ما هو الجفر...........؟
يجد الباحث بعد الإطلاع على الأحاديث الواردة عن أهل البيت ( عليهم السَّلام ) و دراستها أن الأئمة تحدثوا عن جِفارٍ [1] أربعة لا عن جَفْرٍ واحد [2] ، أما الجفر الأول فهو كتابٌ ، و الثلاثة الأخرى أوعيةٌ و مخازن لمحتويات ذات قيمة علمية و معلوماتية و معنوية كبيرة ، و هذه الجِفار هي :
1. كتاب الجَفْر : و هو كتابٌ أملاه رسول الله محمد ( صلَّى الله عليه و آله ) في أواخر حياته المباركة على وصيِّه و خليفته علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) و فيه علم الأولين و الآخرين و يشتمل على علم المنايا [3] و البلايا [4] و الرزايا [5] و علم ما كان و يكون إلى يوم القيامة [6] و قد جُمعت هذه العلوم في جلد شاة .
رَوى سدير الصيرفي ، قال : دخلت أنا و المفضل بن عمر و أبو بصير و أبان بن تغلب على مولانا أبي عبد الله جعفر بن محمد ( عليه السَّلام ) فرأيناه جالسا على التراب و عليه مسح خيبري مطوق بلا جيب مقصر الكمين و هو يبكي بكاء الواله الثكلى ذات الكبد الحري قد نال الحزن من وجنتيه و شاع التغير في عارضيه و أبلى الدموع محجريه و هو يقول : " سيدي غيبتك نفت رقادي و ضيقت علي مهادي و أسرت مني راحة فؤادي ، سيدي غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد و فقد الواحد بعد الواحد يفنى الجمع و العدد فما أحس بدمعة ترقى من عيني و أنين يفتر من صدري عن دوارج الرزايا و سوالف البلايا إلا مثل لعيني عن عوائر أعظمها و أفظعها و تراقي أشدها و أنكرها و نوائب مخلوطة بغضبك و نوازل معجونة بسخطك " .
قال سدير : فاستطارت عقولنا وَلَهاً و تصدعت قلوبنا جزعاً عن ذلك الخطب الهائل و الحادث الغائل و ظننا أنه سمة لمكروهة قارعة ، أو حلت به من الدهر بائقة ، فقلنا لا أبكى الله يا ابن خير الورى عينيك ، من أي حادثة تستنزف دمعتك و تستمطر عبرتك ، و أية حالة حتمت عليك هذا المأتم ؟
قال : فزفر الصادق ( عليه السَّلام ) زفرة انتفخ منها جوفه و اشتد منها خوفه و قال : " ويكم إني نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم و هو الكتاب المشتمل على علم المنايا و البلايا و الرزايا و علم ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة الذي خص الله تقدس اسمه به محمدا و الأئمة من بعده عليه و عليهم السلام ، و تأملت فيه مولد قائمنا و غيبته و إبطاءه و طول عمره و بلوى المؤمنين به من بعده في ذلك الزمان و تولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته و ارتداد أكثرهم عن دينهم و خلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم التي قال الله تقدس ذكره وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ يعني الولاية فأخذتني الرقة و استولت علي الأحزان ... " [7] .
مصدر كتاب الجفر :
رَوى الصَّفار عن أحمد بن محمد عن القاسم بن يحيى عن الحسن بن راشد قال : سمعت أبا إبراهيم [8] يقول إن الله أوحى إلى محمد ( صلى الله عليه وآله ) أنه قد فنيت أيامك و ذهبت دنياك و احتجت إلى لقاء ربك فرفع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يده إلى السماء و قال : " اللهم عدتك التي وعدتني إنك لا تخلف الميعاد " .
فأوحى الله إليه أن ائت اُحداً أنت و من تثق به فأعاد الدعاء فأوحى الله إليه امض أنت و ابن عمك حتى تأتي اُحدا ثم لتصعد على ظهره فاجعل القبلة في ظهرك ثم ادع و أحس الجبل بمجيئك فإذا حسك فاعمد إلى جفرة منهن أنثى و هي تدعى الجفرة [9] تجد قرينها الطلوع و تشخب أوداجها دما و هي التي لك ، فمُر ابن عمك ليقم إليها فيذبحها و يسلخها من قبل الرقبة و يقلب داخلها فتجده مدبوغا ، و سأنزل عليك الروح و جبرئيل معه دواة و قلم و مداد ليس هو من مداد الأرض يبقى المداد و يبقى الجلد لا يأكله الأرض و لا يبليه التراب لا يزداد كل ما ينشر إلا جدة غير أنه يكون محفوظا مستورا فيأتي وحي يعلم ما كان و ما يكون إليك و تمليه على ابن عمك و ليكتب و يمد من تلك الدواة .
