- لماذا نهتم بمشكلة الكذب؟
يرجع الاهتمام بهذا الموضوع للأسباب التالية:
1 ـ أن الكذب يستغل في العادة للتستر على الذنوب والجرائم الأخرى.
2 ـ وجد علاقة كبيرة بين خصلة الكذب وخصلتي السرقة والغش، فهذه الخصال الثلاث تشترك في صفة واحدة وهي عدم الأمانة.
- معنى الصدق ومعنى الكذب:
للوهلة الأولى نعتقد أن الصدق هو مطابقة القول للواقع ولكن كثيراً ما يحدث ألا يكون القول مطابقاً للواقع، ومع ذلك يعتبر الشخص صادقاً كقول القدماء مثلاً بأن الأرض مسطحة وقولهم أن الشمس تدور حولها. وكثيراً ما يحدث أن يكون القول مطابقاً للأصل ولكننا نعتبر الشخص كاذباً كقول بعضهم: ويل للمصلين ثم الوقوف عند ذلك. ويهمنا في الصدق أن تكون النية متوفرة لمطابقة القول للواقع مطابقة تامة، ويلاحظ في الكذب توفر النية لعدم المطابقة والتضليل.
فلنأخذ أكاذيب الأطفال ونحن نعلم أن الأطفال كثيراً ما يكذبون. فليس بغريب على الطفل أن ينكر أمام والديه فعلة قد أتاها كقيامه بتكسير آنية أو تخريب شيء ما. ولكن الغريب أن يتألم الآباء لهذا أشد الألم ويقلقون له وينزعجون معتبرين أن الكذب فاتحة لعهد تشرد وإجرام في تاريخ حياة أطفالهم.
وهناك استعدادان يهيئان الطفل للكذب: أولهما قدرة اللسان ولباقته، ولعل هذا يوافق ما كانت جداتنا يقلنه عن بعض الأطفال على سبيل المزاح، فكن يعتبرن أن الطفل الذي يُخرج في الأسابيع الأولى لسانه ويحركه يمنة ويسرة سيكون في المستقبل قوالاً كذباً.
وثاني هذين الاستعدادين خصوبة الخيال ونشاطه. فخصوبة الخيال هي التي دفعت طفلاً صغيراً لم يتجاوز الثالثة من عمره لأن يقول بأن برغوثاً كبيراً خرج من كتاب أخته وطار إليه ليلسعه، وذلك بعد أن كان قد رأى صورة مكبرة لبرغوث في كتاب للمطالعة كانت تقرأه أخته.
- أنواع الكذب وأقسامه:
1 ـ الكذب الخيالي: يسمى هذا النوع من الكذب بالكذب الخيالي وإذا حكمنا على الطفل الذي يصدر منه هذا النوع من الكلام بأنه كاذب لكان ذلك كحكمنا على الشاعر أو الروائي أو المسامر بأنه كاذب في المادة التي يأتينا بها بمساعدة خياله الخصب ولسانه الذلق.
ومما يريح نفوس الآباء والمدرسين أن يعلموا أن هذا ليس إلا نوعاً من أنواع اللعب يتسلى به الأطفال. وعند كشف هذه القوة الخيالية الرائعة يحسن توجيهها والستفادة منها. وإذا لم تتح للطفل فرصة توجيه هذه الملكة وإنمائها فلا داعي للقلق والاهتمام بعلاج هذا النوع من الكذب، فالزمان وحده كفيل بذلك ولكن قد يعيد إذا نحن سألناه بطريقة لطيفة بين حين وآخر إن كان متأكداً من صحة ما يقول وإذا نحن جعلناه يحس من نبرات صوتنا بأننا نحب هذا النوع من اللعب ونشاركه فيه مشاركة فعلية، فنبادله قصة بقصة وخيالاً بخيال ونشعره أيضاً، بأن هذه القصص مسلية ولكنها مخالفة للواقع.
ويقرب من هذا النوع إلى حد كبير نوع آخر يلتبس يه على الطفل الخيال بالحقيقة ولذلك فهو يسمى الكذب الالتباسي.
2 ـ الكذب الالتباسي: وسببه أن الطفل لا يمكنه التمييز عادة بين ما يراه حقيقة وما يدركه واضحاً في مخيلته، فكثيراً ما يسمع الطفل حكاية خرافية أو قصة واقعية فسرعان ما تملك عليه مشاعره وتسمعه في اليوم التالي يتحدث عنها كأنها وقعت له بالفعل.
