"الحمد لله الذي جعل الشام في وجه الأرض شامة خضرا، وأجرى ماءَها الفضي على ثراها كالذهب، وأدارَ من الماء خلاخيل على سوق الأشجار، وأرسل كف النسيم بمشط المطر فسرَّحَ رؤوس عرائس الغصون، وجمَّلها بحلل ذات أكمام من سندس أخضر ومعصفَر صبغة صنعة من هم له ساجدون. وسبحانه قدَّسَ أرضها إذ هي مرتع ومربع لأصفيائه، وحباها لسكن الأنبياء واختارها موطنًا لعباده الأولياء".
لعبد الله البدري رحمه الله من علماء القرن 8هـ في كتابه "محاسن الشام".

فمن محاسن الشام التي ذكرها البدري وابن عساكر في تاريخه، الحمَّامات الإسلامية القديمة، والتي ملأت الشام ودمشق خاصة، إشارةً لأهمية النظافة والطهارة في الإسلام، وإن الأبخرة التي تنبعث منها بروائح العود والمسك الجميلة لدليلٌ على ذلك، فهي تنادي المسلمين من خلال هذه الروائح العطرة، لجعل النظافة والطهارة عنوانًا لهم، وجواز سفر للاتصال بالله عزَّ وجلّ.

نشأة الحمامات الإسلامية:
عندما انتشر الإسلام في بلاد الشام والعراق وفارس ومصر وشمالي إفريقيا، كانت الفنون السائدة وقتئذٍ الفن الساساني والبيزنطي، هذه الفنون كانت مصدرًا مباشرًا للفنَّانين في الدولة العربية الإسلامية اقتبسوا عنها وطوَّرُوا عناصِرَهَا. هذا شأن كل فنٍّ جديد لمرحلة جديدة، وإذا ما حللنا الفنَّ البيزنطي والساساني رأيناه يرجع إلى أصول كبرى سابقة له، فهي من صنع الشعوب العربية القديمة التي كوَّنَت حضاراتٍ في بلاد الشام وبلاد الرافدين؛ أي: فن شرقي + فن غربي جاءَ من الاحتلال الروماني واليوناني وتطوَّرَ فيما بعد.

ومن المنشآت المعمارية الإسلامية المميزة والتي تحكي لنا حكاية هذا التطور، الحمَّامات العامّة التي عُرِفَت في العهد الأموي والعباسي، وتعود أصول هذه الحمَّامات العربية في العهد الإسلامي إلى النمط الروماني.

ولكن تميَّزَت بميزات فنية من حيث نمط البناء وبميزات من حيث الهدف، فالمسلم الراقي الحضاري الذي يربط دومًا بين المتعة والفائدة، أو بين الدنيا والآخرة، فالحمَّامات ليست لإزالة الأوساخ فقط، إنما بهدف التقرُّب من الله عزَّ وجل، بالحصول على نظافة جسديَّة وصحيَّة تقوّي المسلم وتعينه على الطاعات، عندَ ذلك جعلَ المسلمون الحمَّامات العامّة وسيلة لهدف راقي.

أمّا من حيث الميزات الفنية، فقد اختلفت الحمَّامات العربية الإسلامية عن الرومانية بالتالي:

1- بما أنَّ الإسلام مبني على الطهارة المعنوية فقد ألغيت المغاطس راكدة المياه، ولم تعد موجودة في الحمَّامات العربية الإسلامية.

2- أنَّ الحمَّامات الرومانية تألفت من ثلاث أقسام: القسم البارد، القسم المعتدل، القسم الحار، ويقابل هذا التقسيم في العمارة الإسلامية: القسم البرَّاني وهو البارد، والوسطاني يقابله المعتدل، القسم الجوَّاني ويقابله الحار.

ومع الزمن تطور أثر الحمَّام العربي الإسلامي عند الناس، وأصبح يتَّصل بواجبات دينية واجتماعية، مرتديًا لباسًا شعبيًَّا تقليديًَّا فيما بعد.

ما يهمنا في هذا السياق التعرُّف على هذه الحمَّامات العربيَّة القديمة. وأقدم حمَّامات في سورية من قبل الإسلام: حمَّامات أفاميا، تدمر، بصرى، شهبا. وأقدم حمَّام عربي إسلامي في بلاد الشام هو حمَّام قصر عمرة ويعود إلى العصر الأموي. وهناك آثار معمارية لحمَّامات قديمة كانت ملحقة بالقصور الأموية في سورية مثل حمَّام قصر الحير الغربي الذي بناه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك.

ننتقل إلى العصر السلجوقي الذي تعتبر الحمَّامات التي بنيت فيه من أقدم حمَّامات مدينة دمشق في البزوريّة في عهد نور الدين زنكي، ولازالت موجودة وبحالة جيدة، مما يعكس نزاهة وإخلاص عامل البناء المسلم، والمهندس المسلم.

حمام نور الدين زنكي:
يعدُّ أقدمَ حمَّامات دمشق القديمة، يقع في سوق البزورية قرب خان أسعد باشا. أنشأهُ السلطان نور الدين محمود زنكي في القرن السادس الهجري. أمَّا تفاصيل هذا الحمَّام فهي: باب الحمَّام من الجهة الغربية ينفتح على ممر، مغطى بقبوة نصف أسطوانية يؤدي إلى القسم البرَّاني المربَّع الشكل، وهذا القسم مسقوف بقبة ترتكز على مثلثات كروية، الأعمدة الأربعة الحاملة للقبة تشكِّل أربعة مصاطب اثنتان منهما كبيرتان شرقية وغربية، واثنتان ثانويتان: شمالية وجنوبية. ويتوسط البراني بركة ماء تغذى من خزانات الحمَّام، والفائض يغذي باقي أجزاء الحمَّام.

