الأسطول الأندلسي في عهد الفتح:
لما كان مضيق جبل طارق فاصلًا بين عدوة المغرب وبلاد الأندلس، فإن الحملات الاستطلاعية الأولى التي قادها أبو زرعة طريف بن مالك، وحملات الفتح التي قادها طارق بن زياد وموسى بن نصير، ومن ثم تعاقب الجيوش من وإلى الأندلس، فإن كل هذه الأمور تحتاج إلى أساطيل كبيرة لنقل المجاهدين وخيولهم وعتادهم، ولم يقتصر الأمر في أداء هذه المهمة على مراكب يوليان حاكم سبتة، ولا على مراكب تجار الروم التي كانت تختلف إلى الأندلس.
بل كان الاعتماد الأول وقبل كل شيء على الأساطيل العربية التي كانت تحت إمرة موسى بن نصير على طول الساحل المغربي. وقد قدمت دراسات مطولة حول هذا الأمر وحول إحراق طارق بن زياد للسفن، وكل أبدى رأيه [1].
الأسطول الأندلسي في عهد الولاة:
وعندما أكمل المسلمون فتح الأندلس (92 - 95هـ) وبدأ عصر الولاة في الأندلس (95 - 138هـ) أطلت جيوش المسلمين على سواحل أندلسية طويلة، تشرف على البحر المحيط (الأطلسي) وخليج بسكاي، وعلى البحر المتوسط، مما يجعلها عرضة لأي هجوم بحري أوروبي معادي. ولذا اعتمد المسلمون على دور الصناعة القديمة التي وجدوها في طرطوشة وطركونة ودانية وإشبيلية والجزيرة الخضراء، كما استفادوا من خدمات الخشب والحديد اللازمة لبناء السفن، فكان ذلك ولا زال موجودًا في الأندلس.
ولدينا خبر يشير إلى توفر وجود السفن أو صناعتها في الأندلس بعد فتحها، مفاده أن عياش بن شراحيل "دخل الأندلس وقدم بالسفن منها إلى إفريقية سنة مئة". وعندما أراد بلج بن بشر القشيري العبور إلى الأندلس، ورفض واليها ذلك صنع بلج قوارب ركبها أتباعه، فهاجموا دار الصناعة بالجزيرة الخضراء، وأخذوا ما فيها من المراكب والسلاح فرجعوا بها إليه، وبعد ذلك استخدمها في عملية العبور إلى الأندلس، كما هو معروف.
وخلال عصر الولاة، عندما قررت جيوش الفرنجة استرجاع مدينة أربونة عام 120هـ، وكان عاملها عبد الرحمن بن علقمة القائد المشهور، فلما وصلت هذه الأنباء إلى والي الأندلس عقبة بن الحجاج السلولي أرسل جيشًا بحريًا لنجدتها بقيادة عامر بن الليث. وقدم هذا الجيش عن طريق البحر نظرًا لوجود قبائل البشكنس والقبائل الجبلية الأخرى على طول جبال البرتات والتي تكون حائلًا أو خطرًا على الجيش الأندلسي الذاهب إلى فرنسا. فلما عرف جيش الفرنجة بقدوم هذا الجيش هاجموه بغتة وقتلوا القائد وانهزم بعض المسلمين إلى أربونة، والبعض الآخر ركبوا سفنهم وقد تعقبتهم بعض مراكب الفرنجة وأصابوا الكثير منهم.
وعلى الرغم من أن الأسطول الأندلسي لم يكن قويًا في هذا العصر، حيث ظهر الاهتمام به في عصر الإمارة، فمن المؤكد أن مدن برشلونة وطركونة البحرية قد ساهمت في إرسال سفن النجدة لفك حصار أربونة، هذا إذا علمنا أن مثل هذه المدن كان يكمن عندها المسلمون عند طلب الفرصة في الغزو. وأدرك الوالي يوسف الفهري (129 - 138هـ) خطورة وضع المسلمين في أربونة المحاصرة من قبل الجيوش الفرنسية، فأرسل جيشًا بقيادة ابنه عبد الرحمن لضبط المدينة وما يليها. فلم يوفق هذا الجيش في مهمته وذلك بسبب المقاومة الشديدة التي أبدتها القبائل الإسبانية على طول جبال البرتات، ويبدو أن المسلمين لم يستخدموا البحر هذه المرة، لأن الفرنسيين سيطروا على مدينة ماجلون التي تعتبر مرسى أمينًا للسفن الإسلامية القادمة من إسبانيا، وبعدها سقطت أربونة بيد الفرنسيين عام 141هـ، كما هو معروف [2].
