الاسم: فاطمة (ع)
اسم الأب: محمد رسول اللّه (ص)
اسم الأم: خديجة
تاريخ الولادة: 20 جمادي الثانية (8 سنوات قبل الهجرة)
محل الولادة: مكة المكرّمة
تاريخ استشهادها: 3 جمادى الثانية السنة العاشرة للهجرة
محل استشهادها: المدينة المنورة
محل دفنها: المدينة المنورة
فاطمة الزهراء عليها سلام اللّه
بسم اللّه الرحمن الرحيم
يذكرها المؤمن حين يذكر الطّهر والنّزاهة والفضيلة.
يذكرها المظلوم فيسلو وينسى ما يعاني، حين يذكر ما عانت الزّهراء من الظّلم، وما نزل بها من الأذى.
تذكرها الزّوجة الصّالحة حين تذكر حياتها مع أميرالمؤمنين (ع) فتتّخذها قدوةً ومثلاً.
تذكرها الأمّ حين تذكر ما قدّمته للعالم من أئمةٍ أبرارٍ معصومين، فتربّي أبناءها على نهجهم وسيرتهم.
يذكرها الأب حين يذكر كيف قام رسول اللّه (ص) بتربيتها ورعايتها كأفضل ما تكون التربية والرّعاية.
تلك فاطمة الزهراء عليها سلام اللّه، والتي سنروي لكم قصّتها.
امرأة فاضلة
يحسن بنا قبل البدء بقصة فاطمة عليها السلام، أن نتذكر أمّها السيدة خديجة الكبرى.
كانت خديجة من أغنى نساء عصرها، وكان الكثيرون من كبار مدينتها يتمنّون الزّواج منها، طمعاً بثروتها، لكنّها أقدمت على عملٍ ملفتٍ للأنظار، فقد اختارت محمداً الأمين زوجاً لها، من بين أعيان المدينة وأشرافها، رغم أنّه لم يكن من الأثرياء.
أثار فعل خديجة سكّان المدينة، نساءً ورجالاً، لكنّها لم تهتّم بهم، ولم ترجع عن قرارها.
لقد اختارت - في الحقيقة - أفضل الرّجال شريكاً لحياتها، لكنّ أكثر الناس كانوا يجهلون هذه الحقيقة، وكان هذا التصرف منها دليلاً على حسن إدراكها، فلا عجب إذن، أن تنشأ في أحضان امرأةٍ كخديجة، ابنة كريمة كفاطمة.
العزلة
عاش محمد (ص) وخديجة حياةً هادئة مطمئنّة سنين عديدة، حتى بعث صلى اللّه عليه وآله نبياً، وكانت خديجة أوّل امرأة آمنت به ودافعت عنه. ونتيجةً لذلك فقد أظهر أعيان المدينة وأشرافها عداوتهم لمحمدٍ وخديجة، وفرضوا عليهما عزلةً خانقة.
تحمّلت خديجة هذه المصاعب في سبيل اللّه ورسوله، وشاركت محمّداً (ص) آلامه ووحدته، وصرفت عنه من الهموم ما استطاعت، وضحّت بالكثير قربةً إلى اللّه تعالى، فكانت بحقّ زوجةً تقيّةً ورعة، تعرف اللّه حقّ معرفته، وتتوجّه إليه في كلّ شيء.
الولادة
ظهرت في الأفق تباشير، آذنت بقرب انتهاء العزلة، حين شعرت خديجة بحركةٍ في أحشائها، تبشّر بوليدٍ جديد.
وفي ليلتها الأخيرة من الحمل، وآلام الولادة تشتدّ بها، بعثت إلى القوابل من قريشٍ فأبين أن يأتينها ويساعدنها.
