في الوقت الذي يعمل فيه علماءٌ كُثر على تطوير العملية التعليمية باستخدام أحدث الوسائل التكنولوجية والمعرفية؛ هناك آخرون حول العالم يناضلون من أجل إيصال الكتاب الورقي فقط للأطفال والكبار ممن تخلّفوا عن ركب التعليم، ومن حكمت عليهم ظروف عصيبة بمنعهم من التعليم.
قصتنا اليوم من أفغانستان، هذه الدولة التي عانت الحروب والتشّرد من أطرافٍ كثيرة دون جدوى ولا دون هدف، وأصبح نصف مواطنيها لاجئون في بلادٍ أخرى؛ لا يشغل بالهم سوى انقضاء يومهم الحاضر ليحل محلّه يومٌ جديد آخر، علّه يحمل لهم نبوءاتٍ بتحسن أوضاعهم المعيشية.
هذه القصة ترويها الأستاذة الجامعية والطبيبة الأفغانية «سكينة يعقوبي» التي عاشت طفولتها في ظروفٍ قاسية في بلادها بسبب ذلك، ورأت نساء وأطفال يقتلون دون ذنب يُذكر.
أكملت دراستها ما قبل الجامعية في أفغانستان قبل أن يرسلها والدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإنهاء دراستها الجامعية في كلية الطب هناك، وتبدأ رحلة الحياة بعيدًا عن كل ذلك الاحتقان.
مواطنون بلا وطن
بالرغم من روعة البلاد التي عاشت شبابها وأكملت تعليمها فيها وأصبح لديها كل شيء، بالإضافة لوصول عائلتها إلى الولايات المتحدة، إلا أن ذلك لم يكُن مريحًا ولم تشعر بالسعادة حسب قولها؛ بسبب أن قلبها كان في بلادها أفغانستان دائمًا.
وبالفعل، قررت الرحيل إلى أفغانستان في بداية التسعينات ومواجهة المصير المجهول. وفي بداية مشوارها، ذهبت إلى مخيم للاجئين أفغان في باكستان، حيث كان يحوي نحو (7.5 مليون لاجئ)، نسبة 90% منهم أطفال ونساء، أما الرجال فماتوا، أو لا يزالون في الحرب.
وكما هو الحال دائمًا، لم يكن الأمر على ما يرام فور وصولها، فقد كان الأمر مُزريًا في المخيمات. نساء وأطفال تائهين في دنياهم، ولا يعلمون ماهي الخطوة القادمة في حياتهم، ويعيشون أوضاعًا معيشية قاسية.
حينها أدركت «د. سكينة» أن التعليم هو من صنع منها أستاذة جامعية، وأن التعليم هو من يصنع للبشر قيمة ومعنى، ولكن تلك الخطوة أيضًا كانت مستحيلة كون أن التعليم محظور تمامًا على الفتيات في أفغانستان. لكنها بدأت رحلتها رغم كل تلك الصعوبات.
ما الذي يمكن أن تفعله من أجل تعليم إنسان؟
هذا السؤال يصعب على كثيرٍ من الأشخاص الإجابة عنه، ويرى معظم الناس بأن ذلك يكمن في توفير الأدوات الحديثة لتأهيل الآخرين لمواكبة العالم الحديث وخلاف ذلك من التطورات، لكن على الجانب الآخر هناك طريقة أخرى أكثر رُعبًا في تعليم أحدهم وهي مواجهة الموت!
قصة «د. سكينة» في بداية رحلتها طويلة، لكنها تَرْوي عدة حوادث واجهتها في هذه البيئة المتوترة، حيث هاجم منزلها عناصر من طالبان بحجة أنها تقوم بأعمال لا تجوز شرعًا.
المكان الذي يبدوا وكأنه منزلها هو في الحقيقة مكتبها لتعليم الفتيات، لكنها كانت تستخدمه بشكلٍ سرّي لتفادي وقوع أيّ حوادث كارثية.
وفي حادثة أخرى، استوقفها مجموعة من الشبان من طالبان أيضًا مُوجهين إليها رؤوس أسلحتهم كتهديد لإجبارها على إيقاف ما تفعله.
لكن هذه الحوادث لم تزيدها إلاّ إصرارًا، ووقفت في مواجهة هؤلاء بكل حزم وقوة، حيث آمنت أن هذا الوضع لن يستمر طويلًا.
الثمار التي جنتها د. سكينة يعقوبي خلال رحلتها
صورة للدكتورة سكينة بعد منحها جائزة وايز للتعليم في مؤتمر القمة العالمي للإبتكار في التعليم بالدوحة عام 2015
لايمكننا تدريب النساء وننسى أمر الرجال، يجب أن نُدرّب الرجال ليعرفوا إمكانيات النساء.
