كان فتح جزيرة صقلية ابتداء من سنة 212هـ / 827م أيام الأمير الأغلبي زيادة الله الأول بن إبراهيم بن الأغلب ثالث أمراء دولة الأغالبة، وتم فحها كاملة في أيام إبراهيم بن أحمد الثاني 261هـ / 875م، وهو الذي عبر إلى قلورية وغزا جنوب إيطاليا حتى كسنته، فضلا عن فتح جزيرة مالطة سنة 256هـ / 870م في عهد الأمير محمد بن أحمد بن الأغلب الملقب بأبي الغرانيق. وتمكن الأغالبة من نشر الكثير من مظاهر الحضارة في تقدمهم إلى جنوب إيطاليا وفتح مدينة مسيني وباري وطارنت، وهددوا روما مرتين في سنة 229هـ وسنة 256هـ، ووصلوا حتى مصب نهر البو في شمال شرق إيطاليا. واستمرت دولة الأغالبة تحكم في أفريقيا و صقلية ومالطة إلى أن قضت عليها الدولة العبيدية الفاطمية سنة 296هـ / 909م، وورثت أسطولها وممتلكاتها في حوض البحر المتوسط.

سيطرة العبيديين على صقلية
طال عهد الشقاق والفتنة بصقلية عند تغير الحكومة في أفريقية بزوال دولة الأغالبة وقيام العبيديين، وربما كانت تلك الفتن المتكررة (300 - 327هـ) تعبيرًا عن محاولات للاستقلال، وشعورًا داخليًا من شيوخ الجزيرة بكرههم للتبعية لأفريقية، ولكنها لم تكن كذلك في كل مظاهر العصيان، بل كانت أحيانًا أخرى مسببة عن كره بعض الولاة للحكومة الشيعية الجديدة وميلهم بعواطفهم إلى الخلافة العباسية.

ومنذ هذا الحين نجد صقلية أولًا، وشمالي أفريقية ثانيًا، مسرحًا للتنافس بين الخلافتين العباسية والفاطمية، وكانت الفتن في أحيان أخرى نتيجة ظلم الولاة واعتبارهم صقلية كنزًا يغترفون منه ما يملأ جيوبهم وخزانة دولتهم بالمال. وضرب الصقليون في هذه الفترة أمثلة كثيرة في التقلب وعدم الثبات على حال، وفي فزعهم إلى العدو الخارجي يستغيثون به، كأنما كانت تسيرهم المصلحة العاجلة وحدها دون بعد في النظر، وسيظل هذا هو الداء العضال الذي تشكوه صقلية، بحكم موقعها، وسيكون هذا الداء سببًا في القضاء على السيادة الإسلامية في أرجائها.

ونستطيع أن نتصور التبعية المطلقة التي كانت تدين بها صقلية لأفريقية أيام الأغالبة، إذا عرفنا أن عبيد الله المهدي، حال تسليمه المقاليد، أرسل إليها بوال وقاض من قبله، ولا نعرف أنه حاول عندئذ أن يرى رأى صقلية في المسألة، ولا أنه حسب لامتناعها عليه حسابًا، فأعد لإخضاعها أسطولًا إن هي حاولت أن تقف موقف المعاند الجريء.

ولاية ابن قرهب على صقلية
ولم يثر الصقليون على أول ولاة المهدي، إلا حين أساء السيرة فيهم، واعتذروا إلى المهدي مما فعلوه فقبل عذرهم، وولى عليهم واليًا آخر، فلما آنسوا منه لينًا وضعفًا، عزلوه وولوا عليهم أحمد بن قرهب. والحقائق التي نستطيع جمعها عن هذا الوالي الجديد تصوره رجلا بعيد الطموح، ولكن يشك في بعد نظره، كان يفهم طبيعة الصقليين فهمًا تامًا، ويعرف أن العنصر الصقلي قد قوي إلى حد لا يستطاع إخضاعه أو قهره بالعسكر الصقلي نفسه، إذ كان من السهل أن يتفاهم الشعب والجيش على خصومه الوالي الأجنبي عنهم. وكان يعلم أن أهل بلرم خاذلوه دون اكتراث كثير لأيمان أو عهود، ومع ذلك فقد قام بعدة محاولات فيها ما يناقض هذا الفهم، فأسرع بنفسه إلى الهاوية ووقع فريسة لتقلب الصقليين.

حاول ابن قرهب أن يغير العاصمة فأرسل ابنه إلى طبرمين ليفتحها ويجعلها حصنًا يأوى إليه هو وأبناؤه وعبيده وأمواله، ونسى أن طبرمين امتنعت على كل قائد من قبله، وغفل كذلك عن أن طبرمين في منطقة مسيحية لا تتجاوب معه في العواطف، وأنها لا تصلح حتى أن تكون ميناء يهرب منه إلى المشرق. وعند أسوار طبرمين ثبت لابن قرهب فعلا أن الجند الصقلي كان قد أصبح أداة فاسدة، إذ اختلفوا على ابنه أثناء الحصار وكرهوا طول الإقامة، واحرقوا خيمته، وكادوا يفتكون به، لولا أن حماه العرب. وحماية العرب له تدل على أن ابن قرهب كان قد انحاز إلى الفئة القليلة ولم يكن ذلك يرضى الصقليين.

