شاعر بحجم مظفر النواب ماذا يمكن أن نكتب عنه ؟ ، وماذا سنقول ؟ ، إن قرأته مناضلا قارع الدكتاتوريات العربية والعراقية بكل سطوتها وشراستها ، لكتب عن ذلك مؤلفات بحجم نضاله وتضحياته ، ولو أخذنا الحادثة الفريدة التي كان النواب أحد من خطط لها ونفذها وأعني الهروب من سجن – الحلة – الدكتاتورية عام 1966 م ، طليعة شيوعية واعية نفذت العملية ذاتها ، يقول النواب إن امرأة(1) قروية فاضلة وصل لباحة كوخها وسألها عن بقرة ضائعة له ، أدركت تلك المرأة أن هذا الرجل له قصة ، فليس من المعقول أن يكون القروي بهذا الشكل وأعني به مظفر ، قالت له إن الوقت ليل وأقترح عليك قضاء هذه الليلة معي ، وهي امرأة عجوز متوفى زوجها ولها ولد وحيد جندي بشمال العراق
*حامد كعيد الجبوري
وجد مظفر أن ما طرحته هذه الفاضلة عين الصواب ، أخذت صحنا لها وذهبت لجارتها مربية الجاموس بقرية نبي الله أيوب ، والذي يقع مقامه على نهر الحلة المتفرع من نهر الفرات ، وطلبت منها شيئا من الحليب الطازج ، ومن امرأة أخرى قرصين من الخبز الطازج أيضا ، وقدمته عشاء لضيفها المعروف لديها ، إنه سياسي هارب من سجن الحلة بعد أن وصل الخبر لكافة القرى بواسطة جلاوزة الأنظمة ، فجرا أيقظته مهيئة له عقالا عربيا و( دشداشة ) زواج ابنها ، وفتحت قاصتها ( الصرة ) المصنوعة من القماش وأخرجت المبلغ الذي ادخرته لزواج ولدها وهي ( نوط أبو العشرة ) ، وقالت لمظفر يا بني اسلك طريق النهر جنوبا وحينما يتصل النهر أو يقترب من الشارع العام ، فمعنى ذلك أنك تجاوزت السيطرة الجنوبية للحلة ، وعندها يمكنك ركوب السيارات والذهاب حيث تشاء ، هذه هي الفراسة التي قرأت بها تلك القروية حالة النواب ووضعه ، حدق النواب كثيرا بتلك الفاضلة وودعها وانصرف حيث أشارت عليه ، وبحسه الأمني ركب بسيارات الديوانية ولكنه نزل منها حين وصوله ناحية القاسم ، حيث مرقد الإمام القاسم ابن الإمام موسى الكاظم عليهما السلام ، ومدينة القاسم تسمى من قبل الناس بـ ( موسكو الصغرى ) ، وذهب مظفر الى احدى القرى المحيطة بناحية القاسم ، وأغلب تلك القرى آنذاك مقفلة تنظيميا للحزب الشيوعي العراقي ، ولم يذهب مظفر النواب لبيت صديقه الشيوعي جاسم الصكر لأن الأخير كان مطاردا ومتخفيا عن الأنظار بمدينة النجف ، ولحين إلقاء القبض عليه بوشاية أحد ممن رآه بالنجف (2) ، وكثيرا ما كان مظفر يدخل المدينة – القاسم – بزيه القروي يجلس بمرقد الإمام القاسم ، وهناك قال إحدى روائعه ( يل شوفتك شباج للقاسم / ودخول السنه من ألكاك / يا في النبع وأطعم / عطش صبير لا فركاك ) ، من ناحية القاسم وبعد أن خفت وطأة متابعة الهاربين من سجن الحلة ، عاد مظفر لبغداد لوكر للشيوعيين بمدينة المنصور ، ومن ثم الذهاب الى الجنوب العراقي وبالتحديد لأهوار الناصرية ، وهناك قاد مظفر النواب تلك الملاحم البطولية التي خاضها مع رفاق له تحدثت عنها كثيرا رواية حيدر حيدر ( وليمة لأعشاب البحر ) ، ويصور النواب بإحدى روائعه ( نهران أهلنه ) العيش بالأهوار والعلاقات الحقيقية للفلاحين ، متخذا حالته مفتاحا للولوج للنفس العراقية المشردة دوما ، ( نكطة ماي ما ضاكت جرف لليوم / روحي الترفه يبن آدم / تجر جرفك عليمن انه سويتك جرف يفلان يبن آدم .... وغرك طارينه أبكثر ماي العروس ومات /و أبنج خنكته الغربة / وحجي الما ينلبس فوكه وحجي الشمات / بلجن بالسريع ألنه نصيب من العشك / وانحط عذر للما صعدنه وفات / ينهران أهلنه / ولن محطتنه محطة من جذب / صاح القطار أبليل بيها وما وكف ) ، ولا علاقة بموضعتنا عن الانشقاق الشيوعي بين القيادة واللجنة وما آلت إليه .
