ربما تكون عمارة الهند الإسلامية هي آخر عنقود للزهو الحضاري الذي أرساه الإسلام قبل الترنح اللاحق، وتعد العمائر التي تركها أباطرة المغول الذين جاؤوا الى الإسلام أعداء وانتهوا دعاةً ومدافعين ومكرسين لفنونه وحماة لثقافته، بحيث تشهد آثارهم على ذلك المسعى، واحدها عمران مدينة فتح بور سكري المنسية.
بناء مدينة فتح بور سكري:
فتح بور سيكري هي واحدة من أهم المدن الملكية المسورة التي أنشأها أباطرة دولة المغول المسلمين في الهند، وتعد من المجمعات التي احتفظت بمعالمها الرئيسية على مر الزمن. فقد أمر السلطان جلال الدين أكبر بتشييد هذه المدينة احتفالًا بانتصاراته الحاسمة على ملوك الهندوس، وبدأ العمل فيها عام 977هـ / 1569م، وبعد عامين من العمل قرر أكبر نقل عاصمة دولته من مدينة أجرا (أكرا أو أغرا) إلى موقع تلك المدينة التي عرفت أولًا باسم فتح أباد، ثم اشتهرت باسم (فتح بور سكري)، وهو مركب من (فتح بور) ومعناها (مدينة النصر)، وجاء مقطع (سيكري) لهذه التسمية بسبب أن المدينة برمتها شيدت على تل مرتفع يعرف باسم قرية سيكري القديمة القريبة من موقع هذا المجمع الملكي.
واللافت أن تلك المدينة التي حلت محل العاصمة أغرا، وبنيت خلال فترة قصيرة وقياسية من الزمن، لتعتبر معجزة عمرانية وواحدة من أجّّل حواضر الإسلام الآسيوي في ذلك الحين.
عاصمة لدولة المغول:
تقع فتح بور سكري على بعد 36 كم إلى الجنوب الغربي من موقع مدينة أجرا القديمة بولاية أوتار براديش الهندية، وقد استغرق العمل فيها قرابة 15 عامًا، أشرف خلالها أكبر بنفسه على أعمال البناء، بل وتدخل في تحديد تخطيطها الذي عهد به للمعماري الهندي طاهر داس.
وقيل أن الإمبراطور جلال الدين أكبر اتخذها عاصمة له بدلا من العاصمة أكرا تكريما لناسك متعبد يدعى الشيخ سالم تشيستي الذي كان يعيش في منطقة سكري عندما كانت أرضا قاحلة نائية، واكتسبت الحظوة بسبب الشيخ سالم بعد تنبوئه بأن زوجة الإمبراطور سترزق بثلاثة أولاد، مما أثلج صدر جلال الدين أكبر، بعد أن حرم من الذرية، ومن وريث يخلفه في الملك. وقد رزقت زوجة الإمبراطور فعلا بطفلها الأول في منطقة سكري وسماه جهانكير، ثم ولدت بنفس هذه القرية طفلا ثانيا وثالثا، ولما تحققت نبوءة الشيخ سالم أصبح الإمبراطور يكن له الاحترام والتقديس وآمن بما لهذه المنطقة (سكري) من حرمة وقداسة، مما دعاه إلى ترك عاصمته القديمة (أجرا) وبناء مدينة جديدة فيها على جانب كبير من الاهتمام في تخطيطها وبنائها.
وصف مدينة فتح بور سكري:
تعتبر مدينة فتح بور سيكري من أعظم مدن العالم جمالًا من حيث التنسيق وطراز العمارة الباذخ وأسلوب تشييد الحدائق والبساتين. وهي مريعة مسورة من ثلاث جهات تخترقها ثلاث بوابات، ورابعها شاطئ جميل يتربع على أعلى رابية عليها القصر الإمبراطوري والمسجد الجامع الذي حددت اتجاه القبلة ومناظر البحيرة كنه تخطيطه الذي جاء يحمل صفة معمارية هندية متميزة بالمحورية والانضباط الهندسي والتناظر الكتلي والمحوري لأجزاء البنايات، وتشمل مساحة المدينة على 5 كلم مربعة شاملة وكم من الجواسق والشرفات والمساجد والأضرحة والمساكن على الجانبين. وتربة المدينة جرف جبلي من الحجر الرملي يمتد منحرفا من الشمال الشرقي الى الجنوب الغربي الذي لعب كذلك كعامل مهم في خططها.