الأسطول الأندلسي في عهد الإمارة الأموية:
عهد عبد الرحمن الداخل:
وفي عصر الإمارة الأموية في الأندلس (138 - 316هـ)، اهتم عبد الرحمن الداخل بثغر الجزيرة الخضراء وعهد إدارتها إلى الرماحس بن عبد الرحمن (والي شرطة مروان بن محمد)، واشتهر أفراد هذا البيت بقيادة الأسطول الأندلسي على عهد الأمويين. كما اعتمد الأمويون بالأندلس على اليمنيين القضاعيين في الأمور البحرية في باديء الأمر، وأنزلوهم في المناطق الساحلية الشرقية وعهدوا إليهم حراسة ما يليهم من البحر وحفظ السواحل، وقد سمي هذا الإقليم بـ (أرش اليمن أي أعطيتهم من الأرض)، وكانت بجانة أهم قاعدة لهم في هذا الإقليم، ولذا لقب أهلها بالبحريين. وكان بيت بني الأسود من البيوت البحرية المشهورة في مدينة بجانة، وقد ظهر اسم خشخاش ووالده سعيد بن أسود ضمن قادة الأساطيل التي قاتلت النورمان في عهد الأمير محمد الأول.
عهد هشام بن عبد الرحمن الداخل:
وازداد النشاط البحري في عهد الأمير هشام الأول هشام بن عبد الرحمن الداخل (172 - 180هـ) على الساحل الشرقي للأندلس، وكان قوام هذا النشاط حملات بحرية قام بها جماعات من البحارة والمجاهدين، هاجموا فيها بعض الثغور والجزر القريبة.
عهد الحكم بن هشام بن الداخل:
وقد زاد هذا النشاط أيضًا في عهد الأمير الحكم بن هشام الربضي (180 - 206هـ) حيث ذكرت بعض الروايات؛ بأن الحكم الأول وجه حملتين إلى الجزائر الشرقية عام 182هـ وعام 200هـ، مع نشاط بحري. وهاجم جزر كورسيكا وسردينية وإيطاليا في عام 190هـ، وعام 191هـ، وعام 193هـ. وفي عام 205هـ خرج أسطول أندلسي من ثغر طركونة وسار صوب جزيرة سردينية، فتصدى له أسطول فرنسي، فتغلب عليه الأسطول الأندلسي وأغرق ثمانية مراكب منه وأحرقوا مراكب أخرى.
عهد عبد الرحمن الأوسط:
ولما فتح الأغالبة جزيرة صقلية عام 212هـ، بدأت الأساطيل البيزنطية تهاجم القوات الإسلامية فيها، ففي عام 214هـ وجه الأمير عبد الرحمن الأوسط (206 - 238هـ)، حملة بحرية خرجت من ميناء طرطوشة إلى صقلية لتعزيز الحامية الإسلامية فيها. وفي عام 221هـ خرج أسطول أندلسي من ثغر طركونة والجزائر الشرقية، وهاجم مرسيلية وما حولها وأثخن فيها، فكانت هذه الحملة مقدمة لحملات أخرى متعاقبة أفلحت في إقامة مراكز عربية في جنوب فرنسا وشمالي إيطاليا.
ويبدو لنا أن الجزائر الشرقية (البليار) عقدت عهدًا مع حكومة الإمارة، على الأقل فيما يتعلق بشؤون البحر، ودليلنا على ذلك أن الأمير عبد الرحمن الأوسط سير أسطولًا من ثلثمائة مركب عام 234هـ إلى أهل الجزائر الشرقية لنقضهم العهد، وإضرارهم بمن يمر بهم من مراكب المسلمين. ويبدو أنها كانت حملة تأديبية وليست فتحًا منظمًا بدليل قدوم رسالة من أهل الجزائر إلى الأمير في عام 235هـ يستعطفون فيها الأمير ويطلبون السماح، فاستجاب لهم.
مع كل هذا، فإن البحرية الأندلسية كانت لا تزال محدودة في إمكانياتها ووسائلها، فلم تكن لديها القواعد والمحارس والسفن الكافية لحماية جميع سواحلها ولا سيما الغربية منها، ولهذا عجزت عن حمايتها عندما هاجمتها أساطيل النورمان عام 229هـ وعاثت فسادًا في السواحل الغربية، وفي مدينة إشبيلية. ولما كان الأسطول الأندلسي مرابطًا على الساحل الشرقي، فقد اعتمدت حكومة الإمارة في صد خطر النورمان على جيوشها البرية، واستعانت بقوات من الثغر الأعلى المدربة على حرب العصابات.
وكان لهذا الهجوم النورماني أثر كبير على الأندلس، حيث أدى إلى الاهتمام بالسواحل الغربية للأندلس وبناء التحصينات فيها، حيث بني سور إشبيلية، كما أنشأوا الرباطات على السواحل وأصبحت مركزًا للجهاد، وكانت النتيجة المهمة هي إنشاء دار صناعة إشبيلية، وإنشاء المراكب، وزودها بالآلات وقوارير النفط، ووسع على رجال البحر المدربين.
