كان المغاربة القدماء في جاهلية جهلاء وعيشة نكراء، لا يعرفون من الحياة الإنسانية إلا ما تطورت إليه عقولهم، أما من الناحية الحربية فإنهم كانوا ميالين إليها كثيرا، باعتقادهم أن الشرف والفخر هو الموت في ساحات الوغى، وقد اتصفوا بنفورهم الشديد من الأجانب، وهذه الخاصية هي التي جعلتهم لا يعرفون من الحياة الإنسانية إلا ما تدركه عقولهم البسيطة، رغم مقام الفينقيين والقرطجنيين والرومانيين بينهم، ولما جاء الله بالعرب الفاتحين صارعوهم في أول الأمر وظنوا أن هؤلاء قصدهم النهب واستعباد السكان، وبعد صراع عنيف دام أكثر من مائة سنة، أذعنوا لهم وتناسوا الردة والوثنية وتم استقرار الإسلام ببلاد المغرب.
الجيش عهد الفتح الإسـلامي للمغرب:
أسلم المغاربة، وتقوت روابط التعارف والإخاء بينهم، كلمة واحدة ألف بين قلوبهم الإسلام، وكان من الضروري أن ينسجم بينهما جيش مسلم عربي لا يفرقه نسب ولا لغة ولا وطن، وكان موسى بن نصير أول من سهل السبيل إلى استخدام تجنيد البربر في صفوف جيوش العرب في غزوه لبلاد أوربا، وكانت هذه هي أول خطة في مشاركة جند البربر العرب في فتوحاتهم عند ما كان المغرب تابعا للخلافة الإسلامية في الشرق العربي، ولما وفد عليه إدريس بن عبد الله الأكبر، استقل عن الخلافة الإسلامية، واستقل جنوده بأمرهم منذ ذلك الحين في ظل العروبة والإسلام.
الجيش في عهد دولة الأشراف الأدارسة:
إذا أردنا أن نعرف الجيش في عهد دولة الأشراف الأدارسة، وما عسى أن يكون قد عرف به إذ ذاك من الأنظمة، فإننا لا نستطيع أن نعثر على شيء من ذلك في هذا العهد، اللهم إلا في العصور المقبلة كما سنرى في عهد دولة الموحدين والمرينيين والسعديين، وبالأخص في عهد العلويين، حيث استطاع الجيش أن يعرف التنظيم الكلي، ولاسيما في عهد الإمبراطور العظيم مولاي إسماعيل، فلم يكن بدولة الأدارسة جند منظم وخصوصا بعدما تفرق أبناء إدريس الثاني. وإنما كانت هناك قبائل متفرقة في أول الأمر تعمل لمصلحتها، وكل واحدة تتزعم ولا ترضى الخضوع لغيرها، فجاء المولى إدريس الأكبر وعمل جهده لتوحيد هذه القبائل، وتم ذلك بعون الله، وظلت هذه القبائل ملتفة مع بعضها إلى أن جاء أيضا المولى إدريس بن إدريس.
وبالإيجاز فإن الجيش وإن لم تكن له في هذا العهد أسس ثابتة، فإن إجاده على الصورة السالفة الذكر لم يكن له من غرض سوى التضحية في سبيل المثل العليا التي كانت حينئذ تنحصر في إعلاء شأن دين الله، وإقامة شريعته، وهذا لا يحتاج إلى تدليل، فالمعروف أن ملوك هذه الدولة كانوا يجندون مواهبهم، وما أتيح لهم من حول وطول لنشر الدعوة الإسلامية وتركيزها في هذه البقاع.
الجيش في عهد المرابطين:
إذا ما انتقلنا إلى عهد المرابطين فنجد أن الجندي المغربي استطاع أن يتوفر على شيء من حسن النظام مما لم يتوفر عليه سلفه في عهد دولة الأدارسة، ذلك أن عبد الله بن ياسين قد عمل جاهدا على تقوية الجيش وإعداده بالأسلحة والمعدات اللازمة بعد أن رفع معنويته، وبث فيهم روح التضحية والتفاني في سبيل العقيدة. ومن هنا نرى أن مهمة تنظيم الجيش كانت تقوم حينئذ على عنصرين هامين:
1- إعداده من الناحية النفسية والمعنوية.
2- إعداده بالسلاح والعتاد اللازم لذلك.