ثورة ابن قرهب على العبيديين بصقلية
والظاهر أن ابن قرهب لم يكن في بادئ الأمر يفكر في الخروج على المهدي، وشاهد ذلك أنه كتب إليه القول: "إن أهل صقلية يكثرون الشغب على أمرائهم ولا يطيعونهم، وينهبون أموالهم، ولا يزول ذلك إلا بعسكر يقهرهم ويزيل الرياسة عن رؤسائهم". فمثل هذا القول يدل على إخلاصه النصح للخليفة العبيدي، ولا ندري ما الذي غيره عن هذه الطريقة فإذا به يستميل أهل صقلية، ويقنعهم بالثورة على المهدي والدعوة لبني العباس، وإذا هو يطمئن إلى الصقليين وينسى سرعة تقلبهم. وإجابة الناس إلى طاعة المقتدر فخطب له بصقلية وقطع خطبة المهدي. وكتب إلى المقتدر ببغداد أن يكون داعيًا له وقائمًا بأمره بجزيرة صقلية، فأنفذ المقتدر ذلك له، وبعث إليه بألوية سود وخلع سود وطوق ذهب، ولما وصل إليه ذلك سُر به، وأظهر الحزم والجد في أمره.

وبدأ بالمقاومة العملية، فأحرق أسطول المهدي بمرسى لمطة وقتل قائده وأسر من أصحابه نحو ستمائة رجل، وبلغ الأمر عبيد الله فأرسل جيشًا يدافع عن الأسطول، ظنًّا منه أنه لا يزال يمكن إنقاذه، فظفر ابن هرقب بأصحابه وغنم ما معهم. ثم اتسعت خطة ابن هرقب فأراد أن يغزو المهدي في عقر داره فبعث بأسطول إلى أفريقية، ولكن أسطول المهدي انقض عليه، وأخذ مراكبه، وطارت أحلام ابن قرهب في لحظة.

واستيقظ أهل صقلية من سحر ابن قرهب، ورأوا أن الوقت حان لإعلان العصيان، وكان البادئ بذلك أهل جرجنت فكتبوا إلى المهدي، وتبعهم في ذلك أهل البلاد الأخرى، وثارت صقلية كلها على ابن قرهب ودعوته العباسية، ولم تنفعه خلع المقتدر وألويته. وحاول مداراة أهل البلد وملاينتهم فلم تثمر محاولته، ثم فكر في النجاة إلى الأندلس واكترى مراكب وشحنها متاعًا، فحال أهل صقلية بينه وبين ما أراد، وانتهبوا ما كان له، وأسروه هو وابنه وقاضيه ابن الخامي. وبعثوا بهم إلى المهدي فقتلهم وصلبهم، وانتهت بذلك هذه الحركة الخطيرة.

ولاية سالم بن أبي راشد
ولم يكن أهل صقلية جادين في تحولهم نحو العبيديين، كانوا يريدون الخلاص من ابن قرهب فتم لهم ذلك، ثم أرادوا أن تكون الحكومة في أيديهم وأن لا يكون المهدي إلا اسم، فأرسلوا يطلبون منه واليا وقاضيًا، ويظهرون عدم احتياجهم إلى رجال أو مدد، ويشترطون شروطًا خاصة، وكانوا ينوون من ذلك أن تظل المبادرة في أيديهم، وأن يتحكموا في الوالي كيفما طاب لهم، ولكن ابن قرهب لم يمت قبل أن يفضي للمهدي بسر حالهم، وعرف المهدي كيف يؤدبهم، فجهز إليهم جيشًا من الكتاميين أنصاره الخلص، وأخرجهم في أسطول فأظهرت بلرم الامتناع، فحاصرها القائد بجيشه وقتل جملة من أهلها، وأحال كتامة على من ألفى في أرباض المدينة من النساء والذرية فعبثوا بهم وافترع الجواري الأبكار. وعندئذ طلب أهل صقلية الأمان ودفعوا للقائد العبيدي المحرضين على الفتنة، فآمنهم وهدم سور مدينتهم وأخذ سلاحهم وخيلهم وضرب عليهم مغرمًا، وبعث بمن أخذ منهم إلى عبيد الله في مراكب فانكفأت بهم في البحر. وأتاه كتاب من المهدي يأمره بالعفو عن العامة.