عند ذاك وقع أمر عجيب، هو في نظر الناس عسير، لكنّه على اللّه يسير، فقد شعّ النور فجأةً في غرفة خديجة، وظهرت أربع نسوةٍ، تحيط بوجوههنّ هالات من النور، وجلسن إلى جانبها بعد أن ألقين عليها السلام، وبادرن بالقول بلطف: «لا تخافي يا خديجة، إنّنا ضيوف من عند اللّه». هدأ روع خديجة بعد خوف، وسكنت نفسها، ووسط هالةٍ من النور، وضعت وليدتها فاطمة.
سيعجب الكثيرون لو عرفوا أنّ النّسوة، لم يكنّ إلا: «سارة» زوجة إبراهيم و «آسية» زوجة فرعون و«مريم» أمّ عيسى و«كلثم» أخت موسى. لكنّ العجب العجاب هو من أولئك الذين ما زالوا يجهلون أبعاد عالم الإنسان، أو يغفلون عن قدرة اللّه الباهرة، يا ليتهم كانوا يفقهون.
فاطمة (عليها السلام)
نعم . . . هكذا ولدت فاطمة عليها السلام، وفي أحضان الرسول وخديجة كبرت وترعرعت. وكان لرسول اللّه غير فاطمة بنات ثلاث: رقيّة وأمّ كلثوم، اللّتان تزوّجتا من «عتبة» و «عتيبة» ولدي أبي لهب، وعاشتا زمناً مع «أمّ جميل» امرأة أبي لهب، وأخت أبي سفيان. والثالثة هي زينب، زوجة «العاص» أحد أعداء الرسول. وقد طلّقت رقيّة وأمّ كلثومٍ من زوجيهما، بأمرٍ من أبي لهب، وعادتا ليزوّجهما الرسول، الواحدة بعد الأخرى من «عثمان» حيث توفّيتا في بيته، دون أن تنجبا منه.
والابنة الوحيدة التي بقيت في بيت الرسول (ص) هي فاطمة عليها السلام، والحقّ أنّ فاطمة كانت نموذجاً آخر.
باختصارٍ نقول، إنّ فاطمة كانت بضعةً من رسول اللّه، أخذت عنه الكثير من صفاته الحميدة، ومزاياه النّادرة.
ما إن بدأت أيّام الشّدة بالزوال، وأيقن الناس من نجاح الدّعوة، حتى تهافت الكبار والأعيان، على الرسول يطلبون يد وحيدته، طمعاً بالمقام العالي، بالقرب من رسول اللّه. لكنّه كان معروفاً تمام المعرفة أنّ فاطمة هي لعليّ. فعليّ هو ابن عمّ رسول اللّه، ورفيقه ونصيره، صاحب المكانة العالية من الإيمان والعلم والتقوى.
ودارت الأيام، وادّخر القدر الواحد منهما للآخر، وشاء لهما أن يلتقيا كما يلتقي بحران كبيران. ليقدّما للعالم أطهر اللآلىء، {مرج البحرين يلتقيان . . . يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} الرحمن - 19 و 21.
في أحد الأيام، وفي جمع ضمّ عدداً من كبار المسلمين، في مسجد الرسول، دار الحديث حول فاطمة (ع) وحيدة الرسول. قال أبوبكر، وكان من بين الحضور: «لقد تقدّم الكثيرون من كبار المهاجرين والأنصار يخطبون فاطمة، لكنّ رسول اللّه لم يعطهم جواباً شافياً، وقد سمعت أنّ عليّاً لم يتقدّم لخطبتها، وأعتقد أنّه لو فعل، لما ردّ الرسول طلبه». قال سعد بن معاذ، رئيس قبيلة الأوس: «هلّموا إلى عليّ، عسانا بتوفيقٍ من اللّه، نحقّق الخير في مسعانا».