وإذا كان الغرض من تكوين الجيش في هذا العهد هو نشر الدين وإقامة حكم الله في الأرض كما كان الأمر في عهد دولة الأدارسة، فإن أهم ما كان يمتاز به هذا الجيش هو العقيدة الصالحة والإيمان الراسخ والثبات على المبدأ والتضحية الكاملة. هذا ولم يكد عبد الله بن ياسين ينتهي من إعداد الجيش نفسيا وحربيا حتى وجه عنايته إلى الغزو والفتح، فتم له بذلك احتلال قبائل صنهاجة أولا ثم قبائل لمتونة ومسوفة، ولما استقر له الأمر أخذ في اشتراء الأسلحة وتوسيع دائرة الجيش بما أضافه إليه من أبناء هذه القبائل. وهكذا ظل هذا الجيش في سيره ألى أن جاء القائد العظيم يوسف بن تاشفين، حيث قد ظهرت براعته العظيمة في موقعة الزلاقة الشهيرة الذي انتصر فيها انتصارا حاسما.
الجيش في عهد الموحدين:
اطرد تنظيم الجيش بصورة جدية فأصبح في عهد دولة الموحدين مضاهيا لجيوش الدول الراقية إذ ذاك، إن لم نقل أنه كان يفوقها في العدد والعتاد وحسن النظام. فقد رأينا أن المهدي ابن تومرت مؤسس هذه الدولة يظهر المزيد من العناية والنشاط في إحاطة الجيش المغربي بمظاهر القوة والعظمة، فقد جعله ألوية تابعة لعشرة من أركان الحرب، وبعد هؤلاء العشرة قواد آخرون كانوا يسمون بأهل الخمسين، ثم بعدهم قواد أقل رتبة منهم يسمون بأهل السبعين. والباحث في تاريخ الجيش سيقف لا محالة على أنه ضم في هذا العهد فرقا من اللفيف الأجنبي، فقد كانت هذه الفرق مكونة من الزنوج والفرس والأكراد والنصارى، إلى جانب الفرق التي كانت تتكون من أهالي البلاد كقبائل هرغة وتنملال وجرميوت وهنتاته وزناتة، وإلى هذه القببلة ينتسب أعظم حربي عرفه التاريخ في ذلك الوقت وهو عبد المؤمن بن علي الكومي، ويقال إنه لما تولى الخلافة انتهى عدد جيشه إلى 600.000 ألف جندي والأساطيل البحرية تقدر بأربعمائة سفينة حربية.
ثم جاء عهد يعقوب المنصور الذي عرف فيه الجيش الجند المنظم، حيث ضم جميع القبائل التي كانت على عهد عبد المومن إلى جانب الفرس والزنوج والأكراد والنصارى والقبائل التونسية والجزائرية وهي بني حسن والخلط والسويد وشبانة وصبائح ورياح من الهلالية وكانت معاقلهم بضواحي مراكش، وكان أسطول المنصور من أعظم أساطيل العالم، وما موقعة الأرك الكبرى التي التقى الجيشان فيها جيش الإسلام وجيش النصارى إلا برهان ساطع على قوة جيش المغاربة وعظمته. فقد جهزه المنصور في هذه الموقعة أحسن جهاز.
أما في عهد محمد الناصر لدين الله الموحدي فإن الجيش أخذ في تضعضعه بسبب الخيانة التي جرت في بعض قواده، حيث اضطر أخيرا محمد الناصر لدين الله أن يقتل كثيرا من رؤساء الجيش، وخصوصا عندما انهزم في موقعة العقاب.
الجيش في عهد المرنيين:
ولم يكد المغرب يحس بفقدان دولته الموحدية الرشيدة حتى أعلنت دولة بني مرين ودامت أكثر من ثلاثة قرون، كان خلالها الجيش يسير متناسق التنظيم ذات سلطات محددة واضحة الاختصاص، وهذا كله يرجع إلى الجهود المضنية التي بذلها يعقوب بن عبد الحق للجيش، فقد أمكن إجراء كل صور الإصلاح في تجنيد الأفراد وتنظيم إقامتهم. ومما لاشك فيه أن هذه الجهود المبذولة لتنظيم بناء الجيش كان لها صداها ومظهرها الواضح في كل الميادين، ففي فتح سجلماسة والجوازات الأربعة التي قام بها يعقوب إلى غزو المسيحيين في بلاد الأندلس وجه كل عنايته إلى تكوين جيش مدرب بعزم فائق وبدرجة كبيرة في استخدامه.
