رشيد الخيون/ باحث وكاتب عراقي
اختلفتْ تجربة ليبيا عن جارتيها مصر وتونس في عدم فوز الإسلاميين، على الرغم من الدعم المعنوي والمادي لهم، من جماعات ومن دول، ولم تنفع زيارة وصلاة الشيخ يوسف القرضاوي، وفتح مقره «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» بطرابلس. كان في استقبال الشيخ زعيم «إخوان» تونس راشد الغنوشي و «إخوان» ليبيا. قال القرضاوي: «أسأل الله تعالى أن تكون هذه الزِّيارة طيبة ومباركة ونافعة في فواتحها وخواتيمها، فهي زيارة لله ليست لدنيا ولا لمكاسب...» (صحيفة الراية القطرية 14 كانون الأول 2012). قال القرضاوي: إنها زيارة لله لا لدنيا. ونعم بالله! لكن هل بالفعل لم تكن تلك الزيارة، وذلك المقر الجديد للاتحاد العالمي خارج السياسة؟! في منطوق الشيخ إنها زيارة لله، لأنه يعتبر السياسة عِبادة، شأنها شأن الصَّلاة والصَّوم والزكاة، وبهذا فهو جعل شأن مَن لم يتعبد سياسياً وحزبياً شأن تارك الصَّلاة، فالدين حسب منطقه لا يكون إلا سياسياً. وهو يعتبر مصطلح الإسلام السياسي مؤامرة على الإسلام، وهذا مشهور في كتبه وفي تصريحاته. تلك مقدمة للحديث عما فاجأنا به محمد صوان رئيس حزب «العدالة والبناء»، واجهة «الإخوان المسلمين» الليبيين، من أن فوز الليبرالي أو العلماني، حسب تصنيف الصحافة لمحمود جبريل رئيس «الائتلاف الوطني» الليبي، حصل بالخداع، ونص كلمته: «جبريل لم يقدم نفسه للشعب الليبي على أنه ليبرالي، قدم نفسه على أن له مرجعية إسلامية. استفادت التيارات العلمانية من ثورات الربيع العربي، ورفعت راية المرجعية الإسلامية. صوّت الليبيون لجبريل باعتباره إسلامياً» (رويترز 12 تموز 2012). وأضاف صوان: «التزامات خادعة بالإسلام»! أقول: هل السياسة، التي يعتبرها أهل الإسلام السياسي عبادة، بريئة من الخداع في أي شكل من الأشكال؟! تكذب الحوادث ادعاءً مثل هذا! فلماذا المخادعة بالدين حلال لـ “الإخوان” وحرام على غيرهم؟! أليس تشكيل حزب باسم «العدالة والبناء»، ورفع اسم «الإخوان المسلمين» منه، نوعاً من الخداع، ذلك إذا علمنا أن هذه الجماعة لوقت قريب لا تعترف بتشكيل الأحزاب، مع أنها تمارس الحزبية، العلنية والسرية؟! أليس هذا خداعاً للجمهور؟! ليس أكثر من الإسلام السياسي مخادعة في السياسة، عن طريق الشعارات والهتافات، واستغلال الدين أقصى استغلال، لا تصدر صحيفة سياسية إسلامية إلا وآية قرآنية تدل على اسمها: «النذير»، «الدعوة»، «البلاغ»، وسواهنَّ مِن الصُّحف والمجلات، ناهيك عن الشعارات ورفع الرايات، والصراخ بعبارة: «الله أكبر»، وشعار «الإسلام هو الحل». فعندما أيد «الإخوان المسلمون» بمصر إسماعيل صدقي (ت 1950)، وصار بتأييدهم رئيساً للوزراء (1946)، رفعوا الآية لافتة للتأييد: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ» (مريم: 54)، وساعدوا حكومته بمعلومات ضد الأحزاب الأُخر للبطش بها (السيد يوسف، الإخوان المسلمون). مع أن إسماعيل النبي غير إسماعيل السياسي المعروف ببطشه وتكميمه للأفواه بمصر. وكم صار «الإخوان» هراوات بيد الحكام، والبداية كانت بدعم «الحرس الحديدي» في زمن الملكية (نفسه). ناهيك عن موجات العنف التي مارستها الجماعة. بل إن تسمية «الإخوان المسلمين» نفسها، لتكون منظمة سياسية، هي