في ردهة التمريض بالطابق التاسع في المشفى الامريكي بإحدى الولايات الامريكية٬ سمع الطبيب دردشًة في صباح يو ِم ماضي. خلال المشي بالطابق٬ وعلى لوحة الاعلانات٬ تعج بطاقات المعايدة في زوايا اللوحة٬ لكن ورقة بيضاء مكتوب عليها عبارة بخط اليد٬ توّضح علامات التحذير٬ كانت قد جعلت الطبيب مصطفى عبد علي يتبسمر بمكانه.
فحص مصطفى عبد علي٬ اول مريض وهو في السنة الثالثة بجامعة فينيكس الطبية التعليمية٬ لامرأة عجوز وهو يتحدث معها مطمأنًا اياها بان تخطيط القلب التابع لها يمشي بشكل جيد. المريضة العجوز الراقدة في تلك المشفى٬ كانت ذات شعر مجعد وترتدي ثوب طويل٬ وطلاء اظافرها ارجواني٬ دفع مصطفى الى مغازلتها كأبن يتغزل بأمه. الطبيب مصطفى٬ المولود في الكويت لابوين عراقيين فرا من اعمال العنف التي كانت في عهد الرئيس صدام حسين٬ اذ تربى وهو يسمع قصص الاسرة عن الجنود الذين اصيبوا نتيجة الحرب العراقية الايرانية ودخول الجيش العراقي الكويت في تسعينات القرن الماضي.
المرضى جميعهم ينادوه بالدكتور عبد علي٬ فهو طبي ٌب مقيم مميز ويحظى بحب المرضى له٬ فمصطفى له علاقة مع الطب لا يمكن فصلها تمامًا٬ اذ يبلغ اليوم من العمر 31 عامًا ويعتقد انه بحاجة الى مزيد من التّعلم بمجال الطب لانقاذ المرضى٬ وفقًا لتعبيره. مصطفى يقول ضاحكًا ” انا على استعداد الآن لعلاج والدتي“٬ فطريقة كلامه تدل على ثقته بأمكانيته التي يمكنها ان تنقذ والدته إن تعرضت لمرض ما. وينظر الكثير من المرضى الى المركز الطبي الذي يقيم فيه مصطفى٬ بأنه ملاذاً آمنا لعلاجهم لبعده عن مركز المدينة وتغيير اسمه٬ لكنه ظل محافظًا على سمعته عند السكان. مصطفى الذي ظل ساهراً حتى اليوم التالي على مراقبة حالة العجوز المريضة٬ دفعها الحال تلك المرأة الواهنة الجسد الى القول ” هل تريد أن تأتي معي الى بيتي٬ لتعتني بي؟“. وعند حديثها هذا٬ التفت مصطفى ومسك ذراعها الشاحب وبقي يردد معها اغنية قديمة لعلها تنسيها الآلام وتنام على علاج الطبيب مصطفى
في عمل الطبيب مصطفى٬ كان يضع نصائح والده امامه٬ فكل كلمة قالها له يطبقها في عمله٬ فهو يتحدث عن قص ٍص كانت صعبة عليه لولا نصائح والده التي يتذكرها بين الحين والآخر. أولاد عبد علي٬ الخمسة٬ اربعة منهم ولدوا خارج امريكا وواحد فيها٬ فهم تركوا العراق منذ نهاية سبعينات القرن الماضي٬ لمواقف احد ابناء عبد علي السياسية التي اودت به الى الاعدام على يد النظام السابق٬ ليضطر عبد علي الى الرحيل تاركًا عراق فيه كل ذكرياته بين اهله واصدقائه٬ يقول مصطفى وأكرم في رسالة بالبريد الالكتروني ” نحن نعتبر العراق وطننا٬ نحبه ونحب العيش فيه٬ فهو بقلوبنا ولن يغادرها يومًا٬ لكن عندما ُقتل اخي نتيجة موقفه السياسي٬ عرفت عائلتنا أن لا مكان لها في هذا الوطن٬ ولن تعيش حياة آمنة بعد الاعدام“. من ايران الى لبنان حتى سوريا٬ وصل عبد علي الى كندا وفيما بعد طلب اللجوء السياسي فيها٬ وفي فرصة لاحقة تمكن من الوصول الى الولايات المتحدة الامريكية. وفي يوم من الأيام بعد سنوات عديدة٬ استطاع اولاد عبد علي الثلاثة ان يدرسوا في كلية الطب ويبدأون عملهم في مستشفى واقع بالقرب من صحراء ما. وحينما كانت العائلة في ايران٬ وجدت اكرم حب حياته حينما تعرف على صديقة رضا٬ البنت الايرانية صاحبة الابتسامة الواسعة والعيوان الداكنة.
