من يومها وهي تلاحقني (1)
لعلي الدليل الصارخ بأن الحياة في إحدى أوجه سخريتها ، عوض تحقيق أمنياتنا الصغيرة ، تتسلّى بالإغداق علينا بما يحلم به غيرنا ، فتحقق لنا بدل حلمنا البسيط أحلام الآخرين الكبيرة . فلا نجرؤ حينها أن نشكو مما نُحسد عليه ، لأن لا أحد سيصدّق بأن أمنياتنا كانت أكثر بساطة من هداياها . وأننا لم نسعى لشيء من كل ما حصلنا عليه .
السر يختصره ذلك القول الصالح " من أخرج الدنيا من قلبه وضعها الله في يده " . في الحب كما في أمور الحياة ، لن تحصل على شيء طاردته ، فكلّما زهدت فيه وجدته عند بابك ، حتى ليبدو لي التجاهل أقصر طريق للفوز بما نريد . فلا أذكر أنني حصلت على شيء سعيت إليه بإصرار و خضت معارك من أجله ، لكني بالمقابل فزت دون جهد بما تركته عن تعب أو زهد ، وإذا به ينزل عليّ كما نزلت التفاحة على نيوتن وهو مستلق تحت شجرة .
من يومها وهي تلاحقني (2)
من "المكاسب " التي أهدتني إياها الحياة ، الشهرة . ربما لتلقّن درسًا لمن كان يريدها ويطاردها بهوس ولا يحصل عليها . ذلك أني لم أعرف للشهرة منطقًا ولا وصفًا أصدق مما قاله لي الدكتور غازي القصيبي رحمه الله يومًا " الشهرة كالكلبة ، إن طاردتها هربت منك و إن هربتَ منها لحقت بك ". أظنني اتبعت وصفته دون علمي. فكلّما ازددت هرباً منها ، رأيتها تلحق بي و تمسك بتلابيبي ، وتجمع الناس حولي .
على مدى ثلاثة عقود أقمتُ في بيروت في شقتي الجبلية ، كما في عش نسر ، بعيدًا عن كل الحياة البيروتية الصاخبة. نادرًا ما أزور أو يزورني أحد. أصادق الأشجار والأزهار، أرفض إجراء أية مقابلة صحفية أو تلفزيونية ، وقلّما نجح أحدهم في إقناعي بالظهور في برنامجه ، وحتى البرامج التلفزيونية لا أتابعها إلاّ إذا اتصل بي أحدهم ينبهني لبرنامج ما . ومن حسن حظي أنّي وُفقت بزوج يحب مثلي الخلوة والكتابة ، بحكم ثقافته و مزاجه التأملي الهادئ ، وتكوينه الأكاديمي . و ما لبث الأولاد أن انتهى بهم الأمر مثلنا ، كلٌّ في غرفته جلّ أوقاتهمُ في القراءة .
خلال ثلاثين سنة ، لم أتردد يومًا على صحيفة لتنشر لي مقالاً ، ولا صادقت ناقدًا ليكتب عن كتبي ، ولا جاملت إعلاميًا ليدعوني إلى برنامجه ، ولا حضرت مناسبات لتلتقط لي فيها صورة تنشر في المجلات ، ولا تركت أولادي لمربية وداومت في الطائرات لحضور المؤتمرات الأدبية . بل إنني لأعوام طويلة وفي قمة نجاحي في الثمانينات والتسعينات، كنت ست بيت لا أهمل أمرًا من شؤون بيتي ، وأقوم بنفسي بكل أشغالي المنزلية ، مما جعل نصف وقتي وجلّ طاقتي الإبداعية تذهب سدىً في أعمال منزلية من صفاتها نكران الجميل . لكني أباهي بما تركت مواد التنظيف من آثار على يديّ ، وأظن أن تلك المسؤوليات التي حملتها وحدي زادت إحساسي بأنوثتي و صقلت موهبتي ، وشكّلت شخصيتي في الحياة كما في الأدب .
من يومها وهي تلاحقني (3)
_________________
أذكر أنّني يوم دعوت ناشري الدكتور سهيل ادريس ، صاحب "دار الآداب " (رحمه الله) ، مرة للعشاء ، وعلم أنني أعدّدت بنفسي " العزومة "، راح يصرخ في زوجي " كيف تخليها تفوت ع المطبخ ؟ هاي ما لازم تقوم من المكتب ، هاي تطعم الملايين كتب ، انشاالله قاعد تشغلها طباخة ! ". فأجابه زوجي بروحه الساخرة ملمحًا لما عاناه من مواهبي المحدودة في الطبخ: " يا دكتور لقد خسرها الأدب ولم يربحها المطبخ !".
الدكتور سهيل ادريس نفسه ، وحال وصولي إلى بيروت سنة 1993 ، طلب مني المشاركة في ملتقى شعري نسائي عربي كان يقام يومها في ببيروت ، ورفضت عرضه لأنني لم أكن أعتبر نفسي شاعرة ، ولا كان لي رغبة في أي ظهورإعلامي . وبعد إلحاح منه ، قبلت ، لكني فوجئت بمعركة حامية تدور بين الشاعرات حول ترتيب إلقائهن القصائد ، فتركتهن يقررن عنّي .
ثمّ صادف أن تعرفت إلى شاعرة لبنانية كان مقررا أن نشارك معا في الأمسية ،فقلت لها مبتهجة لأفتح معها حديثا " أنت رح تفوتي معاي اليوم ؟ " فصححتني بنبرة شاهقة الغرور وقالت وهي تشير إليّ بإصبعها " أنتِ اللي رح تفوتي معاي ! " . فخجلت لأن تلقائيتي سبقتني في الكلام ، ساء مزاجي لأنني ظلمت نفسي وأهنتها ، وقررت ألا أشارك في أية أمسية شعرية بعد ذلك اليوم .
قبل أيام شاهدت لتلك الشاعرة صورة في مناسبة ما ، كانت في زينتها ونظاراتها الشمسية الكبيرة إياها التي تميّزها . . لا أدري أين اختفت على مدى ثلاثة عقود . ولمَ تلك "الكلبة " التي تُدعى الشهرة قررت قبل ثلاثين سنة وأنا أحبس دمعة في عيني أن تتخلّى عنها . . وتتبعني!