لايمكننا تدريب النساء وننسى أمر الرجال، يجب أن نُدرّب الرجال ليعرفوا إمكانيات النساء. – سكينة يعقوبي
استمرت د. سكينة يعقوبي بالعمل على مدار 20 عامًا من أجل إيجاد أفكار تنموية تعليمية لخدمة المجتمع الأفغاني، ومحاربة الفقر والجوع والأمية، وتردّي الأحوال الصحية؛ بالإضافة إلى جهودها في تحقيق العدل والسلام في البلاد، وكان كل ذلك سببًا في منحها جائزة وايز للتعليم عام 2015 في مؤتمر القمة العالمي للإبتكار في التعليم الذي عُقد في الدوحة، ولُقّبت بـ «أم التعليم في أفغانستان».
وعلى الصعيد الميداني خلال هذه الأعوام، أنشأت نحو 15 مدرسة في أول سنة من مشوارها، وأصبح نحو 15 ألف طفل يرتادون المدارس، وأسست المعهد الأفغاني للتعليم عام 1995، وتدير أكثر من 150 مشروعًا في مجالات التعليم والصحة في أفغانستان.
كما تُكرّس حياتها لترتقي بوضع المرأة الأفغانية على كافة المستويات، وتهدف إلى تطوير التفكير النقدي وتعزيز التوعية الصحية للمرأة، بالإضافة إلى تشجيع المرأة الأفغانية على تحدّي التقاليد الإجتماعية التي لا تأتي سوى بالتعفن في بحور الجهل والعنف والإستعباد بمبررات واهية.
أسست «د.سكينة» بمساعدة سيدتين نحو 80 مدرسة سرّية، ومكتبات متنقلة في أربع مدن أفغانية. وكانت نتيجة جهودها هي خدمة أكثر من 350 ألف إمرأة وفتاة أفغانية بحلول عام 2003؛ من خلال برامج لإعداد وتدريب المدرسين، وبرامج للتوعية والتربية الصحية، وتعليم حقوق الإنسان، وبرامج تدريب قيادية للنساء، وحملات محو الأمية.
وفي عام 2004، حصلت د.سكينة يعقوبي على الجائزة الدولية لحقوق المرأة، والتي تمنحها الأمم المتحدة عادةً لهؤلاء الأشخاص الذين يقدمون إسهامات ونشاطات متميزة لمجتمعاتهم مع تعريض نفسهم للخطر.
لم يقتصر عملها على النساء وحسب؛ بل تروي أنه وفي إحدى الحوادث التي واجهت فيها الموت على يد عناصر من طالبان، أن هناك مجموعة من الشبان استوقفوها وأخبروها أنهم يعرفون نشاطها السرّي في تعليم الفتيات.
وعكس ما كانت تتوقع بأنهم سيهددوها؛ غضب هؤلاء الشبان من كَوْنها تُسلّط الضوء على الفتيات دون الرجال، وطلبوا منها أن تمد يد العون لهم قائلين أن كل ما يعرفونه عن الحياة هو حمل السلاح، والقتل!
وفي صباح اليوم التالي، أحضرت هؤلاء الشبان إلى مدرسة من مدارسها، ومدّت لهم يد العون في التعليم والتدريب حتى صنعت منهم شُبّانًا بارعين في اللغة الإنجليزية، وعلوم الحاسب، ومجالات مختلفة من العلوم، ومُعلّمين يحتذى بهم في المجتمع الأفغاني!
أخيرًا.. على المستوى الشخصي؛ ربما لم أصادف يومًا قصة مُثَابَرة واجتهاد أثرت فيّ أثناء كتابتها مثل قصة هذه الأم والإنسانة العظيمة، فالذي يعرف حجم المعاناة التي عانت منها أفغانستان خلال السنوات الماضية، سيعرف أن هناك أشخاصًا في المهجر لم يتباكوا على بلادهم الجريحة فقط، بل أخذوا العهد على أن يدفعوا حياتهم ثمنًا كي ينهضوا بها مهما كانت حجم الصعوبات التي تواجهها بلادهم، أو سيواجهونها هُمْ أثناء رحلتهم.
وأقصد بدفع الثمن هنا؛ هو تكريس الحياة من أجل شيءٍ ما، فنحن جميعًا نكرّس حياتنا لحلم وهدف نريده، لكن يبقى طبيعة الهدف والحلم هو ما يحدد قيمتك أنت في الحياة.
المصدر
www.arageek.com