ولو أخذنا مظفر النواب كمدرسة حداثوية للشعر الشعبي ، فيكفي أن نقول إنه الرائد الأول للمدرسة الحديثة ، سوية مع بدر شاكر السياب ، والقارئ للنواب بتمعن كبير يجد أن قصائده يمكن إحالتها للسياسة ، وللحب ، وللوضع الاجتماعي ، كل ذلك بنفس القصيدة ، بمعنى أن من يقرأها نقديا يمكنه أن يخرج بما ذهبت إليه ، ولأن النواب عاش الغربة الأزلية ، لذا تجد إحساس الغربة بأغلب قصائده ، ( رديلي الفرح رديت / معضد باب يبجيني / وأحن حنة حمامة بيت / ..... والمح عمتي من أبعيد / وأتضمني أبعبايتها / وأحس بالبيت / عمه الشمس غابت وأنت ما رديت / - ويجيبها - عمه الشمس ماتت وانه ما رديت ) .
بعد السقوط مباشرة نظم الإتحاد العام للشعراء الشعبيين في العراق وفدا برئاسة الشاعر المختطف ( عباس الحميدي ) رئيس الاتحاد للقاء الرمز العراقي الكبير مظفر النواب ، أرسلته وزارة الثقافة العراقية فترة وزيرها مفيد الجزائري ، ومن حسن الصدف أن أكون ضمن ذلك الوفد ، استمع لنا النواب طويلا وقرأنا بحضرته قصائدنا ، وشاركنا بتلك الليلة الرائعة الفنان فؤاد سالم ، وسعدون جابر في فندق الشام الكبير ، ولم نحصل من النواب موافقة بالعودة للعراق أو عدمها ، بل لم يتكلم بهذا الاتجاه ، وحين أثارت الصباح الغراء مسألة عودة النواب وطرحت على الرأي العام مسألة عودته ، وجمعت الآلاف من التواقيع مطالبة الحكومة بالتدخل رسميا لعودة النواب الكبير ، ولم نعلم لأي درجة وصل ذلك التدخل ، وعلمت من الأستاذ كامل الحلاوي(3) ، أن فخامة رئيس الجمهورية جلال الطلباني التقى بالنواب لنفس الغرض ، وأخبرني أيضا أن الأستاذ شيروان الوائلي وزير الأمن الوطني زار النواب موفدا من قبل دولة رئيس الوزراء نوري المالكي ، وزاره نائب رئيس الجمهورية عادل عبد المهدي لنفس الغرض أيضا ، وعرض الجميع المساعدة المالية له ولكن الإباء النوابي رفض تلك المعونات كما هو شأنه أبدا ، عام 2009 م زرت العاصمة السورية بدعوة من منظمة الحزب الشيوعي العراقي هناك لإحياء أمسية شعرية لهم ، فوجئت بدخول الرمز العراقي مظفر النواب لحضور الأمسية المقامة لي ، قلت لهم حينها من منا الأكثر سعادة بحضور النواب الكبير ، أنتم أم أنا الذي أقرأ بتواضع كبير قصائدي بحضور رمز عراقي قل نظيره ، سألت النواب حينها متى العودة للعراق سيدي ؟ ، أجابني بأنهم يقولون إن الأوضاع غير مستقرة للآن ، إن جل ما نخشاه أن يغادرنا المغادرة الأبدية رمز وطني وسياسي ، وقامة شعرية يصعب بل يندر تكرارها ، وإنسان أحب بلده العراق وقاتل من أجله ومن أجل حرية الجميع ، وهل سنرى العراقيات وهن ينثرن الحلوى على قامته المرفوعة عائدا من غربته كما يقول برائعته الأخيرة ، ( طشة املبس تهلهل / والنهر صفنة بحر / والروح بيد الله سفينه / اشراعها روج وكمر / .... مشتاكة من اتلاثين غربة / اتحاجي دجلة /أوصل البلام أبعكدنه / ألتمن النسوان / أيعكدن بيه النذور) ، متى سيكون ذلك أيها المظفر الرمز .
دعوة بين يدي الشرفاء لإنهاء معاناة عراقية كبيرة ، فلن يخسر النواب شيئا إن قضى غريبا ببلاد أجبر على البقاء فيها طويلا ، وبالمقابل سيخسر العراق مثل هذه المدرسة النضالية العراقية الكبيرة ، والقامة الباسلة ، دعوة للأصلاء الشرفاء فقط .