كان الشيطان يبذل كل جهده لتحطيم أيوب من كل ناحية:
في التجربة الأولي، أمكن أن يحطمه ماديًا وعائليًا. وفي التجربة الثانية، أمكن أن يحطمه صحيحًا. وكان كل ذلك بسماح من الله (أي 1، 2). ولكن تتعبه جدًا عبارة قالها الرب عن أيوب وهي " إلي الآن هو متمسك بكماله" ((أي 2:3). فكيف يمكن إذن زحزحته عن هذا الكمال؟
كانت الجولة الثالثة للشيطان، هي أن يحطم أيوب إيمانيًا.
واستخدم ذلك امرأة أيوب، لتثنيه عن إيمانه، وهي متعجبة كيف هو "متمسك بعد بكماله" (أي 2:9). وقطعًا كان الشيطان يتكلم من فمها.. غير أن أيوب البار صدها صدها في حزم، قائلًا لها: "تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات.." (أي 2: 10). وبدا أن الشيطان قد انهزم في الجولات الثلاث كلها. ولكنه -كعادته- لم ييأس واستمر في محاربة أيوب..
وكانت الجولة التالية للشيطان أن يحطم أيوب نفسيًا وروحيًا وأن يستخدم في ذلك أصحاب أيوب من ناحية، وقسوة المرض وطول مدته من ناحية أخرى..
وقد شملت هذه الجولة باقي سفر كله.
فما هي الفكرة الخطيرة التي وضعها الشيطان في أذهان أصحاب أيوب وزودها ببراهين، ونطق بها ألسنتهم..؟ الفكرة التي أثار بها الجو كله. وكانت موضع حوار بين أيوب وأصحابه استمر 28 إصحاحا، وخرج بها أيوب عن هدوئه؟
تلك الفكرة الشيطانية، هي أن التجربة سببها الخطية.
وبالتالي لابد أن يكون أيوب خاطئًا.. ولولا ذلك ما كان الله قد سمح بأن يجرده من أولاده، ومن ماله ومملكاته كلها، ومن صحته أيضًا! وكان ذلك يبدو كلامًا منطقيًا يتفق مع عدل الله..! وهكذا كانت كلمة الشيطان علي فم الشيطان علي أليفاز التيماني، أول المتكلمين من أصحاب أيوب " أذكر من هاك وهو برئ؟! وأين أبيد المستقيمون؟" (أي 4: 7). وبالتالي يكون أيوب في كل شفائه، إنما يحصد نتيجة طبيعته لما زرعه من إثم. وهكذا أكمل أليفاز حديثة قائلًا " كما قد رأيت: أن الحارثين إثمًا، والزارعين شقاوة يحصدونها" (أي 4: 8).
وكان اتهام أيوب بأنه خاطئ يستحق تأديب الله أمرًا يسعد الشيطان.
يسعده كلون من الشماتة في أيوب، ولو بطريق الإدعاء! ويسعده أن ذلك رد علي وصف أيوب بأنه " رجل الكامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر" (أي 1: 8)، وأنه "إلي الآن هو متمسكٌ بكماله" (أي 2: 3). كما أن هذا الاتهام سوف يثير أيوب ويتعبه. وهذا أيضًا يسعد الشيطان، وبخاصة لو كثرت الاتهامات ومست بر أيوب وسمعته التي يحرص عليها..
وقد كان. بدأ أصحاب أيوب يكيلون له الاتهامات في قسوة.
وأحدثت الاتهامات تأثيرها، وبدا أيوب يثور ويرد..
مشكلته أنه قيل الإثارة. تأثر بها، وأخذ يدافع عن نفسه. وكان خيرًا له لو أنه صمت، وترك الله يدافع عنه... نعم، ليته صمت فما أعمق قول سليمان الحكيم " لا تجاوب الجاهل حسب حماقته لئلا تعدله أنت (أم 26: 4). في بادئ الأمر، رد علي أصحابه في هدوء. ولما زادت اتهاماتهم له بأنه خاطئ. ويحتاج إلي توبة، وسردوا عليه ألوانًا من الاتهامات، حينئذ ثار عليهم وقال لهم "أما أنتم فملفقو كذب، أطباء بطالون كلكم. ليتكم تصمتون صمتًا، ويكون ذلك لكم حكمة" (أي 13: 4، 5). إلي أن قال لهم "معزون متعبون كلكم. هل من نهاية لكلام فارغ "(أي 16: 2، 3).
