ماذا سيكسب العرب وعرب الخليج من التدافع في مشروع إسقاط النظام السوري، سوى التهيئة لحرب إقليمية تضعهم تحت الابتزاز الأمريكي المستديم لمواردهم، أو قيام صفقة دولية تضع العالم العربي تحت إدارة بالوكالة لملالي إيران، وإخوان أردوغان؟



أدوات التحليل التقليدية لم تعد صالحة في توصيف ما جرى ويجري في العالم العربي منذ سنة ونصف، حتى وإن كان بعضهم قد ركن إلى جرد مثالب النظم العربية الفاسدة، وهي بلا ريب كثيرة وحقيقية، لتبرير ما لا يمكن تبريره.
وما لا يمكن تبريره، هو تسخير المقدرات العربية ودماء العرب لإنتاج تغيير في الخارطة السياسية، يسير في الاتجاه المعاكس لما كانت تطمح إليه الشعوب العربية، ويضيف إلى ضعف الموقف العربي مزيدا من الضعف والتشرذم والهوان، دون أن يحقق الحد الأدنى من الاستجابة لمطالب تصحيح المظلومية المتراكمة تحت حكم نظم الاستبداد.
ودون الدخول مجددا في تفاصيل ما أنتجه الربيع العربي حتى الآن ، فإن ما حصل في تونس ومصر واليمن، جرى بأقل كلفة ممكنة قياسا مع الكارثة التي حلت بالشقيقة ليبيا، وجميعها لا تساوي شيئا أمام ما يجري في سورية، بل إن ما يجري في سورية بات كاشفا لما نجح رعاة الربيع العربي في التدليس فيه، وصرفه بمفردات الثورة الشعبية على الاستبداد.
جميع أدوات وأسلحة الحرب الحديثة تجرب اليوم في سورية، وقد اختبرت بكفاءة في تونس ومصر وخاصة في ليبيا، بدءا بالدور الجديد المتقدم الذي أوكل للإعلام التلفزيوني وشبكات التواصل الاجتماعي، وانتهاء بتفعيل أدوات الحصار والمقاطعة، وأدوات الضغط الدبلوماسي، وشراء ذمم النخب، وتحريض الجيوش الوطنية على الانشقاق، وإعادة توظيف المجاميع المسلحة المتهمة قبل قليل بتعاطي الإرهاب، وجميعها تشكل صورة للكيفية التي تدار بها اليوم الحرب الشاملة على الدول المارقة.
.
بيت القصيد في معلقة ربيع العرب
الحالة السورية التي أريد لها أن تكون مسك الختام في ربيع مغشوش يهيئ الأرضية لميلاد شرق أوسط أمريكي جديد، تشكل بلا ريب بيت القصيد في معلقة ربيع العرب، وهي المعركة الأم في صراع دولي كبير بين القوى العظمى على تقاسم الفضاء العربي، ليس العرب فيه سوى ساحة قتال ووقود رخيص، سوف تتقاسم فيه الشعوب والنخب ونظم الحكم الفاتورة، ومعها لعنة التاريخ التي سوف تلاحق الجميع من هذا الجيل.
أريد من القارئ أن يتجرد لساعة من الزمن من الأهواء والانتماءات والرغبات وحب الانتصار لهذا الطرف أو ذاك، وحتى يستريح بعضنا، دعونا نسلم لهم أن النظام السوري هو كما يوصف: نظام مستبد مثل بقية نظم الحكم في العالم العربي، وأن الشعب السوري له كثير من المظالم مشروعة، كانت ستبرر أي حراك شعبي من أجل تغيير الواقع. لكن في المقابل دعونا ننصف النظام السوري من بوابة القياس مع بقية الأنظمة العربية، ومنها أنظمة الخليج التي تدفع اليوم بالشعب السوري إلى هذا الاقتتال الآثم المدمر للدولة ولمقدراته.
.
فاتورة العصيان لأملاءات العم صام
فمع محدودية موارد سورية، قياسا مع كثير من الدول العربية، حقق النظام مستويات معتبرة في التنمية، والتعليم، والصحة، وقدرا معتبرا من الاكتفاء الغذائي رغم التحديات الكثيرة المحيطة به، ومنها الاستعداء الغربي الدائم للنظام، بوصف سورية دولة المواجهة الوحيدة التي لم تدخل في السلم الأمريكي الصهيوني، وظلت تشكل الحاضنة الأولى للمقاومة اللبنانية والفلسطينية، وآوت قرابة مليوني مواطن عراقي فروا من الجحيم الأمريكي ونشاط الميليشيات الشيعية في العراق، وهو البلد العربي الذي احتضن أكبر جالية من الفلسطينيين المهجرين من فلسطين ثم من لبنان، وسبق له أن احتضن الكثير من العرقيات الكردية والأرمينية التي سحقتها الدولة التركية، وتتمتع فيه الأقلية المسيحية بأفضل شروط المواطنة في كامل المشرق العربي، وقد استعان به العرب والمجموعة الدولية في إخماد الفتنة الطائفية في لبنان، ودفع الآلاف من أبنائه في الدفاع عن لبنان زمن الاجتياح الصهيوني لجنوب لبنان.
