بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآله محمد الطيبين الطاهرين
أسرار الصيام الباطنيـه
حديثنا بالنسبة إلى الأسرار الباطنية للصوم معرفة هذه الأسرار ، مما تعين الإنسان على الإتيان بالعمل بالوجه الأكمل..
فقسم من هذه الأسرار تفهم أو تدرك عن طريق التدارس، والاستماع من الغير ، ومراجعة النصوص الشرعية في هذا المجال..
وقسم من هذه الأسرار لا ينال إلا بالاستمداد من رب العالمين.. فإن لله عزوجل تجليات في عالم الأنفس ، كما أن له تجليات في عالم الآفاق..
الله عزوجل كما أنه يوصل بعض المعلومات إلى أنبيائه من خلال ملك وهو جبرائيل (ع) ،
كذلك فأنه يوصل بعض المعلومات إلى عباده الصالحين من خلال ما يسمى بالإلهام ، أو ما يسمى بالإلقاء في الروع..
وهذا ليس بأمر غريب.. فكم يصادف أن الإنسان في ساعة من ساعات الهدوء والاسترخاء ،وإذا به يكتشف أمراً مهماً في حياته ،
أو يُذّكر بأمر قد نسيه ، وقد يفتح له درباً واسعاً في الحياة.. من الذي ذكره بذلك ؟..
الشياطين توسوس وتلهم طريق الشر ، والله عزوجل لا يلهم عباده المؤمنين طريق الخير ؟!..
قال تعالى مشيراً إلى ذلك العلم **وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ**.. وتدل بعض الروايات على أن على قلب بني آدم: شيطان ، وملك ؛
فالشيطان ينفث في قلبه الباطل ، والملك -بإذن الله تعالى- يلهمه الخير..
فإذن، لا ينبغي اليأس من هذا النوع من العلم - سمه علماً إلهامياً.. علماً لدنياً.. علماً تسديدياً- ، وهو أنه هنالك تجليات علمية لله عزوجل..
قال تعالى:{وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ**.. وفي آية أخرى - {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً** -
القرآن الكريم يعد عباده المؤمنين أنهم إذا اتقوا الله حق تقاته ، يجعل لهم فرقاناً ، فما هو هذا الفرقان ؟..
هو حالة من حالات البصيرة ، ومن انكشاف الأمور ، وفهم الموضوعات..
الملاحظ أن العبادات المهمة الثلاث : الصلاة ، والصيام ، والحج ؛ مقرونة بسلسلة من التروك..
وخاصة بالنسبة إلى الإحرام، إذ نلاحظ أن هنالك محرمات وتروك عجيبة.. ولهذا تلاحظ المحرم مرتبك في إحرامه:
لا يقلع نبات الحرم ، لا يسقط من بدنه شعرة ، لايجرح نفسه ، لا يجادل ، لا يشم الطيب... ومن المعلوم
أنها أمور متعارفة في حياته اليومية ، فكل إنسان يعبث برأسه ، ويستعمل الطيب ، ويحك بدنه ، ويقتل الهوام ، ويقتلع النبات ،ويصطاد صيداً ؛
ولكن هذه الأمور ممنوعة في طريق الحج..
ونلاحظ أن المصلي مأمور بسلسلة من التروك : الأكل ، والشرب ، والالتفات عن القبلة ، والفعل الماحي لصورة الصلاة ، وغير ذلك..
ونلاحظ في الصيام سلسلة من التروك أيضاً : الطعام ، والشراب ، والغبار ، وما شابه ذلك..
إذن، يبدو أنه الإنسان لا يتربى إلا من خلال التقيد..الإسلام -والله العالم- يريد أن يعلم الإنسان ويدربه على أنه إذا أراد أن يقول :
لا ، للمألوف ، أمكنه ذلك.. يريد أن يعلمه أن يقول: لا ، لما اعتاده.. فإن طبيعة الإنسان طبيعة استصحابية، تراه مدمن على الدخان ، أو مدمن على الطعام ،
أومدمن على الشراب ، أو مدمن على حالة معينة... والذي تأسره حالة من الحالات ، فإن هذا الإنسان له ما يقيده في حركته إلى الله عزوجل..
يقول إمامنا في رواية تنطبق على المقام وغير المقام : (ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذله !)..
إن هذه العادات رغبات ، تذل الإنسان في كثير من الحالات.
إن من أهم تروك الصائم هو الكف عن الطعام والشراب..
أولاً : ينبغي أن نقول بأن هذه التروك إنما تعطي ثمارها ، إذا كانت عن طواعية ورغبة واقتناع داخلي..
فالذي يصوم رغم أنفه ، أو الذي يصوم خوفاً من عذاب الله عزوجل ، وهو كاره لفعله ،
ولما يرى الطعام والشراب في شهر رمضان ، يتمنى لو لم يكن صائماً ، أو يتمنى لو لم يُشّرع الصيام ،
فإن هذا الإنسان بالتأكيد لا يصل إلى ملكوت الصيام..
إن الذي يحب أن يصل إلى ملكوت الصيام ،فإن الخطوة الأولى في المقام ، أن يكون ذلك عن طواعية وميل..
هو يرى بأن هذا محبوب للمولى ، المولى يحب منه أن لا يأكل ، وهو خالق الطعام ، وهو خالق البدن ، وهو خالق الفم ،
وهو خالق الجهاز الهضمي ، وقال له : لا تدخل هذا ، في هذا.. هذا ملكي.. وهذا ملكي..