وكان الشيطان فرحًا جدًا بهذا الصراع بين أيوب وأصحابه، يغذيه أحيانًا. وكان سعيدًا بإثارة أيوب. ولكن القصة لم تتم فصولًا. هناك ما هو أخطر. لم يكن سبب الإثارة فقط أنه خاطئ. بل بالأكثر إن الله ضده يعاقبه، "ويغرمه بأقل من إثمه" (أي 11: 6).
ويبدو أن أيوب - للعجب الشديد - دخلت الفكرة إلي ذهنه أن الله يقف ضده، وأنه سبب كل متاعبه!! فدخل في عتاب شديد وطويل مع الله..!
إنها مشكلة جديدة وقع فيها أيوب: أن الله قد جعله خصمًا له وأن الله يستذنبه، لكي يتبرر فيما أوقعه فيه من متاعب!! والظاهر أن تكرار ما سمعه من أفواه أصحابه، جعل هذا الفكر يزحف إلي ذهن أيوب وإلي قلبه ومشاعره، ويعاتب الله عليه.. كيف حدث ذلك؟ .
ربما بسبب إيمانه أن كل شيء من الله..
سواء كان بإرادة الله، أو بسماح منه.. لذلك قال قبلًا" هل.. الشر من الله لا نقبل؟ (أي 2: 10). إذن هو مؤمن أن كل الشرور (أي المتاعب) التي أصابته هي من الله "وفي كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه" (أي 2: 10). وهكذا فإن في التجربة الأولي، لما أخذت منه أملاكه كلها وأولاده قال ".. الرب أخذ" (أي 1: 21).
أيوب يعاتب الله عتابًا طويلًا شديدًا
فماذا كان موقفه من الرب الذي أخذ، والشر الذي أصابه؟
يبدو أنه لم يقبل ذلك الشر كما قال، بل عاتب الرب عليه.
أكبر دليل، وأول دليل، أنه بعد الكآبة الشديدة التي حلت عليه، أخذ يسب يومه، ويقول " ليته هلك اليوم الذي ولدت فيه.." (أي 3: 3). ولماذا؟ " لأنه لم يغلق أبواب بطن أمي، ولم يستر الشقاوة عن عيني "(أي 3: 10). لأني إرتعابًا أرتعب فأتاني، والذي فزعت منه جاء علي "" لم أطمئن، ولم أسكن، ولم استرح، وقد جاء الرجز" (أي 3: 25، 26).
إذن هو لم يقبل ذلك الشر، بل اكتأب كآبة عظيمة جدًا (أي 2: 13). وارتعب وفزع، ولم يطمئن بشفتيه" (أي 2: 10). شفتاه لم يصدر منهما خطأ. أما قلبه فلم يسترح!
وفي عتابه مع الله، نسب إليه كل المتاعب..
"يرضي الله أن يسحقني. يطلق يده فيقطعني" (أي 6: 9). "ذاك الذي يسحقني بالعاصفة، ويكثر جروحي بلا سبب "(أي 9: 17).
"لا يدعني آخذ نفسي، ولكن يشبعني مرائر "(أي 69: 18).
"وقال للرب " كتبت علي أمورًا مرة، وورثتني آثام صباي" (أي 13: 26).
"جعلت رجلي في المقطورة، ولا حظت مسالكي.. وأنا كمتسوس يبلي، كثوب أكله العث" (أي 13: 27، 28) , وكان يشعر بشدة ما فعله الله به، ويشكو..
ويقول "أزل عني كرامتي، ونزع تاج رأسي" (أي 19: 9). " كنت مستريحًا فرعرعني ونصبني له غرضًا. شق كليتي ولم يشفق. سفك مرارتي علي الأرض" (أي 16: 12، 13).
"أوقفني مثلًا للشعوب. وصرت للبصق في الوجه" (أي 17: 6).
"هوذا يقتلني. لا أنتظر شيئًا. فقط أزكي طريقي قدامه" (أي 13: 15). " في عذاب لا يشفق. أني لم أجحد القدوس "(أي 6: 10)
هو أيضًا يطلب من الله أن يكف عنه، يريحه قبل موته.
فيقول له " قد ذبت.. كف عني، لأن أيامي نفخة" (أي 7: 16).