«لقد تركت الفيلم مصدومًا، وتسلّلت خارج القاعة. ربّما كان فيلمًا خياليًا، لكنّني حينها رأيتُ حياتنا على شاشة السنيما. كان الأمر مُذهلًا».
هذا ما قاله «سالفاتوري جرافانو»، الذراع اليُمنى لـ«جون جوتي»، زعيم عائلة «جامبينو»، والذي تعاون مع المباحث الفيدرالية لاحقًا، للإيقاع به، عقب مشاهدته فيلم «الأب الروحي» The Godfather؛ الجُزء الأول من ثُلاثيّة عالم المافيا الإيطالية، وربّما أعظم ما أنتجته السنيما الأمريكية. تحكي الأفلام قصّة سقوط «مايكل كورليوني»، الابن الأصغر للأب الروحي «فيتو كورليوني»، في هاوية الجريمة، حين يضطرّ لإدارة أعمال العائلة بعد تعرّض أبيه لمُحاولة اغتيال، لرفضِه الاتّجار بالمخدّرات.
الأفلام مُقتبسةٌ عن روايةٍ للكاتِب «ماريو بوزو»، الإيطالي الأمريكي الذي رسم المشهد الروائي المُبهر لعائلات المافيا الخمس التي حكمت عالم الجريمة في مدينة نيويورك فترةً طويلة في القرن العشرين. وفي هذا المقال نستعرِض بعض زُعماء وأعضاء المافيا الحقيقيين الذين اقتبس «بوزو» عنهم شخصياته التي أبهرت العالم: «فيتو كورليوني»، و«جوني فونتاين»، و«جوي زاسا».
1. دون «فيتو كورليوني» – «فرانك كوستيلو»
استوحى «بوزو» الأبَ الروحي «فيتو كورليوني» من عدّة زعماء بالمافيا، مثل «كارلو جامبينو»، و«جوزيف بروفاتشي» الذي اعتمد على تجارة زيت الزيتون. لكن الأشبه بالأب الروحي هو «فرانك كوستيلو»، الذي كان له دور كبير في إنشاء «المفوضية» Commission، التي جمعت العائلات الخمس في نيويورك.
تولى «كوستيلو» زعامة عائلة «لوسيانو» بعد ترحيل «لاكي لوسيانو»، وهروب «فيتو جينوفيسي» خليفته. مثل «فيتو كورليوني»، استمدّ «كوستيلو» قوّته من علاقاته السياسية والتجارية النافذة، حتى عُرف في أوساط المافيا بـ«رئيس الوزراء». ومثل «فيتو كورليوني»، كان موقف «كوستيلو» واضحًا تجاه رفض الاتجار بالمخدّرات، وتعرّض لعدّة محاولات اغتيال.
بل إن «مارلون براندو» في تحضيراته للدور استوحى الطريقة التي يتكلّم بها «فيتو كورليوني» من تسجيلات شهادة «كوستيلو» أمام لجنة «كيفوفر» بمجلس الشيوخ. اشترط «كوستيلو» ألا تظهر الكاميرا وجهه، ممّا أعطاه، إلى جانب صوته الغريب، طابعًا مهيبًا ومخيفًا.
2. «جوني فونتاين» – «فرانك سيناترا»
إن كنت قويّ الملاحظة، فربما لفت الأمر انتباهك بالفعل: التشابه بين «فونتاين» و«سيناترا» شديد للغاية. الواقع أنّ «فونتاين» مستوحىً عن «سيناترا» بالفعل، فكلاهما ولُد في حيٍّ فقير، وكلاهما صعد إلى النجومية. كلاهما كان عنده اتّصالاته بعالم العصابات التي أنقذته من عقدٍ ظالمٍ وقّعه مع قائد فرقة موسيقية. وكلاهما احتاج دورًا في فيلم سينيمائي ليعود إلى الأضواء. بالنسبة لـ«سيناترا»، كان هذا فيلم «من هنا إلى الأبدية» From Here to Eternity.
عن علاقاته بعالم العصابات، قال «جاي. إدجار هوفر» مُدير المباحث الفيدرالية سابقًا أنّ «سيناترا» كان عنده «عقدة الشبّيح». استمتع «سيناترا» بلعب دور الرجل القوي، وعلاقاته بالعصابات سهّلت له ذلك.
3. «مو جرين» – «باجزي سيجل»
في الرواية، كان «مو جرين» هو صاحب فكرة إنشاء مدينة «لاس فيجاس»، التي تحوّلت بعد ذلك إلى واحد من أكبر المراكز الترفيهية في العالم. من فعل هذا في الواقع هو «باجزي سيجل»، القاتل الذي عمِل لحساب المافيا الإيطالية. كان «سيجل» صديقًا لعدد من نجوم هوليوود، مثل «فرانك سناترا» و«كلارك جيبل».
