"ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان".. حكمة عظيمة نتناقلها فيما بيننا، وتُوضع فوق مكاتب النخبة المشهورين وكثير من المفكرين والجمعيات الخيرية، وقد يعيها البعض ولا يعيها آخرون ولا يعي مضمونها ناس بين هؤلاء وأولئك..

كنت دائماً أقرأ العبارة السابقة وأفهمها كما فهمها الكثيرون، وهو أنها تشير إلى أهمية الجانب الروحي والمعنوي للإنسان في حياته؛ لكن تولد لديّ فهم جديد لها في ضوء حديث نبوي شريف جاء فيه "الكلمة الطيبة صدقة"، وعندما كنت أقرأ عن الشاعر الألماني ريلكه الذي يحكي عن جانب من حياته في باريس فيقول:

"كنت أذهب للجامعة كل صباح بصحبة صديقة فرنسية, وكانت هناك متسوّلة تجلس في أحد الجوانب تلتقط ما يلقى إليها من النقود المعدنية.. لم أفكر يوماً أن أعطيها شيئاً؛ ربما لأني لم أجد يوماً ما أقدّمه في ذلك الوقت؛ بينما كانت صديقتي تعطيها بضعة فرنكات.. فكرت أن أمنحها شيئاً يساعدها على مشقة الحياة وتستطيع الانتفاع به، وبالفعل حملت زهرة لطيفة منحتها إياها في صباح يوم ما؛ لكن يا للعجب لقد كان أثر ذلك فوق التصور؛ لقد رفعت العجوز عينيها ونظرت إليّ بحنان ورقة غريبة، ثم وقفت بصعوبة لتمسك بيدي وتقبّلها, ثم مضت وهي تضم الوردة إلى صدرها.

وبعد ذلك غابت السيدة عن مكانها المعهود أياماً ثم عادت كسابق عهدها جامدة منكّسة الرأس تمد يدها لتلتقط ما يلقى إليها؛ فسألت صديقتي الفرنسية: "أين كانت طوال الأيام السابقة؟ وممّ كانت تعيش وتقتات؟ فأجابت: من الوردة".

هل ما جاء في هذه القصة هو ما عناه النبي صلى الله
عليه وسلم حين ضم الكلمة الطيبة إلى مفهوم الصدقة التي هي مساعدة مادية ملموسة تعين المسلم الفقير على حياته؛ فهل الكلمة الطيبة بهذا الحجم وبتلك القيمة التي توازي القيمة المادية؟ ومثلها معانٍ أخرى روحية كالبسمة مثلاً كما قال صلى الله عليه وسلم: "تبسّمك في وجه أخيك صدقة"، وأمرنا تعالى حين ندفع القيمة المادية للفقير أن نقرنها بقول لطيف يرفع معنوياته ويعينه على الحياة، أو بدعوة طيبة تنفعه ويسعد بها فقال: {وقولوا لهم قولاً معْرُوفًا}.

لقد وعى عظماء المفكرين وعلى رأسهم النبيّون والعارفون معنى الكلمة، ودورها في حياة الإنسان وإحيائه، فتكون غذاء للجسد كما هي غذاء للروح.. بل إن العشاق في كل زمان يشعرون بقيمة هذه الكلمة في حياتهم، قيمة قد تغنيهم عن الغذاء المادي؛ حين يسمع الحبيب صوت محبوبه أو يجلس معه أو يقرأ خطاباً منه أو يسمع خبراً عنه.

فلا تبخل -عزيزي القارئ- بكلمة طيبة أو بسمة لطيفة أو نظرة حنون أو مسحة على رأس أو ربتة على كتف تُدخل بها السرور على قلب مَن حولك، وتحمل في طياتها معاني المحبة والتآخي، وتكون لك ذخراً وصدقة