حكاية سمكٍ تالف: الغزيون يفطرون على الفسيخ بعد رمضان.. كيف طوّروه عن النسخة المصرية؟
كان الصيادون الفلسطينيون الذين يمكثون أياماً طويلة في البحر يضعون ما يصطادونه من سمك في الملح خوفاً من تلفه، وقد أخذوا هذه الطريقة من الصيادين المصريين الذين يلتقون بهم في البحر.
لكن الحكاية لم تبدأ هنا، فقد جرت العادة أن يترك الصيادون المصريون السمك الطازج حتى يبدأ بالتلف ثم يضعونه في الملح، ليصبح فسيخاً معتَّقاً.
شم النسيم
عرف الفلسطينيون الفسيخ أكثر عن طريق عيد شم النسيم المصري (عيد الربيع في مصر)، حيث يتناول فيه المصريون الفسيخ المعد بطرق مختلفة، منه من تم وضعه في الملح طازجاً أو مجمداً أو قد اقترب من التلف، وكلما طال عمر الفسيخ زاد سعره وجودته حسب رأيهم.
يقول الصياد محمد صيدم 73 عاماً لـ"هافينغتون بوست": "قديماً لم تكن طريقة التجميد لحفظ السمك معروفة، ولم تكن الثلاجات متوفرة فكنا نحفظ السمك إما بالتجفيف في الشمس كسمك السردين الصغير، وإما بحفظه داخل الملح، لم نكن نستسيغه في البداية لكن بعد ذلك أصبح طعمه مقبولاً بل ومفضلاً، وكان الناس يأتون إلينا لنعطيهم منه".
سمكٌ تالف
وحول طريقة عمل الفسيخ تقول الحاجة زينب أبو سمرة لـ"هافينغتون بوست عربي": "كان زوجي الصياد يحضر سمكاً قد اقترب من التلف نتيجة مكوثه في الشباك في فصل الصيف، وكنا بدل أن نتلفه نحفظه بالملح، والطريقة الرائجة نملأ السمكة بالملح في جوفها وفوقها وتحتها، ثم نضعها في كيس من الخِيشْ (كيس من خيوط الصوف) وندفنها في الرمل لمدة شهر أو شهرين، وقد تصل الفترة لعامين، ونخرجها وقت الحاجة ثم ننقعها في الماء لتخفيف حدة الملح، ونقليها كما السمك تماماً".
وبينت الحاجة زينب أن أكل الفسيخ كان نتيجة الفقر، وعدم توفر وسائل لحفظ السمك كالتجميد، ثم أصبح تقليداً وموروثاً شعبياً تقبل عليه الحوامل في شهورها الأولى، ويفطر به الناس في عيد الفطر بعد صيام ثلاثين يوماً.
ويفطر الغزيون على الفسيخ أول أيام عيد الفطر السعيد في اعتقاد سائد منهم أن الملح داخله يطهِّر المعدة، ويجعلها أقوى بعد شهر من الصيام، فيكون أول فطور لهم.
تطوير جذري للفسيخ
لكن المهاجرين من قرية بشيت الفلسطينية المحتلة والمقيمين في قطاع غزة طوَّروا هذا التقليد فابتكروا طبقاً جديداً من الفسيخ والبيض مشوياً يقدم في أيام عيد الفطر الثلاثة كوجبة فطور وغذاء، تجتمع فيه العائلة من كل مكان، ويقدم على المائدة.
وتقول الحاجة أم محمد شحادة من قرية بشيت لـ "هافينغتون بوست عربي": "يستغرب الناس من هذا التناقض الذي يجمع بين سمك الفسيخ والبيض، لكن سرعان ما يغيرون رأيهم بعد تذوق هذا الطبق، نحن نأكل في العيد أكثر من 12 كيلو من الفسيخ مع البيض والبصل".
ويقبل الغزيون على شراء الفسيخ المصنوع من سمك "الجرع" أو "الدنيس" المجمد من قبل تجار معروفين، وتمتلئ أسواق قطاع غزة وشوارعه بهم في العشر الأواخر من رمضان ويصل ثمن الكيلو منه حوالي 20 شيكلاً أي قرابة 6 دولارات، ولعدم رغبة بعض الناس بالفسيخ المجمد، بدأت الأسواق تبيع "الرينجا" –السمك المدخن- كبديل عن الفسيخ، مع تنوع أذواق ورغبات الناس.
الرينجا
الشاب أكرم الزطمة يعتبر من أمهر معدي "الرينجا" في قطاع غزة، يعد للأسواق في موسم عيد الفطر قرابة 250 كيلو من سمك "السكومبلا" المجمد.
يقول لـ"هافينغتون بوست": "هناك إقبال شديد على السمك المدخن كفطور تقليدي في عيد الفطر بديلاً عن الفسيخ نظراً لقلة ملوحته مقارنة بالأخير، نشتري السمك وننظفه ثم ننقعه بالماء والملح ليلة كاملة، ثم نعلقه في أسياخ ونضع تحته برادة الخشب الناعم، ونشعل النار تحته لينضج ببطء على دخان الخشب، ولمدة أربع ساعات متواصلة، يصبح بعدها جاهزاً للبيع".
المواطنون اختلفوا في ذوقهم فقد فضل أحمد موسى السمك المدخن "الرينجا" على الفسيخ نتيجة لطعمه وقلة ملوحته، وهروباً من كثرة شرب الماء بعد أكل الفسيخ في عيد الفطر، وخوفاً من اختلاط الأسماك في المعدة مع الحلويات التي يقدمها المستقبلون لضيوفهم داخل بيوت الغزييين.
لكن الأستاذ جهاد عبد الجليل خالفه الرأي، لاعتقاده أن الفسيخ تقليدٌ مهم أول أيام العيد، وتقليد متّبع بالرغم من قسوته على المعدة.
أضرار الفسيخ
وأوضح الدكتور محمد مناع أن أضرار الفسيخ على المعدة كبيرة، خصوصاً إذا كان السمك المفسخ تالفاً أو غير مجمّد بطريقة جيدة قبل استخدامه.
وقال لـ"هافينغتون بوست عربي": "يأتي إلينا كثيرٌ من المرضى أيام عيد الفطر مصابين بنزلة معوية، نتيجة اختلاط الحلويات مع الفسيخ في معدتهم، فالفسيخ خطيرٌ للغاية لامتلائه بالملح، وتناوله مضرٌّ جداً للأطفال خصوصاً".
ورغم المخاطر الصحية للفسيخ إلا أنه يبقى طبقاً تقليدياً يتناوله الغزيون في عيد الفطر، فلا تكاد مائدة إفطار تخلو منه، وتعبق الرائحة في شوارع قطاع غزة صبيحة أيام العيد، ويتبادله الناس كمادّة للحديث في زياراتهم.