والزائر يدلج من الشمال الشرقي خلال باب أكرا ثم خلال "نوبة خانه" ثم يدخل من الشرق الى الفناء الكبير (ديوان عام) الواقع في منتصف الجزء الغربي للقصر أوقات الاستقبال الرئيسية. وفي هذه القاعة باب صغير من الغرب يؤدي الى (محلي خاص) أو أقسام القصر الخاصة التي تدور حول بركة مربعة ذات أربع قناطر تؤدي الى جزيرة في وسطها وتقع في جنوبها المساكن الخاصة بالإمبراطور. لقد كان القصر متميزا بقسمين أساسيين هما (مردانة) وهي الجزء الخاص بالرجال و(زنانة) وهو الجزء الخاص بالنساء كما هي القصور التركية التي فصلت بين (السلملك والحرملك)، وتمتعت أجزاء منه مثل (سوناهة مكان وبنج محل) أي جناح القصص الخمس وكذلك (هوى محل) الذي يستعمل كشرفة، على غنى في المعالجات المعمارية المتميزة بغنى العناصر الزخرفية بالرخام والقاشاني.
والبناء عموما مشيد من حجارة رملية حمراء بأعمدة وحيطان حاملة، وتغلب في معالجاتها الفنية الزخارف المحفورة حفرا سطحيا مع ميل نحو اللفائف التزيينية المحورة، وزخارفها النباتية لها ميل لمحاكاة الطبيعة وتأثيرات من العمارة الصفوية والعراقية، وكذلك صور تجسيدية على الطراز الهندي الذي تسامح فيها، ومما يميز معالجات الواجهات ويهبها طابعًا هنديا نمطيا هو مجموعة الأبراج الجرسية، التي ترسم خط السماء لهذا المهرجان الجمالي.
كما شيدت في مدينة فتح بور سكري القصور الشامخة والقاعات الرسمية للاستقبال والحمامات والإسطبلات، وأنشئت فيها بحيرة كبيرة وحدائق واسعة غناء مزدانة بأشجار السرو والياسمين، حتى بولغ في التفنن بتزويق المدينة إلى الحد الذي جعل الإمبراطور يبني فيها أبراجا للحمام ويطليها باللونين الأزرق والأبيض، وبنى فيها ساحة كبيرة للعب الكرة والصولجان (البولو) وأخرى لقتال الفيلة. وقد أحيطت هذه المدينة الواسعة بسور عظيم من الحجر الرملي الأحمر. ولقد وصف الإنجليزي رالف فتش هاتين المدينتين أجرا وفتح بور سكري عندما زارهما في عام 1585م بقوله: "إنهما أعظم من مدينة لندن، وأكثر منها سكانا".
فتح بور سيكري خليط بين العمارة الإسلامية والهندية:
أراد أكبر لمدينته المحصنة أن تعكس التقاليد المعمارية للمدن التي أقامها أجداده من نسل تيمور لنك في آسيا الوسطى تحت تأثير العمارة الفارسية الإسلامية، ورغم أن التصميم العام لها يعكس في بعض جوانبه طريقة تنظيم المخيمات البدوية العربية والتركية، إلا أن عبقرية أكبر المعمارية تتجلى أيضًا فيها، حيث أعاد صياغة التأثيرات المعمارية الإسلامية مع عناصر من العمارة الهندية القديمة والعمارة الإسلامية الإقليمية، خاصة في جوجارات والبنغال لتعطي تصميمًا جديدًا للمدن يعكس السمات الخاصة للعمارة في عهد أباطرة المغول.
تشكل مباني فتح بور سيكري خليطًا متناسقًا من التقاليد المعمارية الإسلامية والهندية بسبب استخدام بنائين من أقاليم إسلامية وهندية مختلفة، وقد استخدم الحجر الرملي الأحمر في تشييد أسوارها التي يبلغ طولها نحو 6 كم، وجعل لها مهندس البناء بوابات عدة، هي دلهي ولال وأجرا وبيربال وشاندنبال وجولار وتيهرا وجوهار وأجمير.
كما يمكن القول: إن مدينة فتح بور سكري بنيت بشكل يجعل التيارات كافة وسياسة التنظيم الإداري تصب فيها وتجد فيها انعكاسًا لها. وهي بذلك كانت واحدة من مدن إسلامية، آسيوية، قليلة بنيت انطلاقًا من أفكار فنية وإدارية وفكرية مسبقة. وإذا كان البناء قد تم تحت إشراف أكبر نفسه، فاللافت هنا هو أن معظم الأبنية أنشئت من طريق حجارة وجدران صنعت سلفًا ثم ركب كل منها في المكان المخصص له، بحيث يمكن اعتبار بناء مدينة الفتح، ريادة في مجال البناء المصنّع سلفًا. ولقد ركز زوار المدينة ومن بينهم الراهب الإسباني أنطونيو مونتسيرات الذي زارها أواخر القرن السادس عشر الميلادي، على أن القلعة التي تضم قصر الإمبراطور كانت فريدة من نوعها لأنها لم تكن محصنة، وهو ما كان يتعارض تمامًا مع كل مفاهيم الحكم وتحصّن الحاكم، التي كانت سائدة في ذلك الحين. ولقد كان في هذا ابتكار لعلاقة جديدة بين المدينة والقصر الذي يشرف عليها.