وولي صقلية سالم بن أبي راشد وجعل له حراسًا من كتامة. وكان سالم مثال الوالي الظالم العسوف، فعهد بحكم المدن إلى ولاة غلاظ قساة، وحاق بالناس ظلم أخرجهم عن طورهم وأدى بهم إلى الاستماتة في مقاومة ذلك العسف، فثارت جرجنت واقتدت بها بلرم، فأرسل سالم إلى الخليفة القائم يعرفه أن أهل صقلية خرجوا عن طاعته وخالفوا عليه.

ولاية خليل بن إسحاق
فأمده بجيش على رأسه خليل بن إسحاق. واستقبل الناس خليلًا بالشكوى، وخرج إليه النساء والصبيان يبكون ويشكون، حتى رق الناس لهم وبكوا لبكائهم. وتذمروا من سالم وسياسته، وظنوا أن الخلاص سيكون على يدي خليل، ولكن سرعان ما كذبتهم الظنون، فإن سالم بن أبي راشد خلا بهم وأفهمهم أن خليلًا جاء لينتقم منهم بمن قتلوا من عسكره، وتحقق لديهم صدقه حينما أخذ خليل يهدم أسوار بلرم، ويبني عند المرسي مدينة ويحصنها، وهي التي سماها "الخالصة"، وأرهق الناس في أعمال البناء، فخاف أهل جرجنت، وحصنوا مدينتهم واستعدوا للحرب، فسار إليهم خليل سنة 326هـ / 936م وحاصرهم ثمانية أشهر ولم يخل يوم واحد فيه من القتال، ولما حل الشتاء رحل عنهم إلى الخالصة.

وسعى أهل جرجنت فألبوا عليه المدن الأخرى، وفي السنة التالية ثارت جميع القلاع وأهل مازر. وكاتب الجرجنتيون ملك القسطنطينية يستنجدونه فأمدهم بالمراكب فيها الرجال والطعام. وفزع خليل ورأى أن صقلية تؤول إلى الانفلات من قبضة العبيديين فاستنجد بالقائم فأمده بجيش كبير، فأخذ يحاصر القلاع، حتى انقضت سنة 327هـ وضيَّق على جرجنت، وظل يحاصرها حتى سنة 329هـ، فسار كثير من أهلها إلى بلاد الروم، وتنصر أكثرهم، وطلب الباقون الأمان فأمنهم على أن ينزلوا من القلعة، فلما نزلوا غدر بهم وحملهم إلى المدينة، ولما سقطت زعيمة الثورة أذعنت سائر القلاع، وهدأت صقلية بعد أربعة أعوام قضاها خليل في حروب وحصار. ولما عاد إلى إفريقية أخذ معه وجوه أهل جرجنت وفي عرض البحر خرق بهم السفينة فغرقوا.

وذات يوم كان خليل في أحد المجالس وحوله جماعة من وجوه الناس، والحديث بينهم ينتظم ويفرق، ولما بلغ القوم الحديث عن صقلية قال خليل مفتخرًا: "إني قتلت ألف ألف بقول المكثر، والمقلل يقول: مائة ألف في تلك السفرة"، ثم قال: "لا والله إلا أكثر"؛ فرد عليه واحد من الجماعة بقوله: "يا أبا العباس لك في قتل نفس واحدة ما يكفيك".

فترة الفتن ثم ولاية الكلبيين على صقلية
بعد أن رحل خليل بن إسحاق ولي على صقلية محمد بن الأشعث وعطاف الأزدي، فى سنة 330هـ. فمات محمد بن الأشعث فى سنة 334هـ، واستقل عطاف الأزدي بالأمر إلى سنة 336هـ، فكتب إلى المنصور العبيدي الفاطمي يخبره بتحامل أهل صقلية وأن أمرهم يؤول إلى فساد، تمثل ذلك في بروز ظاهرة الرؤساء المحليين أصحاب المطامع، وفي مقدمتهم آل الطبري ومحمد بن عبدون ومحمد بن جنا زعماء المقاومة والشغب في بلرم، نتج عن ذلك دخول صقلية في فترة من الفتن والخلافات الداخلية، وقد استفاد البيزنطيون من ذلك فاحتلوا الطرف الشرقي من الجزيرة ولعدة سنوات.

وأمام ذلك استعمل المنصور العبيدي الفاطمي الحسن بن على بن أبى الحسين الكلبى سنة 336هـ / 947م، وكان مكينًا عند المنصور لمحبته ونصحه وتقدم خدمة سلفه لآبائه، فاستطاع الحسن بدهائه أن يقمع الشغب، فهابه الناس وخشي الروم في شبه الجزيرة الإيطالية سطوته فأدوا له الجزية. ومن هنا بدأت دولة الكلبيين المستقلة في صقلية.

من أهم المصادر والمراجع:
إحسان عباس: العرب في صقلية .. دراسة في التاريخ والأدب، الناشر: دار الثقافة، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1975م. ابن الأثير: الكامل في التاريخ. ابن خلدون، تاريخ العبر. النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب. ابن عذاري: البيان المغرب. أماري: المكتبة الصقلية.


قصة الإسلام