علي الأكبر (عليه السلام) في سطور
تعوّدنا الاختلاف في الروايات المدوّنة حول كثير من الاُمور التاريخيّة , ووفق هذهِ العادة الملحوظة يأتي الكلام عن زمن ولادة عليّ الأكبر (عليه السّلام) .
أمّا مكان ولادته فهو المدينة المنوّرة ، من دون مبرر للشك والاختلاف في ذلك , اللهّم إلاّ إذا اعتبرنا ولادته في عهد خلافة الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) ، فحينئذٍ تكون ولادته في مدينة الكوفة ، لا سيما وقد كان الإمام الحسين (عليه السّلام) مقيماً فيها يومذاك .
فزمن ولادته هو في خلافة عثمان(1) , وقيل : قبل قتل عثمان بسنتين(2) . وجاء أنه ولد بعد استشهاد الإمام علي أمير المؤمنين(3) .
ولعل ما أورده الأصفهاني أضبط من غيره ، مؤيّداً بما أورده النسّابة الكلبي ومصعب ؛ حيث ذكرا أنه ولد قبل قتل عثمان بسنتين . هذا وأنّ للأصفهاني قرائنَ تؤكّد ولادته حين ذلك , وتؤكّد معاصرته للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) . فمما قاله الأصفهاني : وقد روى عن جدّه علي بن أبي طالب (عليه السّلام)(4) .
لكنه لم يسجّل لنا بعضاً ممّا رواه علي الأكبر عن جدِّه ؛ لضيق الوقت كما قال الأصفهاني , أو لعدم المناسبة في ذلك الموضوع .
أمّا فيما يتعلق بأخبار ميلاده الأغر فليس لدينا شيء منها ، بيد أنّ هناك مجموعة روايات عن عائشة بصدد ميلاد علي الأكبر ؛ فقد جاء في بعض الكتب المطبوعة أنّ لعائشة روايات كثيرة حول ولادته (عليه السّلام)(5) . ولكن لم يورد صاحب الكتاب تلك الروايات , والذي يبدو أنّ تلك المجموعة من الأخبار والروايات ليست موجودة أو مدوّنة ، وإنّما هي مجرّد إشارات ينوهون بها فقط .
ولو تجشّم المؤرخون بعض الأتعاب الجزئية لتدوينها وسردها لما أخذت منهم وقتاً طويلاً ، لا سيما وهي خير قرائن تفيد تحديد مدة ولادته الشريفة ومتعلقاتها ، وتوحي إلى عدة أمور يمكن الاستفادة منها .
نشأته وترعرعه (عليه السّلام)
ولد علي الأكبر (عليه السّلام) في بيت يتمتّع بالحضور الكامل للإيمان والتقوى , بيتٍ رحب الفكر , واسع المعرفة , مزدحم بالصالحين والطاهرين والذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ، الذين لا يفتؤون يحرصون على صيانة مبادئ رسالتهم ، ويتمسكون بحرفيتها ، ويرفعون ألوية العقيدة عالياً .
بيت هو العقيدة بذاتها ؛ الأمر الذي يفسّر دعوة الله للناس كي يحبوا ذلك البيت ويوادّوه ، ويحاربوا من يكرهه ويعادوه . بيت عامر بكلِّ ما يمتّ للإسلام بصلة , وللحق والحقائق بروابط وعلائق .
ومن شأن الوليد الذي يفتح عينه في أجواء الصفاء لبيت الصفوة ، وأوساط الشرف والسؤدد ، وبيئة الخير والصلاح والهدى من شأنه أن ينشأ على إفاضات ذلك البيت النبيل ، وقبسات أهل ذلك البيت من الرجال الذين اُنيطت بهم حراسة القضية الإسلاميّة ، وصيانة الشرع الشريف ، وحفظ الدين المحمّدي الحنيف .
نشأ وهو يرتشف لبن صدور المؤمنات التقيات ، وقد تشرّب بأخلص العواطف وصادق الحنان ، وراح جسده ينمو وتنمو مشاعرهُ السليمة , وروحه الطاهرة ، ونفسه السوية . أكل وشرب ممّا أنعم الله به حلالاً طيباً لا يأتيه الباطل والشبهة .
نشأ على أسمى معاني المؤمنين الأتقياء ومزاحهم الجميل معه ؛ فمادته ومعنوياته من فيض حوض طاهر نقي ، بمعنى أنّ جسده وروحه تنزّها عن الشوائب المكدرة والأدران المقيتة .