عندما فكّر «باجزي» في إنشاء «لاس فيجاس»، لجأ إلى «ميير لانسكي» (سنتحدّث عنه لاحقًا) لتمويل المشروع، وأنشأ مجمّعًا ترفيهيًا باهرًا وزوّد المنطقة بالكهرباء، وجلب أفضل الفنّانين والعاملين بمجال الترفيه في عصره. لكن «لانسكي» وبقية شركاء «سيجل» شكّوا في اختلاسه أرباح المشروع، وهو ما مهّد لمقتله في يونيو (حزيران) 1947 بمنزل صاحبته «فيرجينيا هيل». فتح عليه مسلّحٌ النار من خلال النافذة، وأصابه في وجهه مما أدّى إلى خروج عينه اليمنى من محجرها؛ ميتة شبيهة لتلك التي مات بها «مو جرين» في الفيلم، حيثُ تلقى رصاصة في عينه اليُمنى بينما كان مستلقيًا يحظى بجلسة تدليك، عقابًا على صفعه وإهانته لـ«فريدو»، شقيق «مايكل كورليوني».
4. «هايمان روث» – «ميير لانسكي»
كان «ميير لانسكي» عبقريًا فيما يتعلّق بالشئون المالية، وكان على شراكة بـ«فرانك كوستيلو» – «فيتو كورليوني» في الفيلم – والعديد من زعماء المافيا. وكان صديقًا لـ«باجزي سيجل» – «مو جرين» – ولم يُمانع في قتله أيضًا. وكان رجله «فينسين ألو» مُشابهًا للغاية لمُعادله في عالم «الأب الروحي»، «جوني أولا» الذي لعب دوره «دومينيك شيانيز».
في الجزء الثاني من الفيلم، يقول «روث»: «نحن أكبر من شركة الصلب الأمريكية!»، وهي مقولة منسوبة في الحقيقة لـ«لانسكي». لكن «لانسكي» لم يلق نفس مصير «روث» الذي قُتل في المطار، بل عاش ليرى الثمانين من العُمر في ولاية «فلوريدا»، في حيٍ شبيهٍ بذلك الذي نراه في الفيلم أثناء لقائه مع «مايكل».
5. «جوي زاسا» – «جوزيف كولومبو»
«جوي زاسا»، الزعيم الشاب المتهور في الجزء الثالث من السلسلة، مُقتبسٌ عن زعيم عائلة «بروفاتشي»، «جوزيف كولومبو». كلاهما أحبّ الأضواء، وأنشأ مؤسسة للتركيز على إيجابيات الإيطاليين الأمريكيين وتحسين صورتهم في المجتمع. كانت رواية «بوتزو» قريبةً من الواقع إلى الحد الذي دفع بـ«كولومبو» إلى استغلال نفوذ «رابطة الحقوق المدنية للإيطاليين الأمريكيين»، والتدّخل بكلّ ثقله لمنع إنتاج الفيلم، وتهديد العاملين عليه. وافق «كولومبو» في النهاية بشرط إزالة كلمة «المافيا» من السيناريو، وعدم استخدامها مُطلقًا.
في يونيو (حزيران) 1971، أُطلق النار على «كولومبو» جهارًا – مثل «زاسا» في مسيرةٍ تابعة لمنظمته، أثناء تصوير الجزء الأول من الفيلم، في المدينة ذاتها. لكنه لم يمُت، بل عاش سبعة أعوامٍ أخرى مشلولًا حتى مات في 1978.
شخصيّات أخرى كثيرة استلهم منها «بوزو» عالمه: «ويلي موريتي» ابن عمّ «كوستيلو» هو «لوكا برازي» المُخيف؛ «فيتو جينوفيسي» هو المخادع «إيميليو بارزيني»، وهو على الأغلب وراء محاولة اغتيال «كوستيلو»/ «فيتو كورليوني». «طومي لوكهيسي» هو «فيليب تاتاليا»، الذي كسر عُرف المافيا ليتاجر في المخدّرات ويجني الكثير من الأرباح. لا شكّ أن «بوزو» والمخرج «فرانسيس فورد كوبولا» استطاعا، بحرفية شديدة، نقل عالم المافيا الغامض الثري عن طريق الرواية والأفلام، ليصنعا تُحفة سينيمائية ما زال صداها يتردّد حتى يومنا هذا.