أوّل خريطة تظهر ازدهار واندثار أعظم مدن العالم عبر التاريخ.. خطوة لفهم التوزيع الجغرافي لكثافة السكان
إن التمدن أحد العمليات المميزة للعصر الحديث، خاصة في ظل سكن نصف سكان العالم ضمن المدن حالياً وصعود المدن العملاقة الكبرى في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا. لكن السجلات وقواعد البيانات الرقمية الخاصة بسكان المدن لطالما كانت ناقصة عبر التاريخ، فسجلات الأمم المتحدة لا يرجع تاريخها إلا لعام 1950 فقط.
لكن الأمر تغير عندما برزت دراسة بحثية جديدة نشرتها مجلة البيانات العلمية Scientific Data ورصدتها صحيفة الغارديان البريطانية، الإثنين27 يونيو/حزيران 2016، سطرت فيها معلومات جغرافية وسكانية على مدى 6 آلاف عام من المعلومات والبيانات بين عامي 3700 قبل الميلاد وحتى عام 2000.
التقرير مرجعٌ ضخم لكل الدارسين الذين يودون فهم أسباب ازدهار وعمران المدن ومن ثم خرابها عبر الزمن، كما أن التقرير قدم للمدون ماكس غالكا مادةً ثرية لكي ينتج مادة مصورة توضيحية على موقعه Metrocosm.
ميريديث ريبا من كلية العلوم البيئية والغابات بجامعة يال كانت هي رئيسة فريق البحث، قالت "بشكل عام تساعدنا الدراسة على رؤية التفاعل البشري مع البيئة وفي فهم أسباب نمو الاستقرار المدني في أزمان معينة."
الدراسة استقت بياناتها من مصدرين هما كتابان ضخمان غير متوفرين على الإنترنت هما للمؤرخ تيرشس تشاندلر والعالم السياسي جورج موديلسكي، فمنهما خرجت ريبا وفريقها ببيانات وضحت بالرسم الخرائطي تطور كثافة المدن السكانية حول العالم وعبر القرون والألفيات الزمنية؛ خريطة البيانات التي نتجت عن البحث متوفرة مجاناً على الإنترنت وتعد "أول خطوة لفهم التوزع الجغرافي لكثافة سكان المدن عبر التاريخ وحول العالم."
وفق الدراسة يبدو أن مدينو إيريدو السومرية كانت مهد التمدن في فجر التاريخ عام 3700 قبل الميلاد، ثم انتشرت ظاهرة التمدن عبر بلاد الرافدين وإيران والهند والصين قبل أن تتجه غرباً إلى المتوسط. الخريطة البيانية تظهر الأنماط والاتجاهات السكانية بجلاء ووضوح. مثلاً يظهر جلياً أمامنا أن أوائل المدن الممتدة بين الصين وحتى أميركا الوسطى كانت جميعها واقعة ضمن دوائر عرض متقاربة، ما يشير إلى وجود علاقة محتملة بين أولى مراحل التمدن وبين المناخ.
ظهرت مدن ومراكز سكانية كثيرة حول العالم لاحقاً، لكن مع ذلك لم يشكل سكان المدن سوى 3% من سكان العالم حتى وقت قريب عام 1800. الواقع أن التمدن العالمي بدأ في التسارع منذ أواسط القرن الـ19 وصاعداً كما يتضح من المادة المصورة المتحركة التي صممها غالكا (والتي يمكن أيضاً مشاهدتها على موقع كوارتز) حيث نشهد انفجاراً سكانياً للمدن يكتظ على الخريطة حوال عام 1875 ثم يعاود الظهور في القرن الـ20.
ويرجع تاريخ آخر بيانات الدراسة للعام 2000 للميلاد، لكن لو تم تحديث البيانات لتشمل يومنا هذا فرأينا بأعيننا النمو السكاني في القرن الـ21 في مدن آسيوية؛ وتقرُّ ريبا بأن البيانات "ليست نهائية أبداً، فهدفنا كان وضع قاعدة بيانات عالمية مدنية أغنى وأزخم بشكل سهل الاستخدام قابل للاختبار والتحسين."
ورغم أن التقرير لا يدرج أو يقدم أي نظريات خاصة به إلا أن ريبا وفريقها يأملون أن تساعد نتائج أبحاثهم كل الدارسين والباحثين لاستكشاف المواضيع التي لطالما حيرت الباحثين في مجال التمدن.
فقد كان الهدف الأساسي الذي دفع ريبا نحو إجراء هذه الدراسة هو الإحباط الذي أصابها من قلة وفقر البيانات المتعلقة بمجال اهتمامها الأساسي الذي هو العلاقة بين نمو المدن وبين قربها من الأراضي الزراعية. باستخدام البيانات وجمعها ببيانات مجالات أخرى يمكن استخدام الخريطة وبياناتها لتتبع واقتفاء أثر الاتجاهات الأعمق في المناخ والتفاعل البيئي فضلاً عن دراسة أثر النقل والمواصلات وطرق التجارة وتغير الحدود السياسية بين البلدان وأثر كل ذلك على نمو المدن.
لم تحفل ريبا كثيراً بالتوفيق بين التعاريف العديدة للمدن وماهيتها في أعمال تشاندلر وموديلسكي، فتعاريفهما تختلف وتتنوع كثيراً حسب اختلاف الأقاليم والعصور. فمثلاً يرى تشاندلر بشكل عام أن أي منطقة يزيد تعداد سكانها عن 20 ألف نسمة بين عامي 800 ميلادية و1850 ميلادية هي أهلٌ للتوثيق في السجلات، بيد أنه في الفترة والإطار الزمني ذاته لم توثق مدن آسيوية إلا عندما زاد تعدادها عن 40 ألف نسمة.
أما موديلسكي فتختلف حدوده الدنيا بتغير الزمن، فالحد الأدنى لسكان المدن لديه قبل عام 1000 قبل الميلاد يبلغ 10 آلاف نسمة في حين أنه يبلغ 100 ألف نسمة عام 1000 ميلادية ومن ثم يجب أن يبلغ مليون نسمة على الأقل في كل السنوات التي تليها. وقد جمع العالمان أرقامهما وإحصاءات المدن من عدة مصادر تضمنت الإحصاءات والتعدادات المحلية ووصف أسفار المتجولين من رحالة وغيرهم، فضلاً عن سجلات الضرائب والمجلات وسجلات الكوارث والحمامات العامة والأثرية.
ورغم وجود سجلات دقيقة لعدة مناطق صينية إلا أن قاعدة البيانات الجديدة شاملة أكثر لأنها تدرج التطور المدني الأوروبي بشكل مفصل أكثر من صعود وهبوط المدن في جنوب آسيا وأفريقيا وأميركا في فترة ما قبل كولومبوس. تقول ريبا عن هذا "هنالك بالتأكيد مركزية أوروبية في أفق هذه الدراسة" لكنها تأمل مع ذلك أن الاكتشافات الأثرية والبيانية الأرشيفية الجديدة ستساعد في توسعة القاعدة البيانية والبدء في ملء الفراغات الجغرافية والزمنية الأكثر غموضاً لدينا.
-هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.