أكرم وصّديقة٬ حينما هاجرا الى الولايات المتحدة الامريكية٬ كانا من العقيدة الاسلامية نفسها٬ فقد تركا منزلهما المؤقت في ايران وكل شيء ورائهم. يقول أكرم ” قبل إعدام واخي٬ كان والدي وجدي معتقلان في سجون النظام السابق٬ فكل الذين يتحدثوا عن آرائهم بحرية٬ كانت الحكومة تعتبرهم اصوات معارضة لها مما يعرضهم هذا الحال الى الملاحقة“. ليلة مقتل شقيقه٬ انتظر أكرم في السجن٬ وحينما اطلق سراح اخيه كان قد مات فتركت السلطات جثته امام منزل العائلة٬ فض ًلا عن شقيق آخر توفي وهو يقاتل في الحرب العراقية الايرانية. وفي اليوم التالي٬ نصح المسؤولون العراقيون آنذاك والد أكرم بعدم اقامة مراسيم العزاء لابنه٬ لما قد يعرضه الى مساءلة اكبر من ذي قبل.
أكرم يقول ” اننا نعيش في خوف بعد إعدام اخينا٬ ولا يمكن ان ننام ليلة كاملة٬ دون أن يقتحم المسؤولون بيتنا مستفسرين عن العائلة ميولها السياسية و موقفها من الحكومة والحزب الحاكم آنذاك. أكرم لم يطق هذا الوضع٬ فسرعان ما هرب الى ايران٬ حيث وجد حبه هناك٬ وتزوج لينجب ولداً اسماه مصطفى. أطفال عبد علي في صغرهم لا يتذكرون شيئًا عن حياتهم في الشرق الاوسط٬ لكنهم مشتركون في قصة ابيهم هجرته من العراق حتى الولايات المتحدة. مصطفى بعد تخرجه من الجامعة٬ ناضل من اجل اختبار قبول كلية الطب٬ فالامتحان التنافسي كان صعبًا للغاية ولا يدخله سوى الموهوبين من الطلبة٬ فكانت مشورة اكرم له ان يدرس بشكل جاد لان الامتحان صعب للغاية٬ مصطفى لطالما حلم بالطب ومزاولتها٬ فهو نصح شقيقيه على العمل معه في اجتياز الامتحان التنافسي لتحقيق حلمهم ويصبحوا الاطبال الثلاثة الموهوبين. بأجتياز مصطفى الامتحان٬ زادت رغبة الشقيقين الاخرين الى المهمة ذاتها٬ فعندما حصل مصطفى على القبول الاولي في دارسة الطب٬ كان الشقيقان يصارعان لتقديم ماهو افضل ليصبوا الاطباء الثلاثة الذين يمكنهم معالجة المرضى.
احتفلت الاسرة فيما بعد بقبول مصطفى٬ وهذا الاحتفال من شأنه دفع الشقيقن الاخرين الى الاعلان بانهما بصدد اجراء الامتحان التنافسي والالتحاق بمصطفى لدراسة الطب. الاطباء الثلاثة وصل بهم الحال الى العمل بمركز صحي واحد٬ وهذا ما جعل المرضى في حالة مربكة لعدم مناداتهم للاطباء الذين تتشابه اسمائهم باسم الأب٬ وهذا ما عرقل سير عملهم٬ لان كل مريض كان يقصد طبيبًا يأتيه اخراً. عبد علي يقول اخيراً٬ انه غير مصدق لما قدمه ابناؤه في ذلك المشفى كيف انبهر المرضى فيه بخدمات ونصائح ابنائه الثلاثة٬ فالاطباء معتدلون ومتدينون كما يقول عنهم اباهم وهذا بحسب اعتقاده فض ٌل من عند االله٬ ما جعل عبد علي فخوراً بهم.
المصدر: اريزونا ريببليك