مثال ذلك طفل في الرابعة من عمره رأى في غرفة الزائرين شيخاً معمراً مستدير الوجه، واسع العينين، عريض الجبهة فذهب إلى جده وأبلغه أن الشيخ (محمد عبده) ينتظره في غرفة الزائرين، واتضح أن جد الولد كان قبل ذلك بأيام قلائل يصف الشيخ في مجلس من مجالسه لبعض زائريه وكان الطفل يستمع، فارتسمت في ذهنه بعض الأوصاف، فلما جاء الزائر، قال الولد ان هذا هو الشيخ (محمد عبده).
وكثيراً ما يحدث أن يقص الطفل قصة عجيبة ولو تحقق الوالدان الأمر لعرفا أنها وقعت للطفل في حلم، ومن هذا النوع مثلاً طفل قام من نومه يبكي ويقول أن اللص ذبح خادمة في الشارع، ووصف الحدث بشيء من التطويل وكل ما رآه في الحلم ولم يفرق بين الحقيقة والحلم فقص كل هذا على أنه حقيقة.
وهذا النوع من الكذب يزول عادة من تلقاء نفسه إذا كبر الطفل ووصل عقله إلى مستوى يمكنه فيه أن يدرك الفرق بين الحقيقة والخيال، وليس معنى ذلك أن نتركه حتى يزول من نفسه، فشيء من الارشاد مع مراعاة مستوى عقل الطفل يفيد فائدة كبيرة من الناحيتين الانفعالية والادراكية، ويمكن أن نسمي هذين النوعين من الكذب بالكذب البريء وننتقل إلى النوع الثالث وهو الكذب الادعائي.
3 ـ الكذب الادعائي: هذا الكذب موجه لتعظيم الذات وجعلها مركز الانتباه والاعجاب، ومن أمثلته أن يبالغ الطفل في وصف تجاربه الخاصة ليحدث لذة ونشوة عند سامعيه، وليجعل نفسه مركز إعجاب وتعظيم. وتحقيق كل من هذين الغرضين يشبع النزوع للسيطرة ومن أمثلة ذلك أن يتحدث الطفل عما عنده في المنزل من لعب عديدة أو ملابس جميلة والواقع أنه لا يملك شيئاً منها أو يفاخر بمقدرته في الألعاب أو في القوة الجسمية دون أن يكون له فيها أية كفاية وكثيرون من الأطفال يتحدثون عن مراكز آبائهم وكفايتهم وغير ذلك مما يخالف الواقع عادة.
فهذا الكذب ينشأ عادة من شعور الطفل بالنقص وتعظيم الذات عن طريق الكذب طريقة لتغطية هذا الشعور.
والكذب الادعائي قد يتسبب في بعض الحالات عن وجود الطفل في بيئة أعلى من مستواه في ناحية ما، فيدفعه ذلك لعمل كل شيء للوصول إلى هذا المستوى، وإن لم يتمكن من الوصول إليه بالطرق الواقعية الحقيقية، فإنه يحاول ذلك بطرق بعيدة عن الحقيقة، مخالفة للواقع، يخترعها من مخيلته. وبعبارة أخرى قد يتسبب الكذب الادعائي من عدم مقدرة الطفل على الانسجام مع مَن حوله ومن اختلاف البيئة التي يعيش فيها كالمنزل مثلاً أو كالمدرسة نتيجة الاذلال والقمع الواقعين عليه ممن حوله من الذين لا يريدون له الظهور.
ومن أنواع الكذب الادعائي أن الطفل يدعي المرض أو الظلم أو سوء الحظ ليحصل على أكبر قسط ممكن من العطف والرعاية.
وهذا النوع من الكذب يجب الاسراع في علاجه منذ الصغر وإلا نما مع الطفل وازداد وأصبح الطفل معتاداً عليه.