خرج الصحابة من المسجد في طلب عليّ، فوجدوه خارج المدينة، وكان يسحب ماءً من بئر قريبة بواسطة جمله، ليروي بستاناً يملكه أحد الأنصار، وهكذا كان عليّ يعمل في جلب الماء وسقاية الأرض. ولمّا رأى الصحابة قادمين نحوه، طرح معوله جانباً، ووقف ينتظر لقاءهم . بعد السلام، خاطبه أبوبكر قائلاً: «أخي يا عليّ، لقد اجتمع فيك كلّ ما يرضي اللّه والناس، وقد حان الوقت لأن تجد لك زوجة، ولعلّ فاطمة وحيدة الرسول تكون من نصيبك، لأنّ كلّ من راح يخطبها لنفسه، لم يلق من الرسول قبولاً، ويبدو لي أنّ اللّه ورسوله قد اختارا فاطمة لك أنت».
ما إن سمع عليّ هذا الكلام، حتى تحرّك في نفسه أمر كان يكتمه، ويطوي عليه قلبه. فقد كان يتمنّى التّقرّب إلى رسول اللّه بخطبة ابنته فاطمة لنفسه، غير أنّ الحياء وخلوّ يده من مهرٍ يقدّمه، كانا يمنعانه من الإقدام، لكنّه الآن عزم فتوكّل، وتوجّه إلى بيت الرسول (ص)، وصارحه بما في نفسه.
أشرق وجه الرسول لدى سماعه طلب عليٍّ وقال: «يا عليّ، قد ذكرها قبلك رجال، فذكرت ذلك لها، فرأيت الكراهة في وجهها. ولكن، على رسلك حتى أخرج إليك».
دخل النبيّ إلى ابنته وفاتحها بالأمر قائلاً: «يا فاطمة، إنّ علياً بن أبي طالب من قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه، وإنّي قد سألت ربّي أن يزوّجك خير خلقه وأحبّهم إليه، وقد ذكر عن أمرك شيئاً، فما ترين»؟ فسكتت ولم تولّ وجهاً، ولم ير فيها رسول اللّه (ص) كراهةً فقام وهو يقول: «اللّه أكبر، سكوتها إقرارها».
درع مهر عروس
خرج الرسول إلى حيث ترك علياً، وبادره والسّرور يعلو محيّاه قائلاً: «هل معك شيء أزوّجك به» ؟ قال عليّ: «فداك أبي وأمّي ، واللّه لا يخفى عليك من أمري شيء ، أملك سيفي ودرعي وناضحي» . (الجمل الذي ينضح ويسحب به الماء) قال النبيّ: «أمّا سيفك فلا غنى بك عنه، تجاهد به في سبيل اللّه، وتقاتل به أعداء اللّه، وناضحك تنضح به على نخلك وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك، ولكنّي قد زوّجتك بالدّرع، ورضيت بها منك، بع الدّرع وأتني بالثّمن».
باع عليّ الدّرع بأربعمائة وثمانين درهماً، وجاء بالدّراهم إلى النبي وطرحها بين يديه، وتمّ الوفاق على أن يكون ثمن الدرع صداقاً لأشرف فتاة، وأفضل أنثى في الكون، هي سيدة نساء العالمين.
قسم النبي المبلغ أثلاثاً، ثلثاً لشراء الجهاز، وثلثاً لشراء العطر والطّيب. وثلثاً تركه أمانةً عند أمّ سلمة، ثم ردّه إلى عليّ قبيل الزّفاف، ليستعين به على تهيئة الطّعام.
أعطى النبي مقداراً من المال لعمار بن ياسر وسلمان وآخرين قائلاً له: «اشتر بهذه الدراهم لابنتي ما يصلح لها في بيتها».
تمّ شراء لوازم البيت، وكانت عبارةً عن: قميصٍ بسبعة دراهم، وغطاءٍ للرأس بأربعة دراهم، ودثارٍ (ما يتغطى به النائم) من صنع خيبر، وسرير من الخشب. وفراشين من ألياف النخيل والصوف، وأربع قصاع للطعام من صنع الطائف، وغطاءٍ من الصوف، وحصيرٍ ومطحنةٍ يدوية، ووعاء للحناء، وآخر نحاسيّ، وقربة ماء وقدر للحليب، وإبريق للماء، وكوزين من الفخّار، وأشياء أخرى من هذا القبيل، جيء بها إلى الرسول فتفحصها وأعرب عن رضاه بهذا الجهاز المتواضع قائلاً: «بارك اللّه لأهل البيت».