فمضى ( صلَّى الله عليه و آله ) حتى انتهى إلى الجبل ففعل ما أمره فصادف ما وصف له ربه ، فلما ابتدأ في سلخ الجفرة نزل جبرئيل و الروح الأمين و عدة من الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله و من حضر ذلك المجلس ثم وضع علي ( عليه السَّلام ) الجلد بين يديه و جاء به و الدواة و المداد أخضر كهيئة البقل و أشد خضرا و أنور .
ثم نزل الوحي على محمد ( صلَّى الله عليه و آله ) و جعل يملي على علي ( عليه السَّلام ) و يكتب علي أنه يصف كل زمان و ما فيه و غمزه بالنظر و النظر و خبره بكل ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة و فسَّر له أشياء لا يعلم تأويلها إلا الله و الراسخون في العلم فأخبره بالكائنين من أولياء الله من ذريته أبدا إلى يوم القيامة و أخبره بكل عدو يكون لهم في كل زمان من الأزمنة حتى فهم ذلك و كتب ثم أخبره بأمر يحدث عليه و عليهم من بعده فسأله عنها ، فقال : الصبر الصبر و أوصى الأولياء بالصبر و أوصى إلى أشياعهم بالصبر و التسليم حتى يخرج الفرج ، و أخبره بأشراط أوانه و أشراط تولده و علامات تكون في ملك بني هاشم فمن هذا الكتاب استخرجت أحاديث الملاحم كلها أو صار الوصي إذا أفضى إليه الأمر تكلم بالعجب " [10] .
2. الجَفْر الأبيض : و هو وعاءٌ ( جلد ماعز أو ضأن ) يحتوي على كتب مقدسة ليس من ضمنها القرآن الكريم .
فقد رُوي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) أنه قال : " ... و أما الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسى و إنجيل عيسى و زبور داود و كتب الله الأولى ... " [11] .
و رَوى المُحَدِّث الكُليني بأسناده عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السَّلام ) يَقُولُ : " إِنَّ عِنْدِي الْجَفْرَ الْأَبْيَضَ " .
قَالَ : قُلْتُ فَأَيُّ شَيْءٍ فِيهِ ؟
قَالَ : " زَبُورُ دَاوُدَ وَ تَوْرَاةُ مُوسَى وَ إِنْجِيلُ عِيسَى وَ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ ( عليه السَّلام ) وَ الْحَلَالُ وَ الْحَرَامُ وَ مُصْحَفُ فَاطِمَةَ ، مَا أَزْعُمُ أَنَّ فِيهِ قُرْآناً وَ فِيهِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْنَا وَ لَا نَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ حَتَّى فِيهِ الْجَلْدَةُ وَ نِصْفُ الْجَلْدَةِ وَ رُبُعُ الْجَلْدَةِ وَ أَرْشُ الْخَدْشِ " [12] .
3. الجَفْر الأحمر : و هو وعاء ( جلد ماعز أو ضأن ) يحتوي على السلاح ، و فيه سلاح رسول الله ( صلَّى الله عليه و آله ) .
فقد رَوى المُحَدِّث الكُليني عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السَّلام ) يَقُولُ : " ... وَ عِنْدِي الْجَفْرَ الْأَحْمَرَ " .
قَالَ قُلْتُ : وَ أَيُّ شَيْءٍ فِي الْجَفْرِ الْأَحْمَرِ ؟
قَالَ : " السِّلَاحُ ، وَ ذَلِكَ إِنَّمَا يُفْتَحُ لِلدَّمِ يَفْتَحُهُ صَاحِبُ السَّيْفِ [13] لِلْقَتْلِ ... " [14] .
و رَوى الشيخ المُفيد ( قدَّس الله نفسه الزَّكية ) عن أبي بصير عن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) أنه قال : " ... و أما الجفر الأحمر فوعاءٌ فيه سلاح رسول الله ( صلَّى الله عليه و آله ) و لن يظهر حتى يقوم قائمنا أهل البيت ... " [15] .
4. الجَفْر الكبير الجامع [16] : و هو جلد ثور مدبوغ يشتمل على الجِفار الثلاثة الآنفة الذكر ، أي كتاب الجفر و الجفر الأبيض و الأحمر و هما مضمومان إلى بعضهما ، و هذا ما يتوصل إليه الباحث بعد دراسة مجموع الأحاديث المروية في موضوع الجفر ، و الجمع بينها بحيث تصبح منسجمة تُفسر بعضها بعضا .
فقد رُوي عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ : سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السَّلام ) بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْجَفْرِ ؟
فَقَالَ : هُوَ جِلْدُ ثَوْرٍ مَمْلُوءٌ عِلْماً ... " [17] .