4 ـ الكذب الغرضي أو الأناني: إن الدافع الأساسي وراء الكذب الغرضي أو الأناني هو عدم توافر ثقة الشخص بالآخرين الذين يحيطون به، نتيجة عدم توافر ثقته فيهم أو لوقوفهم في سبيل تحقيق رغباته وحاجاته. وقد يكذب الشخص وخاصة الأطفال رغبة في تحقيق غرض شخصي وذلك سمي هذا النوع من الكذب بالكذب الغرضي أو الكذب الأناني. ومن أمثلته أن يطلب الطفل من أبيه النقود مدعياً أن والدته أرسلته لإحضارها منه، والواقع أن الطفل أرادها لنفسه لشراء بعض الحلوى. ومثال آخر أن يقوم طفل برسم صورة على حائط البيت بقلم الرصاص. فأحضر له والده سبورة ليرسم عليها، بدلاً من الكتابة على الجدران فطلب الطفل من أبيه اعطائه طبشورة. فأخرج والده اصبعاً وأعطاه نصفه فقط. ولما كان يريد الحصول على اصبع الطباشير كاملاً أخذ النصف الذي أعطاه إياه والده وخرج وبعد غيابه فترة عاد يطلب قطعة أخرى مدعياً أن القطعة الأولى فقدت منه. فخرج الأب للبحث عنها فوجدها مخبأة خلف السبورة فأخرجها وقال له أنها لم تفقد. فقال الطفل ولكنها لا تكتب وفي هذه الحالة كذب الطفل مرتين وكان غرضه من هذا الحصول على نصف الاصبع الآخر.
5 ـ الكذب الانتقامي: يتم هذا النوع من الكذب في أحيان كثيرة عند الطفل الذي يشعر بالغيرة من طفل آخر. أو عند الطفل الذي يعيش في جو لا يشعر فيه بالمساواة في المعاملة بينه وبين غيره. وغالباً ما يحدث ويصدر عن فتيات في سن المراهقة فتدعي الواحدة منهن بمحاولة تقرب الفتيان منها والتحبب إليها بطريقة لا شعورية عن طريق الكذب الانتقامي.
ويجب أن يكون الآباء والمعلمون في غاية الحرص إزاء هذا النوع من الاتهامات، إذ أنها تكون في كثير من الأحيان على غير أساس كاف من الحقيقة، وهي كما قلنا وأوضحنا أنها نوع من الكذب.
6 ـ الكذب الدفاعي: وهو من أكثر أنواع الكذب شيوعاً فيكذب الطفل خوفاً مما قد يقع عليه من عقوبة. وقد يكذب الطفل ليحتفظ لنفسه بامتياز خاص لأنه إن قال الصدق ضاع منه هذا الامتياز. مثال ذلك الطفل الذي سُئل مرة عما إذ كان يعتقد في (بابا نويل)، فقال انه بالطبع لا يعتقد في هذه الخرافة. فقيل له ولم لا تجاهر بهذا أمام والديك؟ فقال إنه يخشى أن يفقد شيئاً من عطفهما عليه ويحرم من هداياهما له في عيد الميلاد.
ومن أنواع الكذب الوقائي كذلك كذب الإخلاص أو الكذب الوفائي وفي هذه الحالة يكذب الطفل عادة على أصحاب السلطة عليه كالآباء أو المدرسين ليحمي أخاه أو زميله من عقوبة قد توقع عليه. ويلاحظ هذا في مدارس البنين أكثر منه في مدارس البنات وفي المدارس الثانوية أكثر منه في المدارس الإعدادية والابتدائية. ذلك لأن الكذب الوفائي مظهر من مظاهر الولاء للجماعة والولاء للجماعة يقوى في دور المراهقة (سن المراهقة) ويكون عادة عند البنين أكثر منه عند البنات من حيث الوقت.
7 ـ كذب التقليد: وكثيراً ما يكذب الطفل تقليداً لوالديه ولمن حوله، إذ يلاحظ في حالات كثيرة أن الوالدين نفسيهما يكذب الواحد منهما على الآخر، فتتكون في الأولاد خصلة الكذب، وفي ذلك مثال بسيط أن طفلاً كانت أمه توهمه بأنها تريد أن يصحبها للنزهة ثم يكتشف أنه يؤخذ للطبيب. ولذلك ننصح الآباء والمربين بعدم محاولة القيام بمثل هذه الأساليب مع الأطفال أو أمامهم.
8 ـ الكذب العنادي: أحياناً يكذب الطفل لمجرد السرور الناشئ من تحدي مَن هو مسؤول عنه خصوصاً إن كانت سلطتهم شديدة الرقابة، قليلة الحنو. مثال ذلك أم شديدة قاسية تقول للطفل انه لا يجوز له أن يشرب قبل النوم لأنه يتبول في فراشه، ولكن الولد ورغبة منه في المعاندة فكر في أن يقول إنه لابد أن يغسل وجهه قبل النوم. وعند غسله وجهه يشرب كميات من الماء وأمه واقفة دون أن تتمكن من ملاحظة ذلك وكان يشعر بنشوة ولذة كبيرة من استغلال غفلة أمه على الرغم من تشددها في الرقابة.
