الدنيا حلوة خضرة، والنفوس البشرية جُبلت على حُبها، لكن حينما يُسيطر حبُّ الدنيا على القلوب، ويكره المسلمون الموت في سبيل الله؛ كأنهم الغثاء الذي يحمله السيل؛ إذا توجَّه السيل شرقًا شرَّقوا معه، وإذا توجَّه غربًا غرَّبوا معه، حينها ينزع الله مهابتهم من قلوب أعدائهم.
كانت المسافة بين الفرقة التترية الصغيرة –التي خرجت في طلب محمد بن خُوارِزم شاه بعد فراره من جند التتار- وبين القوَّة الرئيسية لجنكيزخان في «سمرقند» تزيد على ستمائة وخمسين كيلومترًا؛ هذا في الطرق السوية والمستقيمة، فإذا أخذت في الاعتبار الطبيعة الجبلية لهذه المنطقة، وإذا أخذت في الاعتبار -أيضًا- الأنهار التي تفصل بين «سمرقند» ومنطقة بحر قزوين والتي كانت تُعتبر من العوائق الطبيعية الصعبة، إضافة إلى أن التتار ليسوا من سكان هذه المناطق ولا يعرفون مسالكها ودروبها وطرقها الفرعية؛ كل ذلك إلى جانب العداء الشديد الذي يكنه أهل هذه المناطق المنكوبة للتتار.
إذا أخذت كل ما سبق في الاعتبار فإنك تعلم أن جيش التتار أصبح مقطوعًا عن مدده في «سمرقند» بصورة كبيرة، وأصبح في موقف حرج لا يُحسد عليه بالمرَّة! وهو ليس بالكبير العدد؛ إنما هو عشرون ألفًا فقط، فإذا أضفت إلى كل الاعتبارات السابقة الكثافة السكانية الإسلامية الهائلة في تلك المناطق؛ أدركت أن فرقة التتار ستهلك لا محالة؛ فلو خرج عليها أهل البلاد -وقد تجاوزوا الملايين بلا مبالغة- فإن التتار لا يقدرون عليهم بأي حال من الأحوال.
كان هذا هو تحليل الورقة والقلم.. فماذا حدث على أرض الواقع؟!
لقد شاهدنا أمرًا عجيبًا مخزيًا مشينًا!
لقد دبَّت الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين، وتعلَّقُوا بدنياهم الذليلة تعلُّقًا لا يُفهم، ورضوا أن يبقوا في قُراهم ومدنهم ينتظرون الموت على أيدي الفرقة التترية الصغيرة!
روى أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فقال قائل: ومن قِلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ؛ وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». فقال قائل: يا رسول الله وما الْوَهَنُ؟ قال: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ»[1].
لقد سيطر حبُّ الدنيا على القلوب، وكره المسلمون الموت في سبيل الله؛ فأصبحوا كالغثاء الذي يحمله السيل، لا رأي ولا هدف ولا طموح، ونزع الله عز وجل مهابة المسلمين من قلوب التتار؛ فما عادوا يكترثون بالأعداد الغفيرة، وألقى في قلوب المسلمين الوهن والضعف والخور؛ حتى كانت أقدام المائة من المسلمين لا تقوى على حملهم إذا واجهوا تتريًا واحدًا! ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!
ماذا فعلت الفرقة التترية الخاصة؟:
لقد عادوا من شاطئ بحر (قزوين) إلى بلاد «مَازَنْدَرَان» (في إيران) فملكوها في أسرع وقت، مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها، وكانت من أشدِّ بلاد المسلمين قوَّة؛ حتى إن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة جميعها من العراق إلى أقاصي خراسان أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يستطيعوا أن يدخلوا مَازَنْدَرَان، ولم تُدخل إلاَّ في زمان سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي المعروف؛ ولكن التتار دخلوها بسرعة عجيبة، لا لقوَّتهم ولكن لضعف نفسيات أهلها في ذلك الوقت، ولما دخلوها فعلوا بها ما فعلوه في غيرها، فقتلوا وعذَّبُوا وسبوا ونهبوا وأحرقوا البلاد[2].
