الحياة السياسية والاجتماعية بصقلية:
صقلية Sicilia جزيرة مقابل ساحل تونس، تبعد عن البر الإيطالي ثلاثة كيلومترات. ضبطها ياقوت الحموي في معجمه بثلاث كسرات وتشديد اللام والياء، ولكنه ذكر أن أكثر أهلها يفتحون الصاد، وضبطها ابن دحية بفتح الصاد والقاف، وقال النحوي ابن البر التميمي الصقلي: اسمها باللسان الرومي سَكَّةِ كِلّية وتفسيرها: تين وزيتون، وإلى هذا المعنى أشار ابن رشيق حين مدحها فقال:
أخت المدينة في اسـم لا يشاركها *** فيه ســــواها من البلدان والتمـس
وعـــــــــظّم الله معى لفظها قسمًا *** قـلّد إذا شئت أهل العلم أو فقـــس
فتح المسلمون صقلية سنة 212هـ /728م بقيادة الفقيه أسد بن الفرات (ت: 213هـ) الذي تولّى قضاء إفريقية في عهد الأغالبة، وكانت القيروان (تونس اليوم ) تابعة للخلافة العباسية في بغداد.
ولما قامت الدولة المهدية في ظل الفاطميين، تأسست دولة الكلبيين في صقلية فبلغت الجزيرة عهدها الذهبي.
احتلها النورمان بقيادة ملكهم روجار الأول، فهجرها أغلب سكانها إلى مصر والقيروان والأندلس، وكانت عادة الانتقال والارتحال بين الأقطار الإسلامية معروفة أيام المحن، فقد شتتت نكبة القيروان، بعد الخلاف بين الفاطميين والمعز بن باديس، أهل القيروان وخرج الأدباء والعلماء منها إلى صقلية والأندلس ومصر، وها هنا التاريخ يعيد نفسه بخروج العرب من صقلية بعد انتهاء الحكم العربي فيها الذي استمر لغاية 450هـ.
تعايش من بقي من المسلمين في صقلية مع النورمان مدة ثلاث وتسعين ومئة سنة، وظلت اللغة العربية إحدى اللغات التي أقرتها الدولة في سجلاتها إلى جانب اللاتينية واليونانية.
وفي سنة 643هـ احتل الجرمان الجزيرة بقيادة فردريك الثاني الذي نكل بالمسلمين ليدفعهم إلى الجلاء سنة 647هـ/ 1249م، ثم قضى عليهم بتحريض الملك شارل دانجو عام 700هـ/1300م، لكن اللغة العربية لم تمح آثارها، فثمة أسماء كثيرة في صقلية لها أصول عربية.
الشعر العربي في صقلية:
اعتمد الشعر الصقلي محاكاة المشارقة والمدرسة الإفريقية في القيروان، وكان تأثيره بالأندلس أقل من تأثيره بإفريقية والمشرق، وقد غذي بالدراسات الإسلامية، ولاسيما الفقه، واللغة، وامتلأ بالألغاز والتلاعب اللفظي بالأسماء، وكان هناك أخذ بأسباب الدين والزهد والتصوف إلى جانب التيار المعاكس المتمثل بالحديث عن الخمر، وبائعها، وشاربها، والتغني بذكر الصليب والزنار. وقد شارك بعض الأمراء الكلبيين في النشاط الأدبي ولاسيما الشعري.
فنون الشعر وخصائصه:
في العصر الإسلامي، وصف الشعراء القصور، والمتنزهات، والخمر، وكثر التغزل بأسماء تقليدية مثل سلمى، وسعاد، وبثينة، كما كثرت الرسائل الشعرية نتيجة هجرة الناس من صقلية وإليها.
أما في العصر النورماني، أو مرحلة التعايش بين العرب والصقليين، فالشعر الباقي يمثل اتجاهين: أما الاتجاه الأول فهو الشعر الذي يتصل بالملك النورماني وبلاطه وأبنائه وحاشيته، ومنه قصيدة أبي الضوء سراج في رثاء ولد روجار.
ويصوّر الاتجاه الثاني الشعر الذي يمثل حياة المسلمين وعلاقاتهم فيما بينهم، وقد انفرد محمد بن عيسى بذكر العيد وحال السرور والتحدث عن الملائكة. وكثيرًا ما نفر الناس من الشعر ذي الاتجاه الأول، فقد كان ابن بشرون شاعرًا فحلًا أحبه الناس، فأراد الملك روجار الأول أن يضفي على اغتصابه الجزيرة أسمال الشرعية موهمًا الناس بقبوله من وجهائهم، فاستدعى ابن بشرون وطلب إليه أن ينشده مديحًا فلما ارتجل الشاعر أبياته ابتعد عنه الناس.
ولما اطلع العماد الأصفهاني على كتاب ابن بشرون الذي خصص فيه فصلًا لشعراء صقلية قال بعد أن حذف الشعر الذي وجده في مديح الكفار: "واقتصرت من القصيدتين على ما أوردته لأنهما في مدح الكفار، فما أثبته".
أعلام الشعراء في صقلية:
من شعراء القرنين الرابع والخامس:
ابن الخياط الصقلي:
أبو الحسن علي بن محمد، كان شاعرًا نابهًا أيام حكم الكلبيين في صقلية. يكثر في شعره المدح والغزل ووصف الطبيعة.