بعد شهر
اجتمع لدى النبي أناس من قريش فقالوا: إنّك زوّجت علياً بمهرٍ خسيس، فقال (ص): «ما أنا زوّجت عليا، ولكن اللّه زوجه ليلة أسري بي عند سدرة المنتهى».
ومضى شهر، وفاطمة ما تزال في بيت أبيها، أما علي، فكان بعد أدائه الصلاة مع الرسول، يمضي إلى بيته، دون أن يعود إلى الموضوع ثانية. وفي أحد الأيام التقته أم أيمن ومعها بعض النسوة، وسألته إن كان يرغب في أن تتحدث إلى النبي وتفصل موضوع الزواج معه، فرد بالإيجاب مرحباً بمسعاها. فقصدت رسول اللّه مع صاحباتها وخاطبته قائلة: يا رسول اللّه، لو أنّ خديجة باقية لقرت عينها بزفاف
فاطمة، وإنّ عليا يريد أهله، فقر عين فاطمة ببعلها، واجمع شملهما، وقر عيوننا بذلك، فقال (ص):«فما بال علي لا يسألني ذلك»؟ قالت: الحياء منك يا رسول اللّه. فقال (ص): انطلقي إلى علي فأتيني به. وحضر علي وجلس مطرقاً نحو الأرض حياءً، فقال له: أتحب أن تدخل عليك زوجتك؟ قال: نعم، فداك أبي وأمي قال: نعم، وكرامة
مجلس العرس
طلب النبي إلى أم سلمة أن تجهز غرفة لفاطمة، كما طلب من النسوة أن يتزيّن ويزين فاطمة، فاهتمت كلّ منهن بعمل. فواحدة صففت شعرها، والثانية اهتمت بثيابها، والثالثة رشّتها بالعطور.
كما تم تحضير الطعام، فذبحت شاة وطبخت، وحسر النبي عن ذراعيه، وجعل يفرك التمر بالسمن، بمثابة الحلوى بينما أسرع علي إلى المسجد، وكان يغصّ بالمسلمين فخاطبهم بصوت عال قائلاً: أيها الناس، أجيبوا إلى وليمة فاطمة بنت محمد (ص).
توجه جميع من في المسجد إلى بيت النبي، وكان عدد من لبى الدعوة يفوق عدد الذين حضروا معركة بدر قبل بضعة أيام.
بعد انقضاء قسم من الليل، وكان الضيوف قد تناولوا العشاء وغادروا البيت، التفت الرسول إلى نساء بني هاشم، ونساء المهاجرين والأنصار وطلب إليهنّ أن يمشين برفقة فاطمة، حتى يوصلنها إلى بيت علي، وأوصاهنّ بالشدو والجهر بالتكبير، محذراً إياهن من ترديد كلمات لا ترضي اللّه.
في بيت عليّ (عليه السلام)
ما إن تجهز النسوة للمسير، حتى أركب الرسول بنفسه ابنته على بغلته الشهباء، وسلم زمامها إلى سلمان الفارسي، وسار خلفهما حمزة وعقيل وجعفر، وغيرهما من أقرباء الرسول، وقد امتشقوا سيوفهم يمشون الهوينا إلى بيت علي، بينما كانت زوجات النبي، ونساء المهاجرين والأنصار، يمشين وهنّ ينشدن الأهازيج في حين قدمت كل من نساء النبي أبياتاً من الشعر، هديةً للعروس، وكانت أبيات أم سلمة هي الأفضل والأبلغ. وهكذا حتى وصل الموكب إلى بيت علي، وتعالت صيحات التكبير، وقام الرجال بمصافحة علي مباركين، ثم نادى النبي علياً إليه، وأخذ يد فاطمة ووضعها في يد علي قائلاً: «بارك اللّه في ابنة رسول اللّه». ثم دعا لهما قائلاً: «اللّهم بارك فيهما، وبارك عليهما ...