ترعرع علي الأكبر في تلك الأوساط النظيفة ، حيث قضى سني حياة صباه يدرج بين صفوة الرجال وصفوة النساء ، وخيرة الفتيان والصبيان ، بين شخصيات جليلة القدر , وشباب يسمون نحو الكمال والعز والإباء .
نشأ وترعرع وهو ملء العين ، فتخطّى الزمن وتجاوز الأيام . مضى يقضي أياماً زاهرة وليالي مباركة ، وأشهراً وسنيناً خالدات ، متسلّقاً الدهر ، يعلو فوق هامة التاريخ شخصاً فريداً في مجمل خصوصياته ، وشاباً خلاّقاً في ربيع حياته ؛ فرجلاً بطلاً ينفرد في مميزات جمّة وجليلة سامية ؛ إذ نال من التربية ما يصعب على الكثيرين حصوله ونيله ، حتّى أبناء الملوك والاُمراء ، أبناء الأكاسرة والقياصرة . وما هو وجه الشبه حتّى نذكر ونمثّل بأبناء الملوك ؟!
تربيته (عليه السّلام)
شبّ نحو العُلا والكمال ؛ فهو بمستوى تعاطي القيم والمثل والتربويات القيّمة . والحقّ أن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) مكيّفون لذلك منذ الصغر , بدءاً من نعومة أظفارهم , أي لا يُشترط فيهم بلوغ سنٍّ معينة ليكونوا على استعداد لأمر ما ؛ كالتربية مثلاً التي تساير نشأتهم وترافق ترعرع صغارهم )الكبار) .
أخذ علي الأكبر (عليه السّلام) من التربية الشيء الكثير ـ دون أن نستكثره عليه سلام الله عليه ـ من أعضاء الأسرة الرسالية ؛ سواء الرجال أو النساء ، وخصوصاً والده الإمام الحسين (عليه السّلام) الذي يقع عليه عبء إعدادهِ وتعبئتهِ إن صح قولنا : عبء .
والحق إنّ ذلك لم يكن عبئاً بنظرتهم أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ لأنّه من أخص خصوصياتهم ، فلا يصعب عليهم تكوين النموذج الحي في التربية.
لقد ندرك ببساطة عوامل بلوغ أحدهم مستوىً تربوياً عالياً جداً ، وهي بعض عوامل تضلعهم العلم , واضطلاعهم بالحكمة فضلاً عن التربية بالذات ؛ وذلك عندما نأخذ بنظر الاعتبار وجود العناصر أو توفّر المقدمات الأساسية هذهِ سلفاً ، وهي :
1 ـ خلو الشخصية من الشوائب السلبية المعكّرة والرافضة للإيجابيات , والنافرة من الصفاء.
2 ـ طهارة الروح وصفاء النفس.
3 ـ سلامة الضمير والتجاوب مع الوجدان.
4 ـ نزاهة المشاعر وسمو الأحاسيس .
5 ـ التطلّع للأفضل والتوق للأحسن .
6 ـ السعي للاقتراب من الكمال , وبلوغ مستوى المسؤوليات ومستوى حمل الرسالة.
هذه كلها مجتمعة تشكّل تربة الأرض الخصبة لبذر بذور التربية , وغرس أشجار التربية الراسخة الاُصول ، الضاربة الجذور , الثابتة في الواقع طالما تؤتي اُكلها كلَّ حين بإذن ربها .
لقد كانوا ـ أهل البيت (عليهم السّلام) ـ يحرصون على تطبيق نظرياتهم التربوية الرحبة ، ويشدّدون على ضبط الأساليب التهذيبيّة ، ويخلصون في ممارستهم المنهجية من أجل إعداد الإنسان إعداداً لا يقبلونه إن لم يكن معادلاً لمهامه , ومعادلاً لواجباته ومخاطر مسؤولياته الموكّل بها .
إنهم لا يقلّدون أحداً أو فئة في طرائق التربية ، وإنّما لهم عمقهم الفكري , وبُعد نظرتهم , وإبداع أساليبهم , وممارساتهم المبتكرة . إنّهم يأخذون من الإسلام ما فيه من شذرات ليضيفوا إليها ؛ ليوضّحوها ويفصلوها بتحويلها إلى فعل وعمل ، إلى ترجمة حيوية صادقة ؛ وذلك بجرِّها جرّاً إلى حيز التطبيق ، لتدخل دائرة التجربة المؤكّدة النجاح والحتمية العطاء .
أضف إلى تلك الممارسات الجادة امتلاكهم للخبرة الواسعة جداً , وإدراكهم للمناهج الفاشلة في هذا المضمار.
