ذهاب خديجة إلى ورقة مرة ثانية:
ذهبت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في هذه المرَّة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل، ويحتمل أن تكون هذه المرَّة قد تمَّت في الطواف، كما جاء في رواية عبيد بن عمير في سيرة ابن اسحاق، وطلبت خديجة رضي الله عنها من ورقة بن نوفل أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له ورقة بن نوفل: "يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ (دون تردُّد): هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟" قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا" [1].
كان ردُّ فعل ورقة واضحًا وحاسمًا، ونخرج من كلامه بعدَّة أمور:
أولاً: جُرْم أهل الكتاب؛ فجلُّ الذين كذبوا رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ سواء كانوا من اليهود أو من النصارى، كانوا يعرفون صفته معرفة حقيقية لا تحتاج إلى تفكير كثير، وكان ينبغي لهم أن يكون موقفهم مثل موقف ورقة بن نوفل؛ وهو التصديق المباشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
حيث ذكر ربُّنَا عز وجل في كتابه الكريم أنهم على هذه المعرفة الكاملة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} -أي يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]. فذكر الله عز وجل أنهم يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته، وأنهم يعلمون الحقَّ ويكتمونه؛ وذلك لأغراض في أنفسهم، ومصالح لجماعتهم، فهذه هي النقطة الأولى.
ثانيًا: هناك قاعدة مهمَّة للغاية؛ سطَّرها ورقة رحمه الله في سهولة ويسر، وصاغها في شكل يجعل منها سُنَّة من سنن هذا الكون حين قال: "لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ". فمعنى هذا أنه لن يأتي داعية يدعو إلى الخير، وإلى طريق الصلاح، إلا وسيجد مقاومة من أصحاب المصالح، ومن أهل الدنيا بشكل عام، وهي سُنَّة تدافع الحقِّ والباطل، والصراع بين أنصار الدين وأعدائه، وهي سُنَّة باقية إلى يوم القيامة، وما قاله ورقة بن نوفل هو تطبيق لما حدث في تاريخ الدنيا قبل ذلك، وإخبار بما سيحدث فيما بقي من عمرها إلى يوم القيامة.
ثالثًا: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم شيئًا عن الأمم السابقة؛ حيث قال: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟" فهو لم يقرأ عن تاريخ الأنبياء، ولم يعرف الطريق الذي ساروا فيه، ولا القصص التي مرُّوا بها، وهذا من الإعجاز الواضح.
لأنه بعد ذلك سيخبر عن هذه الأمم بكثير من التفصيل، ولا يمكن أن يعرف ذلك إلا عن طريق الوحي، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
فلم يكن يعرف صلى الله عليه وسلم معاناة الأنبياء، ولا تكذيب أقوامهم لهم؛ ولذلك سأل ورقة: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟" فردَّ ورقة -كما ذكرنا- بثبات: "نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ".
موت ورقة بن نوفل:
تقول عائشة رضي الله عنها في رواية البخاري: "ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ"[2]. فهو مات في أول الفترة؛ فإذا كانت الفترة كلها أيامًا قلائل، فمعنى هذا أن ورقة مات بعد يوم أو يومين من إبلاغه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقيقة الرسالة، وكأنَّ الله عز وجل قد أبقاه في الدنيا فقط لكي يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر الذي يُثَبِّته.
لقد مات الرجل على الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صادقًا في عزمه على النصرة؛ ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسبُّوا ورقةَ بنَ نوفلٍ، فإنِّي رأيتُ له جَنةً أو جَنتينِ"[3].
لا شك أن موت ورقة زاد من حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة التي فتر فيها الوحي؛ حيث إنه فقد نصيرًا مهمًّا من أول أيام البعثة.
[1] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (160).
[2] السابق نفسه.
[3] الحاكم (4211)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقال البوصيري: وروي من حديث عائشة مرفوعًا بسند صحيح. انظر: إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة 1/105، وقال الهيثمي: رواه البزار متصلاً ومرسلاً .. ورجال المسند والمرسل رجال الصحيح. وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (405).
د/راغب السرجاني