وإني أعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم».
وقام أصحاب الرسول بتقديم الهدايا إلى العروسين الجديدين. وهكذا تم زواج علي من فاطمة، بعد أيامٍ من معركة بدر، و{ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم}. الحديد - الآية 21.
الحياة الزوجية
منذ ذاك، عاش علي وفاطمة في بيتهما المتواضع، عيشة ملؤها الحب والهناء، وكان النبي في كل مناسبة يزورهما ويجلس إليهما، ويوصيهما بالصبر والاستقامة، ومما قاله لابنته يوماً: «إنّ اللّه اختار من أهل الأرض رجلين، أحدهما أبوك والآخر زوجك».
كانت فاطمة زوجة صالحة، فلم تكن لتحزن إن غاب زوجها للجهاد في سبيل اللّه، وما كان أكثر غيابه كانت تهيىء له عدة الحرب ولوازم السفر. كما كانت تبث فيه الشجاعة، وتشدد من عزيمته وعدم تهيبه من الموت في سبيل اللّه. وما أحرى بكل زوجة مسلمة أن تجعل من بنت الرسول قدوةً حسنة، وأسوةً صالحة.
كانت تعيش مع علي (ع) في جو تكتنفه القداسة والنزاهة. وتحيط به عظمة الزهد وبساطة العيش، وكانت عليها السلام تعرف لزوجها مكانته العظمى، ومنزلته العليا عند اللّه تعالى، وتحترمه كما تحترم المرأة المسلمة إمامها، وتطيعه كما ينبغي، لأنّه أعز الخلق إلى رسول اللّه، وأخوه وخليفته ووصيه،
وكان علي عليه السلام يحترمها ويجلّها، لا لأنّها زوجته فقط، بل لأنها أحب الخلق إلى رسول اللّه، نورها من نوره، وصبرها من صبره، وتواضعها من تواضعه، لأنّها سيدة نساء العالمين.
لقد عاشت حياةً لا يعكرها الفقر، ولا تغيرها الفاقة (الفقر الشديد) كانت تقوم بأعمال البيت، وتطحن القمح والشعير حتى تدمى يداها الطاهرتان، وتعجن وتخبز. كانت الزوجة المسلمة المثال.
كانت إلى جانب هذا لا تنسى واجبها في الجهاد في سبيل اللّه، ففي وقعة أحد وقفت فاطمة تغسل جبين أبيها الطاهر، وتبلسم جراحات علي، لم تكن - كالكثير من النساء - تبدي أي عجز أو حزن أو بكاء أيام الشدة، لأنّها كانت امرأة عملٍ وجهادٍ، لا امرة عويلٍ وبكاء.
أجر الرسالة
في السنة الثالثة للهجرة، رزقت فاطمة ولدها البكر وأعطاه الرسول اسم «حسن»، كما رزقت ابنها الثاني في السنة التالية، وسمّي «حسيناً» أي «الحسن الصغير». وكان سرور النبي بمقدم هذين الولدين عظيماً، فقد كانا حقاً، بمثابة أجرٍ للرسالة، وتعويضٍ عن المشاق، التي تحملها رسول اللّه، في سبيل هذه الرسالة. وممّا قاله (ص) بحقهما: «الحسن والحسين، ابناي وريحانتاي، وسيدا شباب أهل الجنة».
التطهير
في أحد الأيام، وبينما كانت فاطمة وعلي والحسن والحسين في بيت أم سلمة، نزل ملاك الرحمن، وتلا هذه الآية: {إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت، ويطهّركم تطهيراً} الأحزاب - 33. ولما نزلت هذه الآية تناول النبي كساءً ودخل تحته، مع علي وفاطمة والحسن والحسين، وقال: «اللّهم إنّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي، وحامتي، لحمهم لحمي ودمهم دمي، يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم، أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم، وعدو لمن عاداهم، ومحبّ لمن أحبهم، إنّهم مني وأنا منهم، فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك وغفرانك ورضوانك علي وعليهم، وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً».
