يجعل المال حياة الإنسان أكثر راحًة، هذا صحيح.. لكن في مرحلة معينة، سيتطلب منك ما هو أكثر من المال لتكون سعيدًا.
الأشخاص الذين يؤمِّنون حياتهم من الغذاء والمسكن والوظيفة المضونة، هم بالتأكيد أكثر حظًا من غيرهم الذين لا يتوفر لهم الحد الأدنى من المال اللازم ليحيون بآدمية.. لكنهم ليسوا بالضرورة أشخاصًا سعداء أو ناجحين.
يصبح المال في العمل وسيلة تحفيزية للأعمال السهلة نسبيًا والروتينية، والتي لا تحتاج لمجهود ذهني أو إبداع. في هذه الوظائف نعمل بجدٍ طالمًا نتلقى مقابلًا مجزيًا، لكن عندما يتعلق الأمر بالقدرة على الإبداع أو حل المشاكل، فهذه قصة أخرى.

المال لا يصنع الإبداع!
يقول دانيال بينك في كتابه “Drive: The Surprising Truth About What Motivates Us” أنه عندما أُجريت تجربة على مجموعتين من الأطفال يحبون لعب (البازل)، وُجد أن الأطفال الذين تم تحفيزهم بالمال، قد فقدوا حماسهم للعبة مقارنًة بالأطفال الذين تُركوا ليستمتعوا باللعبة ويجربونها بدون مقابل.
جعلت المجموعة الأولى المال حافزًا للعب، فإذا لم يجدوا المال فما الذي يدفعهم للعب؟ وفي المقابل فالمجموعة الثانية ظلت محافظة على حماسها الداخلي، لأنها تلعب حبًا في اللعبة نفسها ولا تنتظر مقابلًا.
وهنا توصّل دانيال لقاعدة مهمة وهي أنه عندما يصبح المال هو كل هدفنا، فإننا سنؤدي الأعمال بشكل سطحي، ولن نهتم بالجانب الإبداعي، حتى لو كنا نحب هذا العمل.
حتى نصل لمرحلة الإبداع وتقديم شيء مختلف، فنحن بحاجة لدافع أكثر قيمة من المال.. شيء يضيف لحياتنا معنى، أن نستيقظ صباحًا ونحن متحمسين للذهاب للعمل. هذا ما يُسمى بالتحفييز الداخلي أو التحفيز الذاتي وهو الرغبة والحماس الدائم لتتعلم كل ما هو جديد وتواجه تحدياتك وتطور من نفسك، وتبدع في عملك أو دراستك.. هؤلاء الأشخاص المتحمسين دائمًا للعمل والإبداع ليسوا كائنات خارقة، فالتحفييز الداخلي يمكن تحقيقه بثلاثة خطوات هي:

الاستقلالية




المحرك الأساسي للرغبة في التعلّم أو الإبداع في العمل هو الفضول.. الفضول نحو المعرفة والرغبة في تعلّم المزيد دائمًا. تشعر أن مجالك وتخصصك هو لعبتك المفضلة التي تستمتع بها.
يولد هذا الفضول معنا منذ أن كنا أطفالًا.. إنه طبيعة فينا، تظهر في مرحلة الطفولة، عندما كنا نبحث دائمًا عن إجابة للأشياء التي تبدو للكِبار بدهية أو عندما تثير اهتمامنا لعبة فنبدأ في فكها وتخريبها ويملؤنا الفضول لنتعلّم كيف تعمل.
لكن هذا الفضول يختفي مع النضوج شيئًا فشيئًا، وهو أمر غير جيد بالمناسبة. نخشى طرح الأسئلة خوفًا من الحرج أو أن نُوصف بالغباء، أو نفقد الحماس بسبب طرق التعليم التقليدية أو مجال دراسة أو عمل يُفرض علينا ولا نحبه.
عندما يشتعل الفضول بداخلك مرة أخرى ستجد نفسك تحب التعلّم، لأنك ستتعلم وتعمل فقط ما تحبه وما تجده يضيف معنى لحياتك. الحل الوحيد في إشعال ذلك الفضول مرّة أخرى هو الاستقلالية، الاستقلالية في التفكير، وفي اختيار ما تتعلمه أو المهام التي تؤديها.
في دراسة أجراها عالم النفس إدوارد ديسي وزميله ريتشارد ريان، وجدا أن الموظفين الذين مُنحوا حرية اختيار في الأعمال التي يؤدونها، بالشكل والتخطيط الذي يريدونه، وتلقوا الثناء من رؤسائهم؛ كانوا أكثر إنتاجية وإبداعًا وأعلى في الأداء.
إذا كنت ترغب في دراسة مجال جديد، لا تتردد في دراسة ما تحبه، أيًّا كانت التحديات. وإذا كنت تعمل لا تختار إلا المهام التي ترغب فيها وتؤديها بالطريق التي تروق لك، لا تتردد في إقناع مدراءك بطريقتك، خاصًة وأنت تعرف أنها سؤدي لنتيجة أفضل مما يتوقعون.

