لا جدال في أن النزاعات التي شجرت بين ملوك الطوائف، وما تلاها من مواقف متخاذلة، كان لها وقع سيِّء في نفسية بعض العلماء الذين بادروا إلى الدعوة إلى نبذ الخلافات؛ بغية تشكيل جبهة إسلامية متراصَّة، قادرة على قطع دابر الصليبيين والتصدِّي لمشاريعهم التوسيعية. وقد اشتدت هذه الدعوة التوحيدية منذ سقوط طليطلة سنة 487هـ.
العلامة الفقيه أبو الوليد الباجي:
وأشهر هؤلاء العلماء العلامة الفقيه أبو الوليد الباجي (403 - 474هـ) الذي جال في بلاد الأندلس طولًا وعرضًا، داعيًا إلى وحدة الصفوف، ومحذرا من عواقب التفرقة والنزاع.
وتتضارب المصادر حول ما إذا كان هذا العالِم قد قام بمبادرته من تلقاء نفسه أم أن حاكم بطليوس المتوكل بن الأفطس قد ندبه إلى ذلك. فإن ابن الأبار يؤكّد الرواية الأخيرة بينما ذهب مؤرخون آخرون إلى تبني الرواية الأولى، فأكّدوا أن الباجي قام بدعوته التوحيدية الوعظية من تلقاء نفسه. ونحن نرجّح الرواية الأخيرة (من تلقاء نفسه) نظرًا لإجماع المؤرخين عليها، ولكونها أقرب إلى سياق المنطق التاريخي، إذ لا يعقل أن يسعى أمير تمت إدانته من قِبَلِ كافة المصادر بسبب مساهمته في تشرذم الأندلس إلى المطالبة بتوحيدها.
ومما يسترعي الانتباه، أن دعوة الفقيه الباجي بدأت مباشرةً بعد عودته من المشرق العربي، مما يعكس وحدة الظاهرة في التاريخ العربي، والظروف المشتركة التي استلزمت التصدّي للخطر الصليبي في المشرق والمغرب على السواء.
ورغم أن جهوده لم تسفر عن نتيجة عملية، فقد نجح الفقيه الباجي على الأقل في وضع أمراء الطوائف أمام الأمر الواقع، وأشعرهم بمسؤوليتهم القومية وضرورة نبذ خلافتهم، وتوحيد كلمتهم لمجابهة الخطر النصراني.
العلامة المحدث أبو حفص عمر بن الحسن الهوزني:
وإلى جانب أبي الوليد الباجي، برز دور العلامة المحدِّث أبي حفص عمر بن الحسن الهوزني، الذي جسَّد بحق نموذج الشجاعة والجرأة والروح النقدية الحرة المستقلة، التي أبان عنها بعض العلماء الأندلسيين تجاه حالة التمزق التي عرفتها الأندلس في عصر الطوائف، وما نجم عن ذلك من خطر صليبي، حتى إن موقفه الصلب هذا كان وراء اغتياله.
ولا يساورنا شك في أن رحلته إلى المشرق العربي جعلته يقف على مفاسد المجتمع الإسلامي، وعلى الأزمات التي كانت تعصف به، والتمزق الذي صار ينخره، فعاد يحمل في نفسه همَّ الدعوة إلى الوحدة ورصَّ صفوف الأمة الإسلامية.
وبمجرد عودته، التقى بالفقيه أبي الوليد الباجي، وهو لقاءٌ لم تكشف المصادر عمَّا دار فيه من حوار بين الفقيهين. بيد أن تأزم الأوضاع في الأندلس واشتداد شوكة المسيحيين يجعلنا نفترض أن بعض مواضيع الحوار دارت حول مسؤوليتيهما في القيام بدور الوعظ ونصح أمراء الطوائف بتوحيد شبه الجزيرة الأندلسية، وإفشال التطلُّعات الصليبية.
ويخيّل إلينا أن سقوط مدينة بربشتر كانت الحدث الأكثر تأتيرًا في نفسه. فقد تألَّم للمذابح والمآسي التي أصابت مسلمي الأندلس، فبعث إلى المعتضد رسالة تفيض بالغيرة والحماس يحضُّه فيها على جهاد الكفرة وتحرير المدينة المحتلة. والملاحظ أنه دعَّم رسالته باستشهادات قرآنية لإضفاء المشروعية الدينية على جرأته وصراحته. لكن ذلك لم يحلْ دون دفع الثمن غاليًا، فقد امتعض المعتضد لما جاء في الرسالة، فقتله بيده، وهو مثال صارخ للتضحيات التي قدَّمها بعض العلماء خدمة لقضايا أمتهم.