ثم اتجهوا من مَازَنْدَرَان إلى الرَّيّ (مدينة إيرانية كبيرة)، وسبحان الله! وكأنَّ الله عز وجل قد أراد أن يُتِمَّ الذلَّة لمحمد بن خُوارِزم شاه حتى بعد وفاته؛ فإن التتار وهم في طريقهم من مَازَنْدَرَان إلى الرَّيّ وجدوا في طريقهم والدته ونساءه ومعهم الأموال الغزيرة والذخائر النفيسة التي لم يسمع بمثلها، فأخذوا كل ذلك سبيًا وغنيمة، وأرسلوه من فورهم إلى جنكيزخان المتمركز في «سمرقند» آنذاك[3].
ثم وصل التتار إلى الرَّيّ فملكوها ونهبوها، وسبوا الحريم، واسترَقُّوا الأطفال، وفعلوا الأفعال التي لم يُسمع بمثلها، ثم فعلوا مثل ذلك في المدن والقرى المحيطة، حتى دخلوا مدينة قزوين (من المدن الإيرانية أيضًا) واقتتلوا مع أهلها في داخل البلد، وقتلوا من أهل قزوين المسلمين ما يزيد على أربعين ألفًا[4]! ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!
اجتياح أَذْرَبِيجَان:
اتجه التتار إلى غرب بحر قزوين حيث إقليم أَذْرَبِيجَان المسلم.
مرَّ التتار في طريقهم على مدينة تبريز (كانت مدينة أَذْرَبِيجَانية في ذلك الوقت؛ بينما هي الآن من مدن شمال إيران)، فقرَّر زعيم أَذْرَبِيجَان «أوزبك بن البهلوان[5]» -وكان يستقرُّ في مدينة تبريز- أن يُصالح التتار على الأموال والثياب والدوابِّ، ولم يُفَكِّر مطلقًا في حربهم؛ لأنه كان لا يفيق من شرب الخمر ليلًا أو نهارًا! ورضي التتار منه بذلك[6]، ولم يدخلوا تبريز لأن الشتاء القارس كان قد حلَّ، وتبريز في منطقة باردة جدًّا، فاتجه التتار إلى الساحل الغربي لبحر قزوين، وبدءوا في اجتياح الناحية الشرقية لأَذْرَبِيجَان متجهين ناحية الشمال[7].
اجتياح أرمينيا وجورجيا:
هذان الإقليمان يقعان في غرب وشمال أَذْرَبِيجَان، وقد اتجهوا إليهما قبل الانتهاء من كل مدن أَذْرَبِيجَان؛ لأنهم سمعوا بتجمُّع قبائل «الكُرْج» لهم، وقبائل الكُرْج هي قبائل وثنية ونصرانية تقطن في منطقة جورجيا الروسية، وكان بينهم وبين المسلمين قتال دائم، وقد علموا أن الخطر يقترب منهم؛ فتجمَّعُوا في مدينة تَفْلِيس (في جورجيا الآن)، وحدث هناك قتال طويل بينهم وبين التتار انتهى بانتصار التتار وامتلاك أرمينيا وجورجيا، وقُتل من الكُرْج ما لا يُحصى في هذه الموقعة[8].
ماذا فعل جنكيزخان في سنة 617 هجرية بعد مطاردة «محمد بن خُوارِزم شاه»؟
بعد أن اطمأنَّ جنكيزخان إلى هروب «محمد بن خُوارِزم شاه» زعيم البلاد في اتجاه الغرب، وانتقاله من مدينة إلى أخرى هربًا من الفرقة التترية المطاردة له، بدأ جنكيزخان يبسط سيطرته على المناطق المحيطة بسمرقند، وعلى الأقاليم الإسلامية الضخمة الواقعة في جنوب «سمرقند» وشمالها.