الجيش في عهد السعديين:
وجاء عصر السعديين، وفي أول عهدهم ظهر الجيش السعدي ضعيفا أمام القوة الأجنبية كقوة إسبانيا والبرتغال وتركيا، ولكنه كان لا يزال يأخذ شكل الجيش المنظم، وبدأ يقوى شيئا فشيئا إلى أن صار عظيما أيام السلطانيين عبد الملك المعتصم وأخيه أحمد المنصور الذهبي. وإذا التمسنا مظاهر التجديد في هذه الدولة نرى أنها كانت من حيث التنظيمات العسكرية بارزة، وهذه التنظيمات كانت مقتبسة من الأعاجم والأتراك، وقد ندرك من هذا التجديد أن في العصور السالفة كانت التنظيمات العسكرية محافظة على نظامها القديم، ولما جاء هذا العصر أصيحت تلك التنظيمات لا محل لها من البقاء؛ لأن اكتشاف عالم جديد ووجود دول غربية يومئذ بمظهر مبنى على الأصوزل العلمية والاختيارات الفنية هي التي عجلت بتغيير النظام القديم.
ومن شواهد ذلك أن السلطان عبد الملك المعتصم جال وساح وأخذ أصول الجندية الجديدة، حيث رتب جيشه بترتيب الدول الأوربية، وألقى نهائيا النظام القديم، ولما جاء أحمد المنصور الذهبي أعاد التنظيم العربي إلى محله حيث ألف ما بين سيرتي العرب والعجم.
الجيش في عهد دولة الأشراف العلويين:
وعاد للمغرب مجده وعظمته ويرجع الفضل في ذلك إلى مولاي إسماعيل الملك العظيم الذي وطد أركان الدولة، وأول عمل قام به في عهده هو تنظيم الجيش باستدعاء أول قبيلة له "مجفرة" العربية وهي بطن من أدابة كانت تسكن بلاد السوس. وقد اعتنى كثيرا بهذا الجيش حيث فرض التجنيد الإجباري وقصره على الجيش النظامي المخزني، وانتهى عدده إلى 000 150 ألف جندي. ولما توفي هذا الملك العظيم عمت الفوضى في جميع أنحاء المغرب وشاهد المغاربة من المصائب والأهوال ما تقشعر منه النفوس، إذ أصبح جيش البواخرة يتصرف في أمور الدولة كيف يشاء، حتى أنه قام بتولية وعزل أربعة عشر سلطانا، تردد خلالها المولى عبد الله على العرش سبع مرات، وهذا كان ملكا قويا لم يرض أن يكون خاضعا للبواخرة ولا لغيرهم فكان بينه وبينهم صراع عنيف، أدى في الآخر إلى تغلبه عليهم وإضعافهم.
وجاء بعده الإمام المجتهد سيدي محمد بن عبد الله الذي استطاع بشدته وقوته أن يمسك زمام القبائل التي كانت على عهد الملك مولاي إسماعيل. أما في عهد مولاي اليزيد بن محمد، ومولاي سليمان بن محمد ومولاي عبد الرحمن بن هشام فقد أخذ المغرب يرجع إلى الوراء وإلى الجهل والتأخر، فلم يكن هؤلاء يهتمون بالجيش ونظام الدولة كما كان أجدادهم الأولون، ويظهر من هنا أن المغرب أخذ يفقد استقلاله التام.
وفي عهد السلطان مولاي الحسن عاد إلى هذا الجيش شبابه ونشاطه وحيويته، فقد اهتم اهتماما كبيرا بتنظيمه زيادة على ما كان في حياة أبيه، فكان يباشر عرضه وترتيبه بنفسه حتى اسطاع بفعاله المجيدة أن يحول المغرب من أمة مهملة إلى أظهر دولة في شمال إفريقيا.
وقبيل الحماية بقليل وفي عهد السلطان مولاي عبد العزيز أخذ الجيش في تضعضعه، وكان وزير الحربية آنذاك المنبهي وهو رجل ذو أهواء لم يستطع التغلب على الثورة التي قام بها (أبوحمارة الجيلالي)؛ لأن يد الخيانة كانت تعمل في جيشه، وعلى أثر ذلك قامت حركة معارضة للسلطان أدت إلى تنازله عن العرش لأخيه مولاي عبد الحفيظ الذي كان فيما قبل خليفته على مدينة مراكش. ولما تولى الملك عرض عليه المغاربة شروطا كثيرة فقبلها كلها، ولكنه وجد نفسه غير قادر على تنفيذ مطالب المغاربة، ولم يستطع أن يعمل شيئا في هذه الظروف الحرجة، فكثرت عليه الاعتراضات من طرف زعماء المغرب، ثم وقعت ثورة الجيش على رؤسائه بفاس وعمت الفوضى في جميع أنحاء المغرب، حيث تحطم الجيش نهائيا ولم يبق له إلا تلك الصفة التي تميز بها بحكم الوراثة، وأصبحت الدولة المغربية لا شأن لها به.
مجلة دعوة الحق، العدد 30، رمضان 1404هـ / أكتوبر 1984م.