وكانت حياتهم فعلاً منزهة عن الخطأ والزّلل، وكانت خصالهم العظيمة آيةً من آيات اللّه، للناس جميعاً، عالمهم وجاهلهم، ولكنّ أكثر الناس لا يتفكّرون.
غضب فاطمة من غضب اللّه
من هنا كان اهتمام النبي بفاطمة، وعنايته بها، لا لكونها ابنته - والرسول أجل من أن يهتم بأحدٍ لمجرد النسب - بل لأنّها كانت إنسانةً تعرف اللّه حق معرفته، وكانت تتجلّى فيها صفات الرسول الأكرم، ولأنّ اللّه سبحانه أشار إلى أنّ فاطمة الطاهرة المطهرة، ستكون أمّاً لأحد عشر إماماً معصوماً، وقد بين الرسول مرّاتٍ هذه المزايا ونوّه بها، قال يوماً أمام جمع من كبار المسلمين، وكما ورد في صحيح البخاريّ: «فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها فقد أغضبني». وخاطبها مرّةً قائلاً: «يا فاطمة، إنّ اللّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك».
ما بعد الأب
شارفت الأيام السعيدة على نهايتها، إذ مرض رسول اللّه مرضاً شديداً، وما لبث أن أطبق عينيه الكريمتين وانتقل إلى جوار ربّه، وبدأت رحلة فاطمة مع المصاعب والآلام، لأنّ كل شيءٍ تغير، ومرة واحدة، بعد رحيل النبي الأكرم.
فقد عين جماعة من الصحابة أبابكر خليفة، وبايعه أكثر الناس إثر ذلك، أمّا علي عليه السلام، فكان يرى بعد ارتحال الرسول، أنّ الإسلام بحاجةٍ ماسةٍ لوحدة المسلمين ورص الصّفوف، لذا فقد اختار الصّمت، ولم يطالب بحقّه في الخلافة، حرصاً على هذه الوحدة، والتي ما يزال الإسلام بحاجةٍ إليها، وسيبقى إلى يوم الدّين.
لكنّ فاطمة عليها السلام. كانت ترى من واجبها أن تنبّه الناس إلى الخطأ الذي وقع، فقصدت مسجد أبيها الرسول، حيث كان الأنصار مجتمعين إلى الخليفة، وهناك أوضحت أمام الملإ حق الإمام عليّ (ع). وحذّرت الناس من سوء العاقبة إذا حلّت الفرقة بينهم محلّ الوحدة، التي كانت أيام رسول اللّه. فالمستقبل ينذر بشر كبير، إن اختار الناس السكوت عن الحق. كما أوضحت أنّ مزرعة «فدك» تخصّ آل الرسول، وليست ملكاً لعامة المسلمين، كما قيل، وابنة الرسول الكريم وبضعته أجلّ وأنزه من أن تستولي على ما ليس من حقّها. إنّه للعجب العجاب، أن تتّهم بنت رسول اللّه بهذه التهمة الظالمة أليست ممن طهّرهم اللّه وأذهب عنهم الرجس؟ أليست ممّن {. . . يطعمون الطّعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} (الدهر - 8).
{فبايّ حديثٍ بعده يؤمنون}؟ (الأعراف - 185).