و رُوي عن علي بن سعد في حديث قال فيه : " ... و أما قوله في الجفر فإنما هو جلد ثور مذبوح كالجُراب ، فيه كتب و علم ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة من حلال و حرام إملاء رسول الله ( صلَّى الله عليه و آله ) و خطه علي ( عليه السَّلام ) بيده و فيه مصحف فاطمة ، ما فيه آية من القرآن ، و إن عندي خاتم رسول الله ( صلَّى الله عليه و آله ) و درعه و سيفه و لواءه و عندي الجفر على رغم أنف من زعم " [18] .
بعد هذه الدراسة يبدو أن الجفر الأخير و هو جلد الثور هو الوعاء الأكبر الذي يضم بقية الجِفار ، ذلك لأن الرواية الأخيرة تصرح بأن الجفر الكبير و هو جلد الثور يحتوي على ما تحتويه الجفار الثلاثة من كتاب و علم و سلاح ، فهو الجامع .
أين هذه الجِفار ؟
تَنُصُّ الروايات بأن هذه الجفار إنما هي من مختصات أئمة أهل البيت الإثنا عشر ( عليهم السَّلام ) و هم يتوارثونها و ينظرون فيها و يطلعون على علومها و ليس لأحد سواهم ذلك ، فقد رَوى نُعَيْمٍ الْقَابُوسِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ [19] ( عليه السَّلام ) أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ ابْنِي عَلِيّاً أَكْبَرُ وُلْدِي وَ أَبَرُّهُمْ عِنْدِي وَ أَحَبُّهُمْ إِلَيَّ وَ هُوَ يَنْظُرُ مَعِي فِي الْجَفْرِ وَ لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ " [20] .
[1] الجِفار : جمع جَفْر ، و الجَفْر إستعمل في الأحاديث ـ كما ستعرف من خلال هذه الدراسة ـ في جلد الماعز أو الضأن تارة و في جلد الثور تارة أخرى .
[2] لا بُدَّ هنا من الإشارة إلى أن هذا الرأي هو نتيجة ما توصل إليه الباحث القدير الشيخ أكرم بركات ، و هو الرأي الصائب و المختار لدينا ، لمزيد التفصيل يراجع كتاب : حقيقة الجفر ، للشيخ أكرم بركات ، الطبعة الثانية ، سنة : 1420 هجرية / 1999 ميلادية ، دار الصفوة ، بيروت / لبنان .
[3] المَنيَّة : الموت ، و الجمع منايا ، و علم المنايا هو علم الآجال .
[4] البلية و البلوى و البلاء واحد ، و الجمع البلايا ، يراجع : مجمع البحرين : 1 / 62 ، للعلامة فخر الدين بن محمد الطريحي ، المولود سنة : 979 هجرية بالنجف الأشرف / العراق ، و المتوفى سنة : 1087 هجرية بالرماحية ، و المدفون بالنجف الأشرف / العراق ، الطبعة الثانية سنة : 1365 شمسية ، مكتبة المرتضوي ، طهران / إيران .
[5] الرَّزِيَّة و الرزيئة : المصيبة العظيمة ، و الجمع رزايا .
[6] لمزيد من التفصيل يراجع : بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 51 / 219 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود باصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .
[7] بحار الأنوار : 51 / 219 ، نقلاً عن إكمال الدين .
[8] أي الإمام موسى بن جعفر الكاظم ( عليه السَّلام ) سابع أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
[9] الجَفْرَة : الأنثى من ولد الماعز إذا كانت بنت أربعة أشهر ، و يُسمَّى الذَّكرُ جَفْراً .
[10] بصائر الدرجات : 506 ، لمحمد بن حسن بن فروخ الصَّفار ، المتوفى سنة : 290 هجرية بقم ، في كتابه : الطبعة الثانية ، مكتبة آية الله المرعشي النجفي ، قم / إيران .
[11] بحار الأنوار : 26 / 18 .
[12] الكافي : 1 / 240 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
[13] أي الإمام المهدي المنتظر ( عجل الله تعالى فرجه ) و هو الامام الثاني عشر من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
[14] الكافي : 1 / 240 .
[15] الإرشاد في معرفة حُجَج الله على العباد : 2 / 186 ، للشيخ محمد بن محمد النُعمان المُلقَّب بالشيخ المُفيد ، المولود سنة : 336 هجرية ببغداد ، و المتوفى بها سنة : 413 هجرية ، طبعة سنة : 1413 هجرية ، قم / إيران .
[16] هذه التسمية ليست موجودة في الأحاديث ، و إنما سمينا هذا الجفر بهذه التسمية للتمييز بينه و بين الجفار الأخرى ، و لإشتمال هذا الجفر على الجفار الأخرى .
[17] الكافي : 1 / 241 .
[18] بصائر الدرجات : 156 .
[19] أي الإمام موسى بن جعفر الكاظم ( عليه السَّلام ) ، سابع أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
[20] الكافي : 1 / 311 .