وجد جنكيزخان أن أعظم الأقاليم وأقواها في هذه المناطق: إقليم خُوارِزم وإقليم خراسان؛ أمَّا إقليم خراسان فإقليم شاسع به مدن عظيمة كثيرة مثل بلخ ومرو ونيسابور وهراة وغزنة وغيرها؛ (وهو الآن في شرق إيران وشمال أفغانستان).
وأمَّا إقليم خُوارِزم فهو الإقليم الذي كان نواة للدولة الخُوارِزمية، واشتهر بالقلاع الحصينة والثروة العددية والمهارة القتالية، وهو يقع إلى الشمال الغربي من «سمرقند»، ويمرُّ به نهر جيحون (وهو الآن في دولتي أوزبكستان وتركمنستان)؛ ولكن جنكيزخان أراد القيام بحرب معنوية تُؤَثِّر في نفسيات المسلمين قبل اجتياح هذه الأقاليم العملاقة؛ فقرَّر البدء بعمليات إبادة وتدمير تبثُّ الرعب في قلوب المسلمين في الإقليمين الكبيرين خُوارِزم وخراسان، فأخرج جنكيزخان من جيشه ثلاث فرق:
1- فرقة لتدمير إقليم «فَرْغَانَة»[9] (في أوزبكستان الآن)، وهو على بُعد حوالَي خمسمائة كيلومتر إلى الشرق من «سمرقند».
2- فرقة لتدمير مدينة «ترمذ»[10] (في تركمنستان الآن)، وهي مدينة الإمام الترمذي (ت279هـ) صاحب السنن، على بُعد حوالَي مائة كيلومتر جنوب «سمرقند».
3- فرقة لتدمير قلعة «كلابة»[11]؛ وهي من أحصن قلاع المسلمين على نهر جيحون.
وقد قامت الفرق الثلاث بدورها التدميري كما أراد جنكيزخان؛ فاستولت على كل هذه المناطق، وأعملت فيها القتل والأسر والسبي والنهب والتخريب والحرق، مثلما اعتاد التتار أن يفعلوا في الأماكن الأخرى، ووصلت الرسالة التترية إلى كل الشعوب المحيطة: إن التتار لا يرتوون إلاَّ بالدماء، ولا يسعدون إلاَّ بالخراب والتدمير، وإنهم لا يُهزمون. فعمَّت الرهبة منهم أرجاء المعمورة، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!
ولما عادت هذه الجيوش من مهمَّتها القبيحة بدأ جنكيزخان يُعِدُّ للمهمَّة الأقبح؛ بدأ يُعِدُّ لاجتياح إقليمي خراسان وخُوارِزم، وهو ما سنتكلم عنه في المقال القادم بإذن الله .
[1] أبو داود: كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام (4299) وقال الألباني: حديث صحيح.
[2] ابن كثير البداية والنهاية 13/105.
[3] ابن كثير: البداية والنهاية 13/105.
[4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/408، 409.
[5] أوزبك بن البهلوان: السلطان، مظفر الدين، أوزبك بن محمد البهلوان بن إلدكز، عظم أمره لما قُتل طغرل آخر سلاطين السلجوقية، وامتدَّت أيامه، وكان منهمكًا في الشرب واللذات، فنازلته المغول (التتار)، فصانعهم، وبذل لهم الأموال، فسكتوا عنه، ثم ضايقوا الخوارزمية، وقالوا له: اقتل من عندك من الخوارزمية. ففعل، ثم دهمه خوارزم شاه جلال الدين في سنة اثنتين وعشرين، واستولى على أذربيجان، فهرب أوزبك إلى كنجة، ثم هرب أوزبك إلى بعض القلاع، وهلك، وتلاشى أمره. الذهبي: سير أعلام النبلاء 22/190.
[6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/ 346.
[7] الذهبي: العبر في خبر من غبر 3/172.
[8] ابن كثير: البداية والنهاية 13/105.
[9] ابن كثير: البداية والنهاية 13/107.
[10] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 5/521.
[11] المرجع السابق.
د/ راغب السرجاني