.
"الحالة السورية تشكل بيت القصيد في معلقة ربيع العرب، وهي المعركة الأم في صراع دولي كبير على تقاسم الفضاء العربي وبناء جدار برلين جديد"

المستدركعلىدعاةالحربالمذهبية
أسئلة كثيرة ينبغي على المواطن العربي أن يطرحها على قادة وشعوب دول الخليج وعلى تركية الأردغانية، قبل أن يسلم لهم بسلامة وبراءة موقفهم الداعي اليوم لمشروع إسقاط بشار الأسد وتفكيك الدولة السورية، أو الاستجابة لدعوات الاصطفاف المذهبي دون حساب عواقبها وتداعياتها.
الأول: ماذا قدمت هذه الدول من قبل للشعب السوري من أجل دعم حقه في استرجاع الجولان المحتل، أو دعم قدراته الدفاعية أمام التهديدات الصهيونية والضغوط والمساومات الأمريكية المتواصلة، حتى يمنع نظام الأسد من الارتماء في أحضان إيران كما يقولون؟
الثاني: أين كان ''العرب السنة'' في الخليج وتركية الأردغانية، حين كان "العرب السنة" في العراق يذبح أبناؤهم، ويستحي الأمريكي نساءهم، في الفلوجة والرمادي والأنبار، بل يستحي رجالهم في سجن أبو غريب؟
الثالث: أين كان "العرب السنة" من ذبح "الملك الأردني السني" لعشرات الآلاف من "الفلسطينيين السنة" في أيلول الأسود، ثم من الإبادة المباشرة لهم في غزة؟ بل أين هم من استمرار الحصار على ''شعب غزة السني'' حتى الآن ؟
.
حائط المبكى لعرب آخر الزمان
لا نتوقع منهم أجوبة، هي بلا ريب حاضرة في ذهن المواطن العربي الذي لا ينبغي أن يخدع مرة أخرى، ويساق إلى اصطفاف مذهبي مزور مخادع، في مواجهة فرضت على الشعب السوري وعلى دولته لحساب مصالح دول عظمى، منشغلة ببناء جدار برلين جديد، شاءت الصدف وموقع سورية أن يكون هذه المرة بأرض الشام، وتحسم معركته الأولى على أرض سورية.
الجميع في قطر والسعودية وإمارات الخليج يعلمون علم اليقين، أن المواجهة لن تحسمها تلك المجاميع المسلحة من شباب سورية، ومن المسرحين من الخدمة في العراق وأفغانستان وليبيا من مفرزات القاعدة وأرخبيل الجهادية السلفية، وأن النظام السوري لن يسقط إلا إذا تمكن الإصرار الغربي من توفير ظروف تدخل عسكري مباشر، يمنعه اليوم إصرار روسي صيني على كسب معركة سورية، لأنها في تقديرهم معركة فاصلة في بناء العالم المتعدد الأقطاب، وأنه حتى لو أصيب النظام السوري ببعض الوهن، فإن الحلف الروسي الصيني الإيراني لن يسمح له بالسقوط.
.
"أين كان ''العرب السنة'' في الخليج، حين كان "العرب السنة" في العراق يذبح أبناؤهم، ويستحي الأمريكي نساءهم، في الفلوجة ، ورجالهم في سجن أبو غريب؟"
المعركة الفاصلة على براميل العرب
وفي المقابل على النظام السوري وحلفائه أن يعوا أن الولايات المتحدة المهزومة في أفغانستان، والتي فقدت العراق لصالح تغلغل إيراني واضح، لن تسلم بسهولة بخسارة معركة سورية، حتى لو اقتضى الأمر الترتيب لحرب إقليمية أوسع، يزج فيها العرب في مواجهة مفتوحة مع إيران، لأن خسارة معركة سورية تعني في تقديراتهم، تثبيت جبهة تماس دائمة للقوتين العظميين العائدتين، ليس فقط مع إسرائيل، ولكن مع منابع 60 في المئة من مخزون النفط العالمي، أضيف لها بعد جيواستراتيجي جديد بعد تنصيب الدرع الصاروخي الأمريكي في تركيا، ولعل الجميع يكون قد التقط الجملة العابرة للسفير الروسي لدى الأمم المتحدة الذي وصف ما يجري في سورية بالمعركة الجيواستراتجية الكبرى.
