اعتدت ايضا أصوات البارود والانفجار، وسمعت صيحات الموت القريب في بلادي.
ولكن انفجار الخميس الماضي، لم يكن فقط دوي انفجار. ففجأة وأنا اتجول في احدى زقاقات الجادرية، أحسست بحزن ينتابني مثل جرعة سم ٍ قاتلة. ومع نشر أول شريط اخباري في التلفاز عرفت ان إحدى العمليات الارهابية إستهدفت مكتب هيئة النزاهة في الكرادة.
فهرعت الى هاتفي الجوال لأبحث عن رقم معين، لم اجده. سارعت الى ارشيف الكومبيوتر، فلم أجد ضالتي، وصار القلق يتحكم بذهني ومشاعري، وصرت اسأل الاصدقاء عن تفاصيل الانفجار وضحاياه، دون ان يأتيني الجواب الذي أريد.
لم اكن اتذكر مكان المكتب جيدا ً، فأنا إبن قرية صغيرة من سنجار ولا أعرف من بغداد سوى المنطقة الخضراء. والمرة الوحيدة التي زرت فيها الهيئة، كانت قبل عام ونصف، حين قدمت معاملة روتينية. فارشدوني الى غرفة صغيرة متواضعة في الطابق الاول يشترك فيها عدة موظفين. تسلم أحد المحققين مستمسكاتي، عرفت إن إسمه (أحمد). كان شابا في الثلاثينيات بشوشا ً لطيفا ً يتحدث الي بهدوء. وكان من ذلك النوع الذي تراه مرة واحدة، وتتصور انك تعرفه منذ الطفولة. وتحس انه يدخل قلبك دون أن تدري، ويأخذ حيزا ً من ذاكرتك ويخلد نفسه فيها. وإلا كيف لي وأنا التقي بعشرات الغرباء في اليوم أن أتذكره لحد الأن.
لا أعرف إن كان أحمد شيعيا ً أم سنيا ً، إن كان يحمل شارة الحسين أم يمجد عائشة. لكنه كان إنسانا ً من نوع ٍ خاص، ترتاح وأنت تنظر إليه، وتفرح وأنت تحاوره، تبتسم لإبتسامته وكأنه صديق قديم. كان يسرع هنا وهناك لكي يكمل معاملات الناس. يلتف حوله الزملاء ليدل هذا ويرشد ذاك. واقول الحقيقة، أحسست أنه كان المكان الوحيد الذي يعمل فيه الموظف العراقي بإجتهاد، دون أوراق جرائد متناثرة أو أجهزة تلفاز تلهيه عن الواجب.
لا أتذكر ملامح (أحمد) حتى. ولكن صوت الانفجار أعاده الى ذهني وأحرق قلبي عليه، فصرت أواصل البحث عن وسيلة لأعرف مصيره. بالأمس فقط تذكرت أن أحد معارفه إستنجد بي لكي أساعده في علاج طفلة مريضة من خلال برنامجنا الانساني لمعالجة أطفال العراق. فقررت أن اراسل هذا الشخص لأطمئن على ذلك الانسان النبيل ومصيره من الانفجار.
وليتني لم أسأل؟! فالجواب لم يكن سوى نصف سطر، لاشك أن كاتبه كان منشغلا بالدموع وهو يكتب : " يؤسفني أن أبلغك بأن الاستاذ احمد جعفر استشهد في الانفجار".
حتى أنا لم أستطع أن أسيطر على دموعي وهي تنهمر فأكرر قراءة السطر بجنون مرة وإثنتين وثلاثة، لعلي أستطيع أن أفهم كلاما ً آخر، أو تفسيرا ً آخر. بل كأنني لا أريد أن أرى الحقيقة؟!!
ربما لم يكن أحمد من أقاربي ولا من أصدقائي ولا من مللتي وديني، ولم ألتقي به سوى مرة واحدة، لكنني أحسست أنني فقدت شيئا ً عزيزا ً. وصرت أتساءل منذ وهلة قراءة الخبر الحزين: إذا كنت أنا عابر سبيل غريب أحب الشهيد (أحمد) هكذا، فكيف تعيش أسرته اليوم ساعات فراقه؟!! وإن كان متزوجا ً أو أبا ً لأطفال، كيف سينهضون في صباح كل يوم ولن يجدوه بينهم؟! وإن كان له أصدقاء كيف ستحلو الصحبة من دونه؟!!
بل يا ترى كم (أحمد) غاب عنا على أيدي المجرمين والقتلة ؟! وكم جنديا ً مجهولا ً مثله أخذتهم عبوات وسيارات الموت من هنا وهناك؟!! ومن يتحمل مسؤولية كل هذه التضحيات والخسائر، نحن أم قياداتنا السياسية، أم مدرسة التطرف والارهاب التي يغذيها هذا الطرف أو ذاك؟ أم ناس من كوكب آخر؟!!
أنا لله وأنا اليه راجعون ..