كم من الجميل أن الإنسان في شهر كامل يلتزم بهذا الأمر منطبقاً عليه قوله تعالى في وصف المؤمنين :
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ** !..
إذن، الإنسان المؤمن في كلالتروك:الصلاتية،والإحرامية ،والصيامية ؛ الخطوة الأولى : أن يعمل ذلك بميل.
ثانياً :قد البعض يقوم بالعمل عن ميل وعن رغبة ، ولكن لا يستثمر هذا الترك.. نلاحظ البعض في شهر رمضان -وهذا هو الغالب-
أنه كأنه ينتقم من الصيام !.. فما لم يأكله في وجبة الغذاء والعشاء ، إذا به يأكل أضعاف ذلك في الليل !..
إذن، هذا الكف عن الطعام والشراب، لم يصبح كفاً.. هو تَرَك الصيام والشراب، ولكن لم يكف نفسه عن الطعام والشراب..
لو كان صادقاً في كفه ، لأكل الفطور بالمقدار اللازم ، وتوقف عن الطعام والشراب -كما هو المأمور به- إلى الوجبة اللاحقة -
وجبة السحور-.. أما أن يأكل ساعة بعد ساعة ، وكأنه يريد أن يعوض هذه القيود النهارية ،
فمن الطبيعي أن هذا الإنسان سوف لن يصل إلى مسألة الثمرة المتوخاة، من خلال كف النفس عن الطعام والشراب..
ومن المناسب أن الإنسان إذا جلس على مائدة الطعام والإفطار ، أن يغلب عليه شيء من التفكير ومن التدبر ،
كما قال النبي (ص) : (واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه ، جوع يوم القيامة وعطشه)..
الإنسان لا يعلم قدر الماء الهنيء العذب البارد ، إلا على مائدة الإفطار.. عندما يغلب به العطش ، ويشرب الماء ، م
تذكراً عطش الأولياء والشهداء في نصرة الدين ، ليحاول أن يخرج من مائدة الإفطار بهذا الزخم المعنوي..
ومن المعلوم أن الامتلاء إفطاراً، سوف يفوت على الإنسان توفيقات الليل في شهر رمضان..
والإنسان بحاجة إلى ساعة لتلاوة القرآن ،وللحديث مع الرب ، والبطن الممتلئ -كما هو معلوم- غير مستعد لتلقي الحكمة الإلهية.
وأخيراً : بعض الأوقات الإنسان تنازعه نفسه للطعام والشراب ، في شهر رمضان أو في غير شهر رمضان..
أحدهم له كلمة جميلة يقول : الطعام قبل أن يؤكل لا لذة فيه..
فالطعام على المائدة لم يدخل الجوف ، ولم يمر على حليمات التذوق في اللسان ، فلا لذة في هذا الطعام..
والطعام إذا تجاوز الحلقوم ، رب العالمين لم يجعل خلايا تذوق وتلذذ من الحلقوم فنازلاً..
إذن، لحظات التلذذ هي هذه الثواني البسيطة ، حيث يمر الطعام على اللسان فحسب ، إذ من المعلوم بأن التذوق باللسان فقط ،
لا بالحلق ، ولا بجوانب الفم الداخلية.. إذن، قضية ثواني من مرور الطعام على اللسان ،
هل هذا الأمر يستحق أن يقدم الإنسان على أكل طعام محرم ؟!..
أو أن يقطع مسافات بعيدة ، لأجل أن يذهب إلى مطعم ما ، ليأكل طعاماً شهياً ؟!..
هل هذا الجهد يتناسب مع ما يحصل عليه ؟!..
وهذا البطن الذي يصفه النبي (ص) قائلاً (حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه)..
هذا الجهاز إذا امتلأ بشيء ما ، مما يؤكل ، ارتفعت الشهية ، وارتفع إصراره لتناول طعام شهي..
ولهذا علينا أن نتعود على الطعام البسيط ، وعلى الطعام الذي لا تفنن فيه.. البعض من الأولياء والصلحاء يحب الطعام الذي هو قريب إلى مصادر الطبيعة ؛
بدلاً من هذه الأطعمة ، المكونة من مواد كثيرة : مشتبهة ، وغير مشتبهة.. فإذا دار الأمر بين فاكهة بسيطة ، وبين حلوى معقدة لا يعلم ما في جوف ذلك ،
يقدم هذا على هذا.. والبعض يأخذ الثمرة من الشجرة ، فيقول : أخذتها من يد رب العالمين ، أي ليس هنالك بشر مس هذه الفاكهة ،
أنا أول بشر يقطتف هذه الثمرة ويضعها في جوفه..
أين هذا من هذه الأطعمة التي مرت على أيدي اليهود والنصارى ، ومصانعهم ومزارعهم ،
ونحن لا نعلم ما الذي جرى في ذلك ؟!..
ومع الأسف فإن مسألة الطعام والشراب ، مما أسر الكثيرين من البشر.. اذهبوا إلى الشوارع ، وإلى الأسواق ،
إن الذي يستهوي عامة الناس ، هي محطات الطعام والشراب ؛ ولكن المؤمن مترفع عن ذلك ، ولا يؤسر بشهوة طعام ولا شراب.
وفقنا الله وإياكم ، لأن نكون من الصائمين حقاً في هذا الشهر الكريم ، بجاه محمد وآله الطاهرين !.