ثمَّ إنّ خرّيج مدارسهم إنسان رفيع في التربية ، عالٍ في العلم ، علوّاً يؤهّله وبجدارة لأن يكون هو بشخصه مربّياً ومعلّماً ينهج ويبدع في المنهج الإسلامي , بل يكون هو بالذات مدرسة مستقلّة كفيلة باستيعاب المجتمع وتقديم العطاءات الإصلاحية له ؛ لأنّ خرّيج مدارسهم مكيّف لذلك ، جاهز له بحكم مضمونه ومحتواه (وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ) .
ولمَن يريد الوقوف على مدارس التربية عند أهل البيت (سلام الله عليهم) ومناهجهم الواعية ، ولمن يريد التوفّر على نظرياتهم الثرية فما عليه إلاّ أن يراجع مذخوراتهم والثروة الكبيرة من التراث الذي خلّفوه (سلام الله عليهم).
إنّ خصوصيات مناهجهم التربوية قد انعكست على مواقفهم الصارمة الحاسمة ؛ ففوق أنها سر كمالهم فهي تفسير مواقفهم المبدئية وقراراتهم الخطيرة التي آلوا على ألاّ يفرّطوا في جنبها .
ونحن إذ نمجّد ، والمسلمون إذ يمجّدون ذلك فيهم فليس من باب الزهو بهم ، وإنّما من باب التأثّر والاقتداء بهم ؛ لندرك أسرار سيرتهم , وأبعاد أعمالهم الصعبة , وأمرهم المستصعب الذي عجز الرجال عن تحمّله ؛ لافتقارهم للرجولة , ولأنّ رجولتهم الضعيفة تنقصها تربويّات الإسلام وفق منهاجه التام .
أوصافه وصفاته (عليه السّلام)
تمتّع آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأوصاف جميلة وصفات جليلة ، أوصاف ظاهرة على شخصياتهم للعيان , وصفات كامنة تتجلّى منهم عند التعرّف إليهم ومعايشتهم كما لاحظها وعاشها المعاصرون لهم.
تمتّعوا بتجميع الكمالات لديهم دون استثناء أو افتقار لشيء صغير أو كبير, تمتّعوا بتجمّع كبريات المواصفات وحُسنيات الصفات النبيلة الساميات ، فلم يتركوا جميلاً جليلاً إلاّ ولهم فيه خصوصية ، وما من قبيح حقير إلاّ ولهم في النهي عنه وحربه ممارسات وظيفيّة ؛ ذلك لأنّ تمتّعهم بما ذكرنا هو من أخصِّ خصوصياتهم التي أهّلتهم للرسالة ، بل هو من أهمّ اختصاصاتهم ـ بتعبير أدق ـ ؛ إذ إنهم ينبغي أن يكونوا في مستوى ما يدعون إليه .
وليس من المعقول أن يكونوا روّاداً لنظريات ومبادئ وهم بعيدون عنها , أو يفتقرون لمؤهّلاتها ومتطلباتها ؛ سواء أثناء الدعوة أو خلال التطبيق لما لديهم من مقررات ؛ فالنظرية والتطبيق ممّا لا يمكن فصلهما قط ؛ وبذلك فإنّ اختصاصهم الفعّال هو كونهم المثل الأعلى والقدوة الحسنى .
ولو قمنا باستقصاء النظر في مميّزاتهم ، واستقرأنا مواصفاتهم وأخصّ خصوصيات شخصياتهم لما عدونا علي الأكبر عنهم فيما كانوا عليه ممّا لم يشاركهم أحد فيه . بل هو في ذروة المميزات , وله الحظّ الأكبر والقسط الأوفر منها ، بحكم أنه شبيه جدّه النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي حاز قصب السبق ؛ إذ كان الأوّل كما كان المنبع والمصدر (صلّى الله عليه وآله).
وما قولنا بأنه شبيه جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مأخوذ من راوٍ أو مؤرّخ أو شاهد عيان بسيط ومعاصر عادي ، وإنّما هو مأخوذ عن شاهد دقيق النظر ، صادق صدوق ؛ فقد صرّح بذلك والده الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وعنه روى الراوي وأرّخ المؤرخ , لا سيما وأنّ الإمام أعرف الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وأكثرهم التصاقاً به , وأشدّهم تعلّقاً به , كما أنه ورث منه واكتسب عنه .