وكذلك لوحظ أن أجمل الأبنية التي أقيمت وسط المدينة كانت مفتوحة تمامًا على ما هو خارجها، وإن هذا الانفتاح كان هو ما يحدد جوهر المدينة وشفافيتها. ويمكننا أن نضيف إلى هذا، أن تكوّن المدينة، في الوقت نفسه، كقاعدة عسكرية إذ إن أكبر كان يمضي أكثر من نصف وقته في قيادة الحملات العسكرية، لم يمنع من رفدها بشتى ضروب الزينة والجمال المعماري.
وإلى هذا كله لا يفوت الخبراء اليوم أن يشيروا إلى عنصر أساسي من عناصر بناء هذه المدينة: عنصر الانتباه إلى ضرورة التعويض على ضآلة مساحة الأرض التي بنيت عليها. فالهضبة التي شكلت قاعدة المدينة، والتي كانت صومعة الشيخ الشتري تتوسطها، لم تكن واسعة الأرجاء. وهذا ما أجبر المهندسين على ابتكارات عمرانية كانت جديدة على معمار المدن. وإن تكن معروفة في الأرياف وفي القرى الجبلية: الإمعان في بناء السطيحات والشرفات المعلقة، في الوقت الذي استخدمت فيه المنزلقات لضبط دفق المياه، الذي كان مآله خزانًا كبيرًا يصل طول كل ضلع من أضلاعه إلى 5,27 مترًا، وعمقه إلى 9 أمتار. وحرص المهندسون على أن يبنوا عند السفوح أجنحة وقصورًا فاخرة يمكن للقاطن فيها أن يتأمل البركة المجاورة بنظرة بانورامية.
مسجد فاتح بور سكري:
وتضم المدينة الملكية مباني عدة أقدمها على الإطلاق المسجد الجامع (مسجد فاتح بور سيكري)، الذي يوجد به على المدخل الكبير المطل على الصحن نص تأسيسي يشير إلى انتهاء العمل به وافتتاحه للصلاة في عام 979هـ / 1571م.
وقد شيد هذا الجامع على نمط المساجد الهندية، أي أنه مؤلف من صحن مفتوح حوله إيوانات معقودة وقد شيدت أعلاه قباب بصلية صغيرة، بينما منطقة المحراب الرئيسي غطيت بقبة ضخمة كسيت من الداخل بالرخام المزخرف بالخفر بزخارف هندسية ونباتية.
بوابة بولاند دروازه:
ويتقدم المسجد الجامع لفتح بور سيكري بوابة ضخمة شيدت بعد خمس سنوات من بناء الجامع، تعرف باسم بولاند دروازه، وقد بنيت لتتقدم الجدار الجنوبي للمسجد الجامع كقوس نصر يخلد انتصارات أكبر الباهرة في جوجارات.
وصفها وليم فنج الإنجليزي الذي زار المدينة عام 1019هـ / 1610م بأنها "من أجمل البوابات وأعلاها"، حيث يصل ارتفاع هذه البوابة إلى 55 مترًا، كما زاد في صرحيتها موقعها الباسق الذي تصل إليه بدرج رخامي. وتعلو هذه البوابة مجموعة من القباب. وللبوابة مدخل ثلاثي العقود، وعلى العقد الأوسط الكبير نص تأسيسي يعين تاريخ البناء في عام 985 هـ / 1576م، ونص آخر باللغة الفارسية جاء فيه "قال عيسى عليه السلام: هذا العالم مثل الجسر، اعبر عليه، ولكن لا تبنِ فيه بيتًا، وإن هذا العالم باق. ولكن لأمد قصير، فاقضِه في النسك". وهذه العبارة كان قد رواها أبن عبد ربه الأندلسي في كتابه "العقد الفريد" بصيغة مشابهة. وهي حالة متناقضة تنم عن النفاق، حيث إنها دعوة للزهد في البناء، وما نجده هنا هو تبذير صريح، يرسم لنا صورة أخلاقية ربما طغت عليها حالة من النفاق.
وتعرف بولاند دروازه بين العامة باسم بوابة حدوة الفرس، وذلك بسبب تثبيت عدد كبير من هذه الحدوات على الباب الخشبي الضخم الذي يغلق عليها، على سبيل التيمن بجلب الفأل الحسن.