أبو العرب مصعب بن محمد بن أبي الفرات القرشي:
ولد في صقلية سنة 423هـ، ثم غادرها إلى الأندلس سنة 463هـ مع من هاجر منها إثر الاحتلال النورماني، فلحق بالمعتمد بن عباد، ثم بناصر الدولة صاحب جزيرة ميورقة بعد أن دالت دولة العباديين، وبقي هناك إلى وفاته سنة 506هـ. أهم أغراضه الشعرية المدح وجلّه في المعتمد كما دعا إلى التمتع بمباهج الحياة فقال:
متّع شـــبابك واستمتع بجدّتـــه *** فهـــو الحبيـب إذا مــا بان لـم يؤب
ابن القطاع أبوالقاسم علي بن جعفر بن علي السعدي: ولد سنة 433هـ بصقلية، ثم هاجر إلى مصر بعد اشتداد ضغط النورمان. كان شاعرًا عالمًا باللغة والأدب والتاريخ. من مؤلفاته "تاريخ صقلية" و"أبنية الأسماء والأفعال" و"البارع في العروض والقوافي" و"الدرة الخطيرة في المختار من شعراء الجزيرة" وقد اشتمل على مئة وسبعين شاعرًا، وعشرين ألف بيت من الشعر. عالج في شعره مجالس الخمر بالوصف والإثارة، وأبدع في الغزل.
ومن شعراء القرن السادس:
البَلَّنوبي أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن أبي البشر:
ينسب إلى بَلَّنوبة وهي بُليدة بجزيرة صقلية ذكرها ياقوت تسمى اليوم فيلانوفا Villa Nova كان والده مؤدبًا لأبي الطاهر التجيبي (ت445هـ).
أقام أبو الحسن مدة في صقلية ثم غادرها إلى مصر مع جملة من المهاجرين، وهناك اتصل بعدد من رجال الدولة ومدحهم منهم بنو الموقفي، وابن المدبّر واليازوري (نسبة إلى يازور من قرى فلسطين). فنون شعره كثيرة.
عبد الجبار بن أبي بكر بن حمديس:
ولد في سرقوسة على الساحل الشرقي من صقلية وفيها قضى شطرًا من حياته، ثم انتقل إلى تونس في طريقه إلى الأندلس بعد هجرة العلماء من بلده. قصد المعتمد بن عبَّاد واستمر في رعايته إلى أن دالت دولة العباديين، فارتحل إلى إفريقية، وبقي في رعاية بني حمَّاد في بجاية إلى أن توفي سنة 527هـ. اشتهر بشعر الحنين، ووصف الطبيعة.
النثر .. فنونه وخصائصه:
أنتجت صقلية نثرًا خصبًا يوازي نشاطها في الشعر، فقد نبغ فيها كتّاب، وسعوا أغراض النثر وفنونه، ووضع بعضهم مقامات كانت ذائعة مشهورة منها مقامات "الطوبي" التي بلغ فيها الغاية في الفصاحة.
كما ألف بعضهم كتبًا في تاريخ صقلية وأرخوا لرجال الفكر والعلم و الأدب.
وظهر عدد من اللغويين والنحويين حاولوا الحفاظ على الفصحى، وتخليصها مما لحقها من تصحيف، ولاسيما في مرحلة التعايش بين العرب المسلمين والصقليين، فقد استمرت السيادة للغة العربية والثقافة العربية الإسلامية بعد أفول نجم السيادة العسكرية والسياسية نحو قرنين من الزمن.
أعلام الكتّاب في صقلية:
أبو عبد الله محمد بن الحسن الطوبي كاتب الإنشاء:
كان له شعر في الغزل والزهد، لكن النثر غلب عليه. وصفه العماد الأصبهاني بقوله: "إمام البلغاء في زمانه".
أبو حفص عمر بن حسن النحوي:
كان إمامًا من أئمة النحو، استشهد به وبآرائه ابن منظور (ت711هـ) صاحب معجم لسان العرب.
ابن البر محمد بن علي بن الحسن التميمي:
من أعلام القرن الخامس، ولد في صقلية، وارتحل في طلب العلم إلى المشرق فنزل مصر وأفاد من الهروي (ت433هـ) وابن بابشاذ النحوي (ت454هـ) وصار إمامًا في علوم اللغة والآداب. لما عاد إلى صقلية، استقر بمازر، ثم في بالرمو.
أبو حفص عمر بن خلف، ابن مكي الصقلي المتوفى سنة 501هـ:
ولد في صقلية، ثم هاجر إلى تونس فولي القضاء بها سنة 460هـ. كان شاعرًا مجوّدًا نظم في أدب المجالس والصداقة، وتغلب على أشعاره معاني الوعظ والإرشاد والحكمة. وكان كاتبًا بليغًا اشتهر بتبحره في اللغة، صنّف "تثقيف اللسان وتلقيح الجنان"، وجعله في خمسين بابًا، جمع فيه ما يصحف الناس من ألفاظهم وما يغلط فيه أهل الفقه والحديث، وأضاف أبوابًا مستطرفة، ونتفًا مستملحة، وقد نقد المغنين لأنهم كانوا يحرصون على أداء النغم ويحرفون النص. ومقصد الكتاب في أعماقه رد اللغة العربية إلى الفصحى. وعدم إقرار المحلية، وقد كانت صقلية ملتقى شعوب، وليست وطنًا لشعب.
هناء دويدري