أمافي جانب الإيوان الشرقي الشمالي مدخل يؤدي إلى ردهة صغيرة فيها خدمات صحية، مغطاة بقبتين نصف كرويتين، في شمالها مدخل إلى الوسطاني تظلله ثلاث قباب. وإلى الغربي منه ينفتح الجوَّاني وهو مستطيل الشكل تعلوه قبة ذات قطع ناقص. رصعت أرضية الحمَّام بالرخام المزين بأشكال هندسية جميلة.

أُهملَ الحمَّام منذ ستينَ عامًا خلت، واستعملت بعض أجزائه مخازن تجارية. وفي عام 1975م تمَّ استملاكه ورممت أجزاؤه، وأعيدَ تشغيله. ويعتبر حاليًَّا من أهم المعالم التاريخية والسياحية في دمشق.

حمامات العهد الأيوبي (569 - 658 هـ):
والعمائر الأيوبية بشكل عام يغلب عليها طابع البساطة والتقشف، والقوة والمتانة، بسبب حالة الحرب. ولكنها امتازت بإتقان التخطيط، وبالعناصر الزخرفية الجميلة، وهذا يدل على ميزة الحضارة العربية الإسلامية من الحضارات السابقة.

وإليكم نماذج من حمَّامات العهد الأيوبي:
(1) حمَّام الجوزة: تقع في محلة سوق ساروجة، جرى عليها تعديلات في قاعة المشلح، أمَّا بقية أقسامها فما تزال محافظةً على وضعها الأصلي، وتعتبر نموذجًا كاملًا لمخطط الحمَّام العربي الأيوبي.

(2) حمَّام السروجي: تقع في محلّة الشاغور، وما تزال فيها أقسامها الأصلية.

الحمامات في العهد العثماني:
أمَّا أهم الحمَّامات في العهد العثماني فهي:

(1) حمَّام فتحي: في محلَّة الميدان.

(2) حمَّام الرفاعي: في محلَّة الميدان.

(3) حمَّام القاشاني: في سوق الحرير، ولكن للأسف تحولت منذ سنوات طويلة إلى سوق تجاري، على الرغم من احتفاظها بالمخطط العام لها، وألواح القاشاني التي كانت تكسوا جدارها وواجهتها.

(4) حمَّام سوق الخياطين: تحوَّلَ كذلك للأسف إلى مصنع للأقمشة، وترجح المصادر أن يكون معاصرًا في بنائه للخان المجاور له، خان الجوخية.

وهناك حمَّامات عديدة زالت بسبب شق الطرق، وأعمال الهدم، نذكر من أهمها:

حمَّام الملكة: والتي تقع في شمالي جامع الدرويشية، وقد عمرت في عام 1136هـ / 1723م.

وهكذا .. بعد استعراضنا لحمَّامات دمشق القديمة، والتي تقوم على جلب انتباه السائح المسلم المتجول بين أزقة دمشق القديمة، لمعرفة ماذا وراء أبواب هذه الحمَّامات المغلقة، وللوقوف وراء هدفها المعنوي، سيجد الجواب ينبع من داخله، من فطرة المسلم التي فطرها الله على حب النظافة والطهارة.

والمراد بالفطرة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "عشرٌ من الفطرة: قص الشارب، إعناء اللحية، السواك، استنشاق الماء، قص الأظافر، غسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، والمضمضة".

قال الشوكاني في المراد بالفطرة هنا: هذه الخصال أو جملة أشياء اختارها الأنبياء ودعوا إليها واتفقت عليها الشرائع الإلهية لموافقتها طبيعة الإنسان التي خلقه الله عليها، فمن فعلها وقامَ بها، كان ذلك منسجمًا مع جبلته التي خلقه الله عليها ويثاب فاعلها إن قصد بفعله التقرب إلى الله عزَّ وجل، أيُّ روعةٍ يمتازُ بها إسلامُنا! هدفٌ راقٍ وراءَ كلِّ عملٍ يوجب للإنسان القربَ منَ الله عزَّ وجلّ.

ومن تأمَّلَ في فهم أسرار هذه السنة يجد الجواب الشافي لقلبه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عندما سألَ بلالًا الحبشيَّ رضي الله عنه قائلًا: "يا بلال، حدثني بأرجى عملٍ عملتَهُ في الإسلام فإنّي سمعتُ دف نعليكَ بين يديَّ في الجنةَّ، قال: ما عملتُ عملًا أرجى عندي من أني لم أتطهَّر طهورًا في ساعةٍ من ليلٍ أو نهار إلَّا صلَّيتُ بذلك الطهورِ ما كُتِبَ لي أن أصلّي".

فما أروع أن يربطَ المسلم حياتَهُ الدنيويّة بالآخرة في كلِّ خطوة، فهذا لبُّ أو هدفُ وجودنا على الأرض أثناءَ عمارَتها.

نسألُ الله عزَّ وجل التوفيق في فهم معاني {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم: 42]، فالسيرُ والتجوّلُ للتأمُّلِ والفهم، وليسَ للعبثِ والتسلية وإضاعة الوقت دونَ فائدة.


نبيلة القوصي