9 ـ الكذب المرضي أو المزمن: وهو النوع الأخير من أنواع الكذب السائدة والمعروفة في حياتنا. وقبل توضيح هذا النوع نذكر بأننا ركزنا على الكذب عند الأطفال في معظم هذه المقالة لأن هذه الظاهرة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة الانسان منذ طفولته وولادته، فاذا استطعنا التغلب عليها والقضاء عليها في مهدها استطعنا أن ننشئ جيلاً يعتز باسلامه وعروبته ودينه الحنيف الذي بعثه الله سبحانه وتعالى مناراً وهدياً لجميع الناس دون استثناء. ونوضح أن النوع الأخير من أنواع الكذب يصل عند الشخص أحياناً إلى حد أنه يكثر منه ويصدر عنه أحياناً على الرغم من ارادته. وهذا نلاحظه في حالة الكذب الادعائي لأن الشعور بالنقص يكون مكبوتاً ويصبح الدافع للكذب دافعاً لا شعورياً خارجاً عن ارادة الشخص وحالات الكذب المزمن معروفة في كل زمان ومكان.
ونلاحظ بعد توضيح الفرق بين الصدق والكذب وتوضيح أسباب الاهتمام بالمشكلة وتوضيح أنواع هذه الظاهرة، أن النوع الواحد لا يظهر غالباً قائماً بذاته، فالخبر الكاذب قد يؤدي وظيفة وقائية عنادية في الوقت نفسه. نلاحظ كذلك أنه لا ترسل للعيادة في الغالب حالة تكون الشكوى فيها من الكذب وحده.
ان هناك بعض القواعد العامة في التعامل مع هؤلاء الفئة من الناس وخاصة الصغار منهم، لأنهم في الغالب هم الذين يكثرون من هذه العادة السيئة والمشكلة التي يجب حلها والقضاء عليها وهي في مهدها.
فالقاعدة الأولى للآباء والمربين هي أن يتبينوا إذا ما كذب الطفل بأن كان كذبه نادراً أم متكرراً وإن كان التكرار فما نوعه؟ وما الدافع إليه؟ وأن يحجموا عن علاج الكذب في ذاته بالضرب أو السخرية أو التشهير أو غير ذلك وإنما يعالجون الدوافع الأساسية التي دفعت إليه. ويغلب أن يكون العامل المهم في تكوينها هو بيئة الطفل كالوالدين أو المدرسين أو أصحاب السلطة على وجه العموم. ويجب كذلك أن نتجنب الظروف التي تشجع على الكذب. فمثلاً إذا كان لدينا طالب نعهد فيه هذه الخصلة فلا نجعله المصدر الوحيد للشهادة في حادثة ما لأن هذا يعطيه فرصة الانطلاق في عادة الكذب وتثبيتها بالتكرار والتمرن، وزيادة على ذلك فلا يصح أن يعطى الكاذب فرصة الافلات بكذبة دون أن نكشفه، لأن النجاح في الافلات بالكذب له لذة خاصة تشجع على تثبيته واقترافه مرة أخرى بل تشجع أيضاً على الاسترسال في سلسلة من الأكاذيب المقصورة التي تصدر عن نفس هادئة مطمئنة. وإن أردت ألا يفلت الكاذب بكذبه فسلح نفسك أولاً بالأدلة القاطعة ولا تلصق به التهمة وإن كنت تشك به لمجرد أنه تعثر في حديثه مثلاً، أو ظهرت عليه علامات أخرى كالاضطراب في أثناء مناقشته. وعليك أن تأخذ أقواله بشيء من الثقة والتقدير وحاذر أن تظهر أمامه بمظهر الشك أو التردد سواء في حديثك أو حركاتك. يلاحظ كذلك أنه لا يجوز في الأحوال العادية إيقاع العقوبة على الطفل بعد اعترافه بذنبه، فالاعتراف له قدسيته واحترامه. ومن شأن إيقاع العقاب على الطفل بعد أن نحمله على القول الصادق والاعتراف أن يقلل من قيمة الصدق ومكانته في نظر الطفل الذي يعترف بذنبه يمكن إصلاحه وأما مَن يصر على الانكار فلا يجوز أن نبدأ باستجوابه لأن هذا نتيجته الاسترسال في الكذب والتفنن فيه. ومما يجب على الآباء والمربين تذكره باستمرار أن الطفل لا يسر بما عنده من أسرار إلا لأصدقائه. وأما الأب والمدرس فانه يخاطبهم