عهد الأمير محمد الأول:
وفي عهد الأمير محمد الأول محمد بن عبد الرحمن الأوسط (238 - 273هـ) عاد النورمان مرة أخرى وهاجموا ساحل الأندلس في (62) مركبًا عام 245هـ، فوجدوا هذه السواحل قد حرست بالسفن الحربية، وحاولوا اختراق نهر إشبيلية فلم يفلحوا، ثم واصلوا سيرهم إلى الجزيرة الخضراء وأحرقوا مسجد الرايات فيها، ثم عاثوا فسادًا في الساحل الإفريقي، ثم توجهوا صوب الساحل الشرقي للأندلس، فاشتبكوا مع القوات الأندلسية في عدة معارك بحرية وبرية، ثم ساروا إلى بلاد فرنسا، وأمضوا فصل الشتاء هناك، ثم رجعوا إلى الجنوب بمحاذاة الساحل الشرقي للأندلس.
وأثناء رجوع سفن النورمان هذه هاجمتها الأساطيل الأندلسية عند مدينة شذونة، وأسرت مركبين من مراكبهم، وأحرقت مركبين آخرين، واستشهد جماعة من المسلمين). ثم سارت مراكب النورمان شمالًا وهاجمت بنبلونة عاصمة النافار وأسرت ملكها غرسية بن ونقة، والذي افتدى نفسه بالمال. ثم ظهر النورمان مرة ثانية في عهد هذا الأمير عام 247هـ قرب شواطئ الأندلس، لكنهم وجدوا هذه السواحل قد حرست بالسفن الحربية، كما أن أمواج البحر دمرت لهم 14 مركبًا ولم يظفروا بشيء ورجعوا إلى بلادهم.
عهد الأمير عبد الله بن محمد وإمارة جبل القلال - فراكسنتيوم:
وفي عهد الأمير عبد الله (275 - 300هـ) قام جماعة من المجاهدين الأندلسيين يقدرون بحوالي عشرين شخصًا في عام 276هـ، ونزلوا الساحل الفرنسي، ولجأوا إلى غابة كثيفة، ثم سيطروا على المناطق المجاورة واستقروا بها، ودعوا إخوانهم من الثغور البحرية للقدوم إليهم، وأرسلوا في طلب العون والتأييد من حكومات المغرب والأندلس. وعلى مر الزمن أنشأوا لهم سلسلة من المعاقل والحصون أشهرها قلعة فراكسنتيوم الواقعة شمالي مدينة طولون، والتي يسميها الجغرافيون المسلمون باسم دويلة جبل القلال. واستمرت هذه الدويلة إلى عام 365هـ، وسيطرت على مناطق مهمة من فرنسا وسويسرة وشمالي إيطاليا.
وفي عهد هذا الأمير سير قوة بحرية عام 290هـ إلى جزيرة ميورقة بقيادة عصام الخولاني، الخبير بشؤون هذه الجزيرة، فحاصرها أيامًا وفتحها، وبذلك أصبحت هذه الجزائر ولاية جديدة تابعة للأندلس وتولى أمرها عصام الخولاني (290 - 300هـ) [3].
[1] مجهول، أخبار مجموعة، ص6. المقري، نفح، ج1، ص238. ابن عذاري، البيان، ج1، ص8. العبادي، دراسات، ص17. الحجي، التاريخ الأندلسي، ص62. السامرائي، "طارق بن زياد بين الخطبة وإحراق السفن" مجلة آفاق جامعية عام 1977م.
[2] الحميري، الروض المعطار، ص102، 110، 124، 126. الحميدي، جذوة، ص322 (رقم 742). ابن الفرضي، تاريخ، رقم 1014. ابن القوطية، تاريخ، ص16. رينو، غزوات، ص138، 144. سالم، تاريخ المسلمين، ص148، 150. مؤنس، فجر الأندلس، ص283. السامرائي؛ الثغر الأعلى، ص144. طرخان، المسلمون في أوروبا، ص163.
[3] ابن الأثير، الكامل، ج6، ص238، ج7، ص90. ابن حيان، المقتبس، ج2، ص309، 311. ابن عذاري، البيان، ج1، ص104، ج2، ص97. ابن حوقل، صورة الأرض، ص185. الحموي، معجم البلدان، ج1، ص273. الحميري، الروض المعطار، ص37 – 38. ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص18. ابن الخطيب، تاريخ المغرب العربي، ص173 - 174. ابن سعيد، المغرب، ج1، ص49. البكري، جغرافية الأندلس، ص112. النويري، نهاية الأرب، ج22، ص54. العبادي، دراسات، ص248، 263. العذري، نصوص عن الأندلس، ص81، 86، 119. عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص266. السامرائي، " الجزائر الشرقية "، ص157. السامرائي، الثغر الأعلى، ص273، 280. مؤنس، المسلمون في حوض البحر المتوسط، ص100. طرخان، المسلمون في أوروبا، ص103. محمود إسماعيل، الأغالبة سياستهم الخارجية، ص154 – 155. العدوي، الأساطيل العربية، ص76. رينو، غزوات، ص190 - 191. الحجي، التاريخ الأندلسي، ص313.
قصة الإسلام