فاطمة (عليها السلام) على فراش المرض
بعد هذه المتاعب الشديدة، ارتمت فاطمة في أحضان المرض. واختارت طريق الصمت والاعتزال، فجاء بعض نساء المهاجرين والأنصار لعيادتها، ولمّا سألنها عن حالها أجابت بعد أن حمدت اللّه وصلّت على أبيها: «أصبحت واللّه عائفةً لدنياكنّ، قاليةً لرجالكن . . . وبئس ما قدّمت لهم أنفسهم . . . وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه واللّه نكير سيفه . . وتنمّره في ذات اللّه عزّ وجل . . . {ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} {أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أم من لا يهدّي إلاّ أن يهدى، فما لكم، كيف تحكمون} ؟ (يونس - 35)
لمّا سمع الرجال قولها، جاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء،
لو كان أبوالحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكم العقد لما عدلنا إلى غيره فقالت: «إليكم عني فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم».
الرسالة الأخيرة
لما اشتدت وطأة المرض على الزهراء قالت لزوجها. «يا ابن عم، إنّه قد نعيت إلي نفسي، وإنني لا أرى ما بي إلاّ أنني لاحقه بأبي ساعةً بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي». قال علي: «أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللّه . . . قد عزّ علي مفارقتك وفقدك . . . واللّه لقد جدّدت علي مصيبة رسول اللّه . . . أوصيني بما شئت فإنّك تجدينني وفياً، أمضي كلّ ما أمرتني به، وأختار أمرك على أمري». قالت: «ادفني في الليل . . . وعفّ موضع قبري، ولا تشهد جنازتي أحداً ممّن ظلمني».«يا ابن عمّ، إن أنت تزوّجت امرأةً بعدي فاجعل لها يوماً وليلة، واجعل لأولادي يوماً وليلة، يا أبا الحسن، ولا تصح في وجوههما فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين، فإنّهما بالأمس فقدا جدّهما، واليوم يفقدان أمّهما، فالويل لأمّةٍ تقتلهما وتبغضهما».
ثمّ قامت عليها السلام، فاغتسلت وتمدّدت في فراشها، وأسلمت الروح مستبشرةً بلقاء أبيها وحبيبها رسول اللّه.
وفقد الإمام بفقدها زوجةً صالحةً، وأمّاً حنوناً طاهرة، وشريكة حياةٍ، في ريعان الشباب ونضارة الحياة.
كانت هذه هي الرسالة الأخيرة للزهراء عليها السلام، وكانت بحقّ درساً بليغاً، وعبرةً للمعتبرين. فقد اختارت أن تشيع وتدفن ليلاً في قبر مجهول، كي لا يشترك في جنازتها من تلوّث بالانحراف. واختارت بعملها هذا أن تسجّل اسمها في سجل المظلومين، ليكون رمزاً للظلم والحرمان على مدى الأزمان.
علم أهل المدينة بموت بنت الرسول، فعمّ الحزن الناس، وتقاطروا إلى بيتها للصلاة عليها وتشييعها، وكم كانت صدمةً مؤلمةً لهم حين علموا أنّ دفنها قد تمّ ليلاً، بعد أن صلّى عليها عليّ ونفر من أصحابه.
وكانت هذه قصّة فاطمة (عليها السلام)
نعم . . إنّها قصة فاطمة الكبرى، فاطمة الطاهرة الزهراء.
إنّها الابنة الوحيدة التي بقيت من أثر الرسول.
إنّها التي أنجبت لأمّة الإسلام حسناً وحسيناً وزينب الكبرى.
إنّها الزوجة التي وقفت مع زوجها في خندقه.
إنّها بضعة ومثال من رسول اللّه، وعظمته وفضائله.
إنّها أم الحسن والحسين، اللذين في كلّ منهما عليّ آخر.
فاطمة التي كانت أمّاً لكلّ القادة الأبرار.
فاطمة التي علمها من علم الرسول، ومحبّتها من محبّته، وغضبها من غضبه.
فاطمة التي طهّرها اللّه سبحانه، فكانت الطهر في القول والفعل.
سلام على من قدّمت للإسلام خير ما تقدّمه امرأة.
سلام على من هي المثال والقدوة في حياتها وجهادها واستشهادها.
وسلام على كل من سار سيرتها، ونهج نهجها، وخطا في درب الحق على خطاها.