جبريل في الغار:
عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار ليُكمل جواره، وكان هذا في شهر رمضان كذلك، وكما تعوَّد في الأيام الأخيرة تحقَّقَتِ الرؤيا التي رآها كفلق الصبح، وجاءه جبريل عليه السلام كما رأى في الرؤيا تمامًا!

دخل عليه جبريل عليه السلام في الغار وقال له: "اقْرَأْ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5]"[1]. وهكذا تحقَّق ما رآه صلى الله عليه وسلم في رؤياه تمامًا بتمام، ولنا مع هذا الموقف وقفات ..

وقفة مع نزول جبريل على رسول الله:
قد يسأل سائل: لماذا الضغطة المتكرِّرة؟ ولماذا الإجهاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا التخويف له بهذه القوَّة الجبارة التي يراها من جبريل عليه السلام؟

ذلك فيما يبدو ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمر حقيقي، وأنه غير واهم، وأنه يتألم ألمًا حسيًّا لما يراه؛ فمعنى ذلك أنه ليس هناك نوع من الأوهام أو الخيالات يراها، ثم إن هذا نوع من التدرُّج في طريقة نزول الوحي؛ فالوحي سينزل ثقيلاً هكذا؛ يقول ربنا عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5]. وكلمة {ثَقِيلاً} لا تعني فقط الثقل في المعنى أو المحتوى أو الأهمية أو القيمة، إنما تعني كذلك الثقل الحسي المادي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يُلْقَى عليه الوحي كان يشعر بثقل حقيقي مادي يقع عليه.

يُؤَكِّد ذلك زيد بن ثابت رضي الله عنه حين قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمْلَى عَلَيْهِ "لاَيَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ". قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُمِلُّهَا عليَّ فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدتُ. وكان رجلاً أعمى، فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فَثَقُلَتْ عليَّ حتَّى خِفْتُ أن تَرُضَّ فخذي (أي تدقها أو تكسرها)، ثم سُرِّيَ عنه فأنزل الله عز وجل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95][2].

فالثقل الذي كان للوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فخذه تشتدُّ ثقلاً على فخذ زيد بن ثابت رضي الله عنه، حتى كادت أن تُكْسَر، وهذا يعني ثقلاً ماديًّا حسيًّا كان ينزل عليه صلى الله عليه وسلم، وتقول عائشة رضي الله عنها: "إِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا (جِرانُ البعير مقدَّم عُنقه من مذبحه إلى منحره)[3]. وهذا يعني أن الراحلة أو الدابَّة كانت -أيضًا- تشعر بالثقل الذي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يُوحى إليه.

فمعظم صور الوحي التي كانت تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تأتيه في شكل شديد، بعضها أشد من بعض؛ سأل الحارث بن هشام رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ (يقلع وينجلي ما يتغشاني منه) عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ"[4].

وهذا يعني أن الوحي كان يأتي في درجات شدَّة متفاوتة أشدُّها صلصلة الجرس، وبعضها أقل شدَّة من ذلك؛ ولكنه على العموم يأتي شديدًا، وتقول عائشة رضي الله عنها: "وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا" [5].

هذا كله يعني أن الوحي سيأتي بشكل شديد؛ ومن ثَمَّ كانت الضغطة والضمَّة التي يقوم بها جبريل عليه السلام لتدريب الرسول صلى الله عليه وسلم على ما سيأتي لاحقًا؛ ولإعلامه بالطريقة الشديدة التي سيأتي بها الوحي في السنوات القادمة.

ولماذا يأتي الوحي بهذه الشدة؟
إن هذا -فيما أرى- نوع من الابتلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان أشدَّ الناس بلاءً؛ فابتُلي في أهله، وماله، وبلده، وأصحابه، وأمور أخرى كثيرة، وكان يُوعَك مثلما يُوعك الرجلان من أُمَّته[6]، وهذا ابتلاء من نوع جديد يتعرَّض له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو ابتلاء تحمُّل ثقل الوحي عليه، وكما يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: "أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ"[7]. فهذا نوع من الاختبار والامتحان للأنبياء، وكان صلى الله عليه وسلم أشدَّ الناس ثباتًا، وأشدَّ الناس تقبلاً لهذا الأمر؛ حتى إنه كان يشتاق إلى ذلك الوحي مع شدَّته عليه.

يروي ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا؟"، فنزلت: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64][8]. فمع هذه الشدَّة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى من ورائها الخير والهدى والرشاد والنفع للأُمَّة الإسلامية، وكان يشتاق لجبريل عليه السلام، ولكلام الله عز وجل؛ ومن ثَمَّ كان يطلب تكرار الزيارة، وتكرار نزول الوحي، مع كونه ثقيلاً عليه، ومؤلمًا له.