قبل اخذ قرار الاصطفاف المذهبي الخادع، كان ينبغي للعرب عموما، ولعرب الخليج تحديدا، طرح السؤال السياسي البديهي: ما هي مكاسب العرب من إسقاط النظام السوري الذي لن يحصل إلا بسقوط الدولة وتفككها؟ وهل نتوقع من المعارضة السورية بناء نظام قومي أو إسلامي داعم للحق الفلسطيني، متحرر من الإملاءات الأمريكية وهي الداعم الرئيسي لمشروع إسقاط النظام السوري؟ وهل أخذ عرب الخليج من الحليف الأمريكي ضمانات حقيقية بإفراد موقع للعرب في إدارة إقليمهم، وإخراج تسوية معقولة ومقبولة للملف الفلسطيني؟ وهل وضعوا في الحسبان تداعيات حصول تسوية إقليمية ودولية كبرى تتقاسم فيها الدول العظمى النفوذ في الإقليم العربي عبر وكيليهما: إيران وتركية حين يقتنع كل طرف باستحالة حسم معركة سورية بالقوة؟
.
اليوم التالي لسقوط بوابة الشام
لست متأكدا أن أحدا من القادة الخليجيين، قد استشرف اليوم التالي لسقوط النظام السوري وتداعياته على أمنهم قبل أمن الشعب السوري، والأمن القومي العربي، كما لم يفكروا من قبل في اليوم التالي لسقوط نظام صدام حسين، حين انخرطوا بقضهم وقضيضهم في المشروع الاستعماري الأمريكي، وقبل ذلك كيف كانت مكاسب العرب والمسلمين من انخراطهم الأعمى في الحرب الأمريكية بالوكالة على الدب السوفييتي في أفغانستان؟
لست بحاجة أن يكون لك فقه كبار المحللين الاستراتجيين، حتى تستشرف بعض السيناريوهات الممكنة في حال سقوط النظام السوري، أو نجاحه في الصمود مع ما يتلقاه من دعم روسي صيني غير مسبوق في العلاقات الدولية، لم يحض به أي بلد عربي أو إسلامي من قبل.
سيناريو السقوط وله وجهان: سقوط للرأس باستمالة قيادة الجيش السوري، كما كان سيحصل قبل إعدام قادة الخلية الأمنية، وهو أقل السيناريوهات كلفة للشعب السوري ولدول المنطقة، لكنه لن يتم إلا بتعاون روسي صيني وحتى إيراني، أي عبر إبرام صفقة دولية وإقليمية، تقبل بتحييد سورية بالكامل من اللعبة الإقليمية، والتوافق على تعايش بين الدول العظمى إلى حين، مع إطلاق الأيدي الإيرانية بالكامل في العراق، وتكليف تركية بنوع من الوصاية على الملفات العربية وعلى رأسها الملف الفلسطيني.
أما الوجه الثاني للسقوط الكامل للنظام، والذي يفترض التفكيك المسبق للجيش السوري، فإنه يحتاج إلى تدخل عسكري غربي، هو حتى الآن في حكم الممتنع، وإذا حصل فإنه لن يتوقف عند حدود الشام، بل سيكون مقدمة لحرب إقليمية سوف تشعل منطقة الخليج بالكامل، ويكون عرب الخليج هم من سيدفع فاتورتها الكبرى.
.
"الولايات المتحدة لن تسلم بخسارة معركة سورية، حتى لو اقتضى الأمر الترتيب لحرب إقليمية، يزج فيها العرب في مواجهة مفتوحة مع إيران"
العرق الدساس من فصيلة قابل
السيناريو الثاني: وهو الأكثر حظوظا ينتهي بالدول العظمة إلى تأجيل المواجهة والقبول بإدارة النزاع المسلح عن بعد لسنوات مع تواصل ضخ المقاتلين العرب نحو سورية في قتال مستديم على الطريقة الأفغانية أو الصومالية، تتحول فيه سورية إلى بؤرة لتفريخ الجهاديين، سرعان ما يندفعون خارج حدود سوية نحو ربوع الشام والجزيرة.
السيناريو الثالث: أن ينجح النظام السوري في سحق المجاميع المسلحة وهو محمي من العقوبات الدولية وقرارات مجلس الأمن، تخرج منه سورية أقوى مما كانت عليه لكن بقطيعة دائمة مع محيطها العربي لتشكل مع إيران والعراق قوة ضغط دائمة على إمارات الخليج، فتجبرها على مزيد من طلب الحماية الأمريكية بالأثمان التي يعرفها الجميع وتحويل الجزء الأكبر من عوائد النفط إلى شراء الخردة من الأسلحة الأمريكية كما حصل فعلا مع صفقة
وفي الجملة، فإن سقوط النظام السوري لن يعود بأية مصلحة للعالم العربي، ولا حتى للشعب السوري، وهو بلا فائدة لدول الخليج حتى لو أدى إلى إضعاف إيران، وفي المقابل فإن صمود النظام سوف يلحق سورية بالكامل بالتحالف الروسي الصيني الإيراني العراقي، ويضع دول الخليج أمام ابتزاز أمريكي فاضح لمواردهم، أرى أنه قد بدأ فعلا مع صفقة طائرات الإيف 15 للسعودية بأكثر من خمسين مليار دولار، وصفقة صواريخ الباتريوت الممنوحة للكويت بقرابة خمسة مليار دولار.

الكاتب:
حبيب راشدين