خُدعة. إن تجربة أفغانستان، والاستفادة الغربية مِن الإسلام السياسي في الحرب بين الغرب والشرق، تريك كيف يمكن المخادعة بالدين، فما أن تسلم الإسلاميون السلطة بكابول حتى تواجهت بنادقهم بعضهم إلى صدور بعض، وما إن تسلم الإسلاميون مفاصل السلطة بإيران عن طريق الثورة التي أيدها «الإخوان المسلمون»، ويقتربون ويبتعدون عنها حسب الظروف والحاجة إلى الخداع، حتى بدأت البلاد تعيش الطوارئ تحت هيمنة الجيش الثوري. أين صوت «الإخوان المسلمون» بخصوص السودان وعلو صوتهم بخصوص بلدان أُخر! مثلما نشأ «الإخوان المسلمون» في البلدان الأُخر، خارج مصر، مِن الطلبة الدارسين في معاهدها وجامعاتها وهيئات التدريس المنتدبة، نشأ فرعهم بليبيا، وكانت البدايات الفردية في نهاية عقد الأربعينيات- حسب موسوعة «الإخوان المسلمين» لا غيرها- وأول نشاطهم تولي الخطابة في المساجد، مع أنها دور عبادة لا سياسة، وعلى هدى القرامطة يمر المنتسب بفترة فحص وتثقيف، ومعاينة، والالتزام الديني هو الطريق للعضوية الحزبية. قيل: أول لجنة تنظيمية لـ “الإخوان المسلمين” الليبيين كانت العام 1967، واستمر وجودها حتى عام 1973، وخلالها كانوا قريبين من نظام القذافي، ومنهم موظفون كبار ووزراء، لكن بعد الخطاب المعروف بخطاب «زوارة»، في ذلك العام، الذي أعلن فيه القذافي تجريم الحزبية، على العموم لا الخصوص، خرج قادتهم على شاشات التلفزيون يعلنون التوبة والتخلي عن التنظيم، فهم يؤمنون بالرضوخ للظروف، أو الانحناء للعاصفة، بينما حزبيون مِن أحزاب أُخر يعدهم «الإخوان» علمانيين (كفرة)، وفي عدة بلدان، قضوا نحبهم بسبب رفضهم الخروج على الجمهور بمثل هذا الموقف. حتى عام 1998 بدؤوا يعيدون نشاطهم، بعدها قاموا بتأييد مشروع نجل القذافي سيف الإسلام «ليبيا الغد»، وذلك عام 2005، واعتبروا سيف الإسلام بمثابة المنقذ، وأجروا حوارات مع النظام، وقابل ذلك إطلاق سراح العديد من المعتقلين الإسلاميين في سجون ليبيا (موسوعة «الإخوان المسلمين»). ألا يعد ذلك خداعاً سياسياً! ما كنّا طارقين هذا الموضوع لولا تصريح الإخواني محمد صوان، الذي يقضي بجواز الخداع لحزبه وجماعته وتحريمه على غيره مِن أهل السياسة، مع أن ليبيا بحاجة لشخصية مثل جبريل، خبير في الإدارة والاقتصاد ومتعلم وليبرالي، أي تكنوقراط أو إداري فني، وله الدور الكبير في تجميع القوى ضد النظام السابق. أرجو أن لا تحسب عليَّ مخادعة عندما أُذكر صوان، لاتهامه جبريل بالخداع، بالآية: «وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ» (يس: 78). لا أجد أبلغ تعبيراً عن الخداع بالدين مما قاله الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب (ت 95 هـ)، وهو يخاطب الوليد بن عبدالملك (ت 96 هـ)، عندما غضب منه لمدحه علي بن عبدالله بن العباس (ت 118 هـ)، المعروف بالسَّجاد قائلاً، حسب رواية محمد بن القاسم الأنباري (ت 328 هـ): «فإن يغضبك قولي في عليٍ/وتمنع ما لديك مِن النَّوالِ/فإن محمداً منا وإنا/ذوو المجد المُقدَّم والفعال/بنا دان العباد لكم فأمسوا/يسوسهم الرَّكيك مِن الرِّجال» (الزَّاهر في معاني كلمات النَّاس). إنها راية النبي! يا سيد صوان الخداع باسم الدين مدرسة عريقة لدى الإسلام السياسي، لا تجاريه في ذلك جماعة أُخرى.