ولعلَّه من الواضح أنه من رهبة الموقف وشدَّة الضغطة لم يستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حفظه من كلام الملك في الرؤيا، فلم يرد على الملك عندما سأله: اقرأ. لم يرد عليه بالكلمات التي حفظها من الرؤيا السابقة؛ ولكنه قال: ما أنا بقارئ. وبالتالي تكرَّرت الضمات الثلاث كما بيَّنَّا، وليتحقق قدر الله عز وجل في حدوث الرؤيا على الحقيقة كفلق الصبح.

بعد هذا الموقف اختفى الملك، وخرج صلى الله عليه وسلم من الغار مرتعبًا مرَّة أخرى إلى خديجة رضي الله عنها، وكما تقول عائشة رضي الله عنها في روايتها: "يَرْجُفُ فُؤَادُهُ" أي يرتعش فؤاده، وفي رواية "تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ (بادرة وهي لحمة بين المنكب والعنق)"[9]. ووصل إلى خديجة رضي الله عنها وقال لها: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي". فزملوه حتى ذهب عنه الروع، وأخبرها الخبر، ثم قال: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي".

كانت كلمة: "خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي" من رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالة على أنه ما زال مرعوبًا مما رأى، ومن الواضح أنه حتى مع هذه التأكيدات التي شاهدناها قبل ذلك في القصة من ورقة بن نوفل، ومن الملك الذي وقف له في السماء، ومن غير ذلك من المشاهدات والإرهاصات؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال غير متيقن من كونه نبي هذه الأُمَّة؛ حيث إن التصريح بالرسالة من الملك كان مرة واحدة عند خروجه صلى الله عليه وسلم من الغار في المرة الأولى بعد "الرؤيا"، ولم يُصَرِّح له الملك بالرسالة عندما جاءه على الحقيقة في الغار، إنما اكتفى بقراءة الآيات دون أن يُوَضِّح مراده منها؛ لذا فإنه من الممكن أن يكون قد دخل في روعه صلى الله عليه وسلم أنه من المحتمل أن يكون هذا مسًّا من الجنِّ، ومسُّ الجنِّ يُحدث ألمـًا جسديًّا في مَن يُصيبون، ويُؤَدِّي إلى أمراض حقيقية يعاني منها البشر، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يكون الوضع كذلك.

ولذلك جاء ردُّ فعل خديجة رضي الله عنها واضحًا فقالت: "كَلاَّ وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا". بمعنى أن الله عز وجل لن يفعل بك مكروهًا فيُعطيك الأمارات على أنك رسول، ثم يسحب منك هذه الأمارات، أو يُعطيك الأمل على أنك الذي ستحمل الهداية للناس، ثم بعد ذلك تُصبح مريضًا بسبب الجنِّ أو بغيره، فأنت لا يمكن أبدًا أن يقع معك هذا الخزي من الله عز وجل، وعَلَّلَتْ خديجة رضي الله عنها ثقتها في عدم وقوع الخزي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها المشهور: "إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ"[10].

فهذه خمسة أعمال تقوم بها، لا يستقيم معها أن تتعرَّض للخزي من الله عز وجل، وفي رواية زادت صفة سادسة حيث قالت: "وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ"[11]. والذي يلفت النظر حقيقةً في كلمات خديجة رضي الله عنها أنها علَّقت في هذه الصفات على علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس، ولم تُعَلِّق خديجة في كلماتها على تَعَبُّده أو تَحَنُّثه في الغار، وفي هذا دلالة على أن المحكَّ الحقيقي للداعية هو في علاقته بالناس، وفي الاختبار الكبير الذي يقع فيه عندما يتعامل مع الطوائف المختلفة في المجتمع، خاصة إن كانت هذه الطوائف طوائف ضعيفة؛ كالمعدومين، أو كالمساكين، أو كالواقعين في أزمة من الأزمات.

فكان صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الأمور هو المتحرِّك الأول، والمعين الأكبر لهؤلاء الضعفاء في بلده، وهنا تلحظ خديجة رضي الله عنها هذا الأمر، وتربط به بين علاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وبين علاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل؛ فتقول: إن مَنْ يفعل هذه الأمور فإن الله عز وجل لا يمكن أبدًا أن يخزيه. ولسان حالها يتحدَّث بما قاله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عندما أصبح رسولاً: "وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ"[12].