مقبرة الصوفي الشهير سليم الشيشتي:
وقد اهتم جلال الدين أكبر بتخليد ذكرى معلمه الصوفي الشهير سالم الشيشتي، قعندما توفي الشيخ سالم عام 979هـ / 1571م شيد له مقبرة بقلب صحن المسجد تعكس تقاليد بناء الأضرحة في إقليم جوجارات خلال القرن 15م، فهي عبارة عن بناء مربع كسيت جدرانه بألواح الرخام الأبيض، بينما يدور حول القبر مطاف مغطى تحجبه عن المبنى حجاب من الرخام المفرغ بزخارف نباتية وهندسية، وبداخل حجرة الدفن قبر الصوفي الشهير الذي تغطيه تركيبة خشبية مزخرفة بالصدف. وأصبح مرقده وكذلك ابنه إسلام خان، مزارا للتبرك.
عبادة خانة:
يضم الحي الملكي بفتح بور سيكري، عدة مبانٍ أخرى منها عبادة خانة، وقد شيدت عام 983هـ / 1575م لتكون قاعة لاجتماعات أصحاب الدين الإلهي، وبيوت لزوجات أكبر المسلمات والهندوسيات، وكذلك مقر الإقامة الخاص بالسلطان والمعروف باسم بانش محل، وهو مؤلف من خمسة طوابق وبيت لوزيره الهندوسي بيربال، وكذلك حجرة لدق الطبول إيذانا بوصول «أكبر»، وتعرف باسم نوبة خانة، وهي تقع عند بوابة الفيل بالسور الجنوبي للمدينة، فضلًا عن دار سك النقود والدفتر خانة وحمامات تركية واسطبلات والورش الخاصة بالصناع الذين يعملون في خدمة البلاط، وهي المعروفة باسم كار خانة.
هجران فتح بور سيكري:
لكن الغريب، والذي لا يزال يشكل لغزًا حقيقيًا حتى اليوم، هو أن المدينة بعدما عُمِّرت، عادت وهُجرت خلال أقل من خمسة عشر عامًا مضت على إنجاز بنائها. وظلت مهجورة، أشبه بأن تكون أثرًا بعد عين، طوال القرون التالية، بحيث لم يبق منها اليوم سوى قصر الملك أكبر، وبعض المباني الدينية والإدارية.
فمع أن الإمبراطور جلال الدين أكبر كان قد بنى هذه المدينة باذلا أقصى العناية والاهتمام، فإنه قد نقل عاصمة ملكه إلى مدينة أكرا وهي العاصمة القديمة، وعلى الرأي الراجح في سنة 993هـ / 1585م، ويعزى سبب تحوله عنها بهذه السرعة إلى عجز في الإمدادات المائية التي تروي وتسقي مدينة فتح بور سكري، ونتيجة لاضطراب الأمور في أراضي الراجبوت الهندوس القريبة، ما اضطر أكبر لاتخاذ لاهور عاصمة له ليتمكن من إقرار النظام في الدكن قبل أن يعود إلى أجرا في عام 1007هـ / 1598م.
وهي بذلك تشبه إلى حد بعيد مدينة سامراء العباسية في العراق، ومدينة الزهراء في الأندلس، التي لم يمر على عمرها أكثر من نصف قرن، حتى بدأ يدب بها الخراب فدرست، مع الفرق هنا بأن هذه المدينة التي استمرت حتى عام 1119هـ / 1610م بقيت محافظة على معالمها المعمارية بحال أحسن من قريناتها التي أكل الدهر عليها وشرب.
وتعد فتح بور سكري اليوم مزارًا سياحيًا مهمًا بالهند، خاصة بعد إجراء حفائر أثرية في محيطها، كشفت عن أنقاض مدينة هندية قديمة، واستمرار أهل سيكري في إنتاج التحف التقليدية التي تلقى رواجًا تجاريًا كبيرًا.
المراجع:
- علي الثويني: فتح بور سكري وسمو عمران مدائن الهند الإسلامية، جريدة الشرق الأوسط الدولية، العدد 8510، الأحد 3 محـرم 1423هـ / 17 مارس 2002م.
- أحمد الصاوي: "فتح بور سيكري" خليط من التقاليد المعمارية الإسلامية والهندية، جردية الاتحاد، 24 يوليو 2014م.
- إبراهيم العريس: ألف وجه لألف عام "فتح بور سكري" مدينة السلطان أكبر تستجيب للدين، جريدة الحياة الدولية، رقم العدد: 13903، 15 محرم 1422هـ / 9 أبريل 2001م.
قصة الإسلام