عادة بشيء من الحرص والخوف. فالاعتراف والصدق والصراحة كلها امتيازات خاصة لا يحبوها ولا يقولها إلا لأصدقائه فيجب أن يحل التفاهم والأخذ والعطاء مقام القانون والعطف والمحبة محل السلطة والشدة، وأن نحجم عن العقوبات التي لا تتناسب مع الذنوب وألا توقع بعضها إلا إذا أدرك الطفل ادراكاً تاماً أنه أذنب، وإذا اقتنع بأنه يستحق العقاب فالعقوبات التي تجري على غير هذا المنوال تهد الأغراض التي ترمي إليها، فهي تفقد الطفل توازنه وشعوره بأمنه وسلامته في بيئته التي يعيش فيها وتدفعه إلى تغليف نفسه بغلفة الكذب والغش لوقاية نفسه ممن يعاقبوه. وإذا كان الأطفال يكذبون كما قلنا في أحيان كثيرة لتغطية نقص يشعرون به فعلينا أن نكثر لهم من الرحلات والهوايات فكل هذه تعطي الطفل نواحي حقيقية يظهر فيها ويتحدث عنها، وعدم الإكثار من مشاهدة الأشرطة الخيالية والخرافية وإنما الاستزادة من القصص المفيدة والواقعية يضاف إلى ذلك وجود انصاف الكبار المحيطين بالطفل بالصدق بأنواعه فلا غش ولا كذب ولا تجسس ولا اختلاق أعذار ولا تفادي للمواقف. وكذلك يتحتم وجوب احترام الصادق وتقديره مع مراعاتنا للعوامل التي تشجع الطفل على الكذب ومحاولة تلاشيها وإبعادها وخاصة في المدرسة حين يجتمع مع رفاقه وأصدقائه، وكذلك غضب المدرس وصراخه بالطفل مما يدفع الطفل لتغطية خطئه بالكذب، وكذلك الواجبات المدرسية التي تعطي جزافاً للطفل، فكل مدرس يعطي في العادة التلميذ واجباً بصرف النظر عما أعطاه إياه المدرس الآخر فيذهب التلميذ إلى منزله بعد يوم مدرسي طويل بكمية من العمل لابد له من إنجازها في الجزء الصغير الباقي من النهار فيضطر التلميذ إلى طلب مساعدة شخص آخر ثم يقدم ما أنجز في اليوم التالي على أنه من عمله الخاص. وتبالغ بعض المدارس وحتى رياض الأطفال أحياناً في كمية ما يعطى للأطفال من واجبات. وعامل آخر هو عدم تناسب العمل الذي يكلف به الطفل مع مقدرته مما يضطره إلى استعمال حيل التخلص من الظهور بمظهر العجز وكذلك عدم تناسب البيئة مع مستوى الطفل كوجود طفل فقير في وسط غني، أو طفل غبي في وسط أذكياء ومن العوامل المهمة التي تدفع المدرسين لدفع التلاميذ لعمل ما لا يلائمهم من حيث الكم أو الكيف أو ضغط الامتحانات وما اكتسبه من قوة. ومن أخطاء المدارس أحياناً عرض بعض الأعمال في المعارض على أنها من أعمال التلاميذ وتبرير ذلك، بأن جزءاً منها من أعمال التلاميذ. ويكون الواقع أن ما قام به التلاميذ من التفاهة بحيث لا يبرر عرضه على أنه من عملهم. والتلاميذ يشعرون عادة في قرارة أنفسهم بهذا ويتعودون الكذب والتساهل فيه في صميم نشاطهم المدرسي وذلك، عن طريق المثال والممارسة الذاتية.
ويخلص إلى القول أنه إذا نشأ الطفل في بيئة تحترم الصدق ويفي أفرادها دائماً بوعودهم وإذا كان الأبوان والمدرسون لا يتجنبون بعض المواقف بأعذار واهية كعادة التغيب والمرض، وبعبارة أخرى إذا نشأ الطفل في بيئة شعارها الصدق قولاً وعملاً فمن الطبيعي أن ينشأ أميناً في كل أقواله وأفعاله. وهذا إذا توافرت له أيضاً عوامل تحقيق حاجاته النفسية الطبيعية من اطمئنان وحرية وتقدير وعطف وشعور بالنجاح واسترشاد بتوجيه معقول. إذا توافر هذا كله فإن الطفل لا يلجأ إلى التعويض عن نقص أو الانتقام من ظلم أو غير ذلك من الاتجاهات التي تجد في أنواع الكذب صوراً مناسبة للتعبير عن نفسها.