[1] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(3)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (160).
[2] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]، (2677)، والترمذي (3033)، والنسائي (4308).
[3] أحمد (24912)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح وهذا سند حسن. وقال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 8/257.
[4] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، (3043)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد وحين يأتيه الوحي، (2333).
[5] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (2)، والترمذي (3634)، والنسائي (1006)، وأحمد (26241).
[6] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ". البخاري: كتاب المرضى، باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول، (5324)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة، (2571).
[7] النسائي: كتاب الطب، أي الناس أشد بلاء، (7482)، واللفظ له، وأحمد (27124)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح لغيره وهذا إسناد حسن. والدارمي (2783)، وقال حسين سليم أسد: إسناده حسن والحديث صحيح. وابن حبان (2900)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن.
[8] البخاري: كتاب التفسير، سورة مريم، (4454)، والترمذي (3158)، والنسائي (11319)، وأحمد (2043).
[9] البخاري: كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا، (6581)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (160).
[10] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (3)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (160).
[11] البخاري: كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا، (6581)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (160).
[12] مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، (2699)، وأبو داود (4946)، والترمذي (1425).

-------------

اقرأ .. أول ما نزل من القرآن الكريم





دخل عليه جبريل عليه السلام في غار حراء، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5]"[1].

وقفة مع الآيات الخمس الأولى التي نزلت:
والحق أننا ينبغي أن نقف وقفة مع الآيات الخمس الأولى التي نزلت، وخاصة مع الكلمة الأولى التي نزلت من هذه الآيات الخمس على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث جاءت الآيات تحثُّ على موضوع واحد؛ وهو موضوع العلم، وتختار وسيلة واحدة من وسائل التعلُّم وهي القراءة؛ لتُصبح هي البداية لهذا المنهج الرباني العظيم.

إن القرآن الكريم يزيد عن 77 ألف كلمة، ومن بين كل هذا الكمِّ من الكلمات، كانت كلمة: "اقرأ". هي الأولى في النزول، كما أن في القرآن الكريم آلافًا من الأوامر مثل: {أَقِمِ الصَّلاَةَ} [هود: 114]، ومثل: {آتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، ومثل: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة: 218]، ومثل: {وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]، ومثل: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254]. وهكذا، ومن بين كل هذه الأوامر نزل الأمر الأول: "اقرأ".

مع الأخذ في الاعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب، وقد تحلَّى بآلاف الفضائل والأخلاق الحميدة، وكان من الممكن أن يتحدَّث القرآن الكريم في أولى آياته عن أحد هذه الأخلاق العظيمة؛ لكن يبدو أن الإشارة واضحة من أن مفتاح بناء هذه الأُمَّة، وأول الطريق الصحيح هو "العلم"، وإحدى أهم وسائل التعلُّم كما أشار ربُّنا عز وجل هي القراءة، وبالتالي كرَّر الأمر بالقراءة في الآيات الخمس الأولى مرتين.

وذكر كلمة العلم بمشتقاتها ثلاث مرات، وذكر القلم وهو وسيلة من وسائل الكتابة مرَّة، كل ذلك في خمس آيات؛ مما يدلُّ على أهمية العلم والقراءة في حياة أُمَّة الإسلام، ولَفْت النظر إليه كان ضرورةً؛ ليعلم المسلمون كيف يبدءون بناء أمتهم بعد ذلك، كما لفتت الآيات النظر إلى أن القراءة المطلوبة هي قراءة بسم الله عز وجل.

ومعنى هذا أنها قراءة تُرضي الله ولا تغضبه، فهي ليست قراءة منحرفة، وليست قراءة تافهة أو ضالَّة أو مُضِلَّة؛ إنما هي قراءة كما أمر الله عز وجل باسمه تعالى، وعلى الطريقة التي علَّم بها الله عز وجل عباده المؤمنين.

كذلك الآيات تتحدَّث عن صفة من صفات الله عز وجل لم يَدَّع أحد من المشركين أن هذه الصفة منسوبة لأحد الآلهة التي يعبدونها من دون الله، وهي صفة الخلق؛ حيث قال الله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]؛ وهذا لكي ينتفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي نوع من الالتباس في الذي رآه.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ زمن وهو يبحث عن خالق هذا الكون، وخالق الناس، وكيف يمكن أن يعبده، فيلفت الله عز وجل نظره إلى أن جبريل الذي جاءه بهذه الآيات يتحدَّث عن الإله الذي خلقه وخلق السماوات والأرض، وخلق كل شيء؛ ومن ثَمَّ يأخذ انتباه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل وعيه يُدرك أنه في موقف حقيقي، وليس في وهم أو خيال.

[1] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(3)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (160).



د.راغب السرجاني