فلمّا ولد نجله علي الأكبر (عليه السّلام) وشبّ يافعاً أخذ يوحي بصورته وأخلاقه ومنطقه إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ فأضحى ذكراه وتذكاره حتّى كان الناس ـ من أهل المدينة ـ يشتاقون لرؤياه (سلام الله عليه) .
ثمّ ليس أكثر من أبيه الإمام الحسين (عليه السّلام) حضوراً لملامح جدّه ومعالم تلك الشخصية العظيمة ؛ وعليه فإنّ كلامه الذي يؤكّد محاكاة علي للنبي (صلّى الله عليه وآله) , وأنه أشبه الناس به خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً كلام بمستوى الحضور الحقيقي .
(وكان (علي الأكبر) من أصبح الناس وجهاً , وأحسنهم خلقاً)(6) حسبما اتّفق المؤرّخون فضلاً عن اتّفاقهم وإجماعهم على مضمون تصريح أبيه الحسين (عليه السّلام) من كونه مثيل الرسول (صلّى الله عليه وآله) من حيث الخلقة والأخلاق والنطق.
وحري بنا أن نعود لتسجيل بعض ما ورد عن النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بالذات ؛ فقد كان (صلّى الله عليه وآله) يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع وأقصر من المشذب (أي الطويل القامة) ، عظيم الهامة , رجل الشعر(7) , أزهر اللون , واسع الجبين ، أزج الحواجب , سوابع في غير قرن(8) ، بينهما عِرق يدرّه الغضب .
أقنى العِرنين(9) ، وله نور يعلوه يحسبه من لم يتأمّله أشم(10) ، كثّ اللحية(11) ، سهل الخدّين(12) ، أدعج ، ضليع الفم(13) ، أشنب مفلج الأسنان(14) ، دقيق المسرُبة(15) كأن عُنقه جيد دُمية في صفاء الفضة , معتدل الخلق , بادناً متماسكاً سواء البطن والصدر , عريض الصدر ... حتّى يقول : خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جُلّ نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه ويبدر مَن لقي بالسّلام(16) .
تلك بعض أوصافه المقدّسة , وغيرها الشيء الكثير لذلك الرجل الكامل ، سيد الكمالات وصاحبها . على أنّ ما يُروى بهذا الصدد إنّما هو محاولة لتقريب شخصه الشريف للأذهان .
وبعد , فلنا أن نؤكّد حقائق هامة قبل أن نختم الموضوع ، فنقول : بأنّ حرصنا للوقوف على الأوصاف والصفات , وتأكيد التقاء علي الأكبر (عليه السّلام) بالنبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في مميزاته يرجع إلى أسباب هامة ومبررات موضوعية جادة ، منها مثلاً:
1 ـ إجلاء الشخصيّة الحيويّة السامية ، لا لأنها منتسبة إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وإنّما لما اتّسمت به ممّا توفّر في شخص الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالذات ، ولمضمون الشخصية ومحتواها ، وبحكم أنها تشكّل المثل الأعلى.
2 ـ إنّ الانتساب للرسول (صلّى الله عليه وآله) كان يكفي للاحترام والامتناع عن القتل ، ولكن الأوصاف والصفات كانت تشكّل حجة أكبر بجمعها مع النسب الشريف المقدّس ؛ ومن هنا كان العدو يخشى قتل علي الأكبر (عليه السّلام) أو يتجنّبه كما قيل , لا لأنه سليل الرسول (صلّى الله عليه وآله) , بل لما فيه من اجتماع لمواصفات الرسول (صلّى الله عليه وآله)(17) , بيد أنهم تناسوا ذلك كله فانتهكوا حرمته .
3 ـ إنّ أوصافهم وصفاتهم تعطي إيحاءات راقية , ومفاهيم خلقية , وقيماً ومثلاً نبيلة لها دورها في إبراز مصداقية المعاني السامية الكريمة التي تكمن فيهم والتي يتسربلون بها.
4 ـ وأخيراً فمن الضروري جدّاً إدراك هذه الناحية , وهي أنه ليست المميزات المتطابقة مهمة بقدر أهمية تطابق المواقف الرسالية .
وقد شهد التاريخ لعلي الأكبر (عليه السّلام) مواقف جدّه الصلبة الصارمة ، وشهد له أنه شبيه جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خلقاً وخُلقاً ومنطقاً وموقفاً وعملاً , فنحن إذ نقف على الخصال الخيرة المتطابقة فليس على حساب تطابق النتائج ، لا سيما وأنّ ثمة علاقة بين المميزات المتشابهة كمقدمات , وبين المواقف المصيرية كنتائج .
هذا والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين
ــــــــــــــــــ