العلامة الفقيه ابن عبد البر:
ومن العلماء الذين قاموا بنفس الدور كذلك عن طريق الدعوة إلى الوحدة واستنهاض الهمم، الفقيه ابن عبد البر. ورغم أسلوب التقية الذي نهجه، ومساندته لسياسة المعتضد، فإن بعض كتاباته جاءت زاخرة بالدعوة إلى الوحدة، ورصِّ صفوف عرب الأندلس أمام الزحف الصليبي.
الفقيه أبو محمد علي بن حزم:
ومن أهم العلماء الأندلسيين كذلك الذين عارضوا ملوك الطوائف على تقاعسهم في رد الخطر الصليبي، هناك الفقيه أبو محمد علي بن حزم، أحد فطاحلة علماء القرن الخامس الهجري. فعلى خلاف بعض العلماء الذين تبنُّوا مبدأ الواقعية وعدم الجرأة للتعبير عن معارضتهم لنظام الطوائف، على الأقل حتى ظهور يوسف بن تاشفين.
كان ابن حزم أكثر إفصاحًا في معارضته المطلقة واللامشروطة لدول الطوائف، بل طعن في شرعية "النظام الطائفي"، معتبرًا كل أمير "محارب لله تعالى وساع في الأرض بفساد"، كما أدان عصر الطوائف ونعته بعصر الفتنة والغلب، بل عدَّ جَميع الأموال المتداولة في هذا العصر غير شرعية كذلك.
أثر العلماء والفقهاء في دعوة المرابطين للأندلس:
لكن وباستثناء هؤلاء العلماء وعلماء غيرهم قلة، فقد كانت معارضة العلماء لأمراء الطوائف ونظامهم المهترئ العاجز عن ردع الأطماع الصليبية معارضة خجولة في البداية، اكتفت بالتلميح واللف والدوران أحيانًا، وبالصمت أحيانًا أخرى، وذلك بسبب انقسامهم على أنفسهم، وعدم امتلاكهم قوة عسكرية لتغيير الأوضاع.
غير أن عاملَيْن ساهما في بروز معارضتهم بشكل قوي وصريح. يتمثّل الأول في عجز أمراء الطوائف عن تشكيل جبهة موحدة قادرة على ردع الخطر الصليبي، بينما يتجلى العامل الثاني في ظهور الأمير المرابطي يوسف بن تاشفين على الساحة السياسية، فضلًا عن المساندة الشعبية التي أصبح يتمتع بها هذا الأمير.
انطلاقًا من هذه الظرفية الجديدة، بدأ العلماء يبذلون قصارى جهدهم لإقناع حكَّام الأندلس بضرورة الاستنجاد بيوسف بن تاشفين لمواجهة سياسة ألفونسو السادس التوسعية، خصوصًا بعد أن صار هذا الأخير يلوِّح باحتلال الأندلس كلها، فأكدوا لهم أن الأمير المرابطي بات الخيار الوحيد لإنقاذ الأندلس، وأن أي فشل في طلب مساندته سيؤدي حتمًا إلى محو الوجود العربي في ذلك البلد الإسلامي.
غير أن دور الوساطة الذي قام به العلماء لتحقيق وحدة الدولة الإسلامية في الأندلس لم يجد آذانًا صاغية، مما جعل هؤلاء يصعِّدون الموقف، ويتخذون إجراءات أكثر نجاعة وحزمًا، وذلك بإصدار فتاوى فقهية تسمح ليوسف بن تاشفين بإسقاط الحكَّام المتخاذلين، وغزو الأندلس وتوحيدها ،كخطوة ضرورية وحاسمة لمجابهة التحديات النصرانية.
المصدر: إبراهيم القادري بوتشيش: إضاءات حول تراث الغرب الإسلامي وتاريخه الاقتصادي والاجتماعي، بتصرف، دار الطليعة للنشر، مارس 2002م.
قصة الإسلام