السيطرة




الإنسان لديه رغبة شديدة في الشعور بالتفوّق والسيطرة على ما يفعله، هذا يعطيه إحساسًا بالثقة بالنفس والتميّز ويضيف معنًا لشخصيته. وهذا يفسّر لماذا نجد تعلّم اللغات مثلًا أو العزف على الآلات الموسيقية مُمِّلًا في البداية، لأننا نجد صعوبة في تعلمها ونشعر أننا لن نستطيع أن نفعلها أبدًا.
يكره الكثير منا مجالًا بعينه لأنه فقط صعب ولم يفهمه بالصورة الصحيحة، وعندما تتغير الظروف أو طرق التعلّم قد يقع في غرام هذا المجال ويصبح شغفه للأبد.
النجاح يؤدي للنجاح، فعندما تجد نفسك ناجحًا ستتحمس لمزيد من الجد والإبداع. فإذا كنت تجد صعوبة في دراستك أو عملك خذ وقفة مع نفسك أولًا.. هل تكرهه لأنك لا تفهمه أم لأن ظروف العمل نفسها سيئة؟ أم أنك لا تحب المجال نفسك ولديك أهداف أخرى تريد تحقيقها؟
هناك شيء آخر لا تقسو فيه على نفسك؛ فلتبدع في عملك لابد أن تعطي لنفسك الفرصة لتعرف طعم النجاح حتى ترغب في المزيد منه. ابدأ بالتدريج وبالمهام البسيطة أولًا.
يقول دانيال بينك: يجب ألا تكون المهمة التي ستختارها سهلة للغاية فتشعر بالملل وتفقد الحماس أو تكون صعبة للغاية فتكره ما تفعله.
ففي عملك أو دراستك، لا تتسرع وتأخذ مهامًا أكبر من قدراتك بكثير، اختر المهمة بعناية لتكون في حدود قدراتك ولكن بها بعض التحدي الذي يطور من مهاراتك لا ينفرك من التعلّم.

الهدف




مأساة جيلنا أن معظمنا لا يعرف ما هو الهدف الذي يعيش من أجله، يبدو مشتتًا ويفتقد الحماس لفعل أي شيء.
يقول بينك أن الاشخاص الذين يشعرون بقيمة ما يفعلونه يصلون لأعلى درجات الإبداع والحماس للعمل. فالهدف هو ما يجعلك تستيقظ مبكرًا وتواجه كل صعوبات الحياة، لأن ما تفعله له قيمة أكبر بكثير من جني الأموال في آخر الشهر أو الحصول على درجات عالية في الامتحان.
وتؤكد إليزابث مووس أستاذة إدارة الأعمال بجامعة هارفارد، أن هذا الهدف يمنحك القدرة والصبر على مواجهة جميع التحديات التي تقابلك، لبلوغ هدفك.
الهدف هو شيء لا يأتي صدفة، و يأتي من فعل ما تحب، أن تجد ما تحبه وتشعر بقيمته الكبيرة بالنسبة لك وللإنسانية. الإنسان بطبيعته لديه رغبة في إثبات نفسه والبحث عن هدف يعيش من أجله وإلا شعر أن الحياة سخيفة وليس لها أي جدوى، وهذا شيء خطير جدًا، يجعلك متكاسلًا عن فعل أي شيء، تشعر بالملل والفراغ ولا تستطيع حتى الاستمتاع بحياتك.

إذا كنت تشعر أن زملائك الناجحين أفضل منك أو وُهِبوا إمكانيات لا تملكها، أو إذا كنت تريد النجاح في حياتك ولا تعرف كيف.. فأنت بحاجة لوقفة مع نفسك للبحث عن الخطأ. هل تفتقد لفعل شيء تحبه أم تفتقد للهدف أم لا تملك اختيار ما تفعله أو حتى غيرها من الأسباب. لا أحد يولد فاشلًا أو عبقريًا، فكلا الصفتين نصنعهما بأنفسنا.
انسَ التفكير في المال قليلًا، وانسَ طريقة الجزة والعصا كما يقول بينك، فحصولك على الكثير من المال كمكافئة لك في عملك قد يجعل حياتك أسهل أو يجعلك موظفًا جيدًا، لكنه لن يحولك إلى شخص ناجح ومبدع.. ما لم تُحقق هذه المبادئ الثلاثة.

المصادر 1 | 2