هل سيمر اعتراف البرلمان الألماني بالإبادة الأرمينية من دون رد تركي؟ بالطبع، لا.
فحكومة المستشارة أنغيلا ميركل كانت تتوقع رداً سريعاً من الرئيس أردوغان الذي يَعدُّ القضية الأرمينية غاية في الحساسية، خاصةً أنه يُروّج لنفسه قائداً للدولة النيو-عثمانية.
وكخطوة أولى، استدعت أنقرة سفيرها في برلين حسين عوني قارصلي أوغلو للتشاور على خلفية القرار الذي صدَّق عليه البوندستاغ. وقال المتحدث باسم الحكومة التركية نعمان قورتولموش، في تغريدة على موقع التويتر: "اعتراف ألمانيا ببعض المزاعم المحرَّفة، التي لا أساس لها، يشكل خطأً تاريخياً"، مضيفا أن القرار بالنسبة إلى تركيا باطل ولاغٍ.
ويرى مراقبون أن توقيت موافقة البرلمان الألماني قد يهدد مفاوضات الاتحاد الأوروبي مع أردوغان بشأن اتفاق الهجرة.
لكن، وبواقعية شديدة، فإن الطرفين بحاجة ماسة إلى إنجاح المفاوضات:
فمن جهة، رهنت المستشارة ميركل مصيرها السياسي ومستقبل ائتلافها الحاكم بالتطبيق الكامل لاتفاق الهجرة. فكلما زادت أعداد اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، ارتفع رصيد أحزاب أقصى اليمين، وخاصة حزب «البديل من أجل ألمانيا» (AfD)، الذي بات يشكل تهديداً حقيقياً للأحزاب الحاكمة في الانتخابات الفيدرالية المقبلة العام المقبل. لذلك، فإن ربط ملف اللاجئين، الذي تصل أعدادهم إلى نحو المليونين، في تركيا بمصير ميركل يمنح أردوغان تفوقاً في الموقف التفاوضي.
ومن جهة أخرى، يحرص الرئيس التركي على استلام مبلغ 6.6 مليار دولار من الاتحاد الأوروبي، والموافقة على دخول مواطنيه إلى منطقة "شنغن" من دون تأشيرة دخول؛ وهو أمرٌ في غاية الأهمية بالنسبة إلى أردوغان الذي يسعى لتعزيز صورته بين الشعب التركي، خصوصاً في ظل سعيه لتعديل الدستور، وإقامة نظام سياسي رئاسي قائم على دولة الشخص الواحد، أو ما يسمى بالنظام الشمولي؛ الأمر الذي من شأنه إنهاء أحلام تركيا المتعلقة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
واعتماداً على ما سبق، يزداد عدد الساسة الأوروبيين المتشككين تجاه أنقرة، والذين يعلنون عدم وجود مكان لتركيا بقيادة أردوغان في الاتحاد الأوروبي. وقد انضم رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون مؤخراً إلى معسكر المتشائمين، قائلاً إن تركيا لن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي قبل عام 3000 للميلاد أي بعد 984 عاما، وفقاً للوتيرة التي تستجيب بها لشروط الاتحاد الأوروبي.
ومن الجدير بالذكر أن تركيا التي تقدمت بطلب العضوية للسوق الأوروبية المشتركة عام 1987، لم تصدِّق سوى بندٍ واحد من بين 35 بندا يشترطها الاتحاد الأوروبي. وبالتالي، فإن أمام أنقرة الكثير من الخطوات للانضمام لهذا التكتل الأوروبي.
من جهته، انتقد عضو البرلمان الأوروبي الألماني ماركوس بريتسيل من حزب «البديل من أجل ألمانيا»، نقاش البوندستاغ حول الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، واصفاً الأمر بأنه "مسرحية رخيصة".
وأكد بريتسيل أن الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن يبقى مجرد "تشدق بالكلمات" إذا كانت ألمانيا ترفض في الوقت نفسه استخلاص الدروس في الوقت الحاضر. فمنذ عام 2011، تعرض المسيحيون مرة أخرى، بما في ذلك الأرمن لعمليات استهداف وقتل وتشريد، مضيفاً أن الأقلية الأرمينية في سوريا هي من سلالة الأرمن الذين نجوا من المذابح التركية منذ مئة عام. لكن أنقرة اليوم تدعم ما يسمى "المتمردين" في سوريا بما في ذلك على وجه التحديد أولئك الإرهابيين الذين يهاجمون المناطق الأرمينية بقصد قتلهم وطردهم مرة أخرى. فيبدو أن التاريخ يُعيد نفسه.
لذلك، يعتقد السياسي الألماني المُعارض أن الاعتراف بالإبادة الجماعية، التي حصلت في عام 1915، يبقى "لفتة سياسية مملة" إذا استمرت ألمانيا بمشاهدة أحداث اليوم. وينبغي على حكومة برلين، وفق ما أكده، أن تترجم هذا الاعتراف إلى مواقف سياسية واضحة: لا مزيد من المفاوضات مع حكومة أردوغان! لا مزيد من الاتفاقات مع أنقرة! ولا لنظام إعفاء تأشيرة الدخول للأتراك إلى فضاء "شنغن"!
وبدلاً من ذلك، دعا بريتسيل ألمانيا إلى الحد الفوري للعقوبات ضد سوريا والتي تعوق زحف قوات الجيش السوري في معركتها ضد الإرهاب؛ مؤكداً أن "من يريد إحياء ذكرى الإبادة الجماعية الأرمينية عام 1915، لا يمكنه تجاهل الإبادة الجماعية التي تحدث اليوم".
وفي كل الأحوال، تعلم تركيا جيداً أن توقيت طرح مسألة الإبادة في البوندستاغ كانت مقصودة، وتهدف إلى ابتزاز أردوغان، ودفعه إلى المضي قدماً نحو تنفيذ الشروط الأوروبية، وخاصة فيما يتعلق بتعديل قانون الإرهاب، الذي يتحجج به أردوغان للقضاء على معارضيه والأحزاب الكردية.
لذلك، يعتقد مراقبون أننا نعيش فترة من التجاذبات السياسية، التي تلجأ فيها كل الأطراف إلى سياسة الابتزاز واستهلاك أوراق القوة، لكنهم يستبعدون الانهيار التام للمفاوضات، وتأثر العلاقات الثنائية بين برلين وأنقرة بشكل حاد.
كيفورك ألماسيان