النتائج 1 إلى 3 من 3
الموضوع:

رحلة البحث في الذات والوجود عند ذي الرمة... قراءة في إحدى قصائده

الزوار من محركات البحث: 23 المشاهدات : 322 الردود: 2
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    حُلْمٌ ضائع
    تاريخ التسجيل: August-2014
    الدولة: بلد اللا قانون
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 16,914 المواضيع: 1,149
    صوتيات: 153 سوالف عراقية: 1
    التقييم: 13260
    مزاجي: مُشَوَّش
    المهنة: موظف
    أكلتي المفضلة: لِبَن وتَمُر
    موبايلي: iPhone 15 Pro & Google Pixel 8
    آخر نشاط: منذ يوم مضى
    الاتصال:
    مقالات المدونة: 5

    رحلة البحث في الذات والوجود عند ذي الرمة... قراءة في إحدى قصائده

    رحلة البحث في الذات والوجود عند ذي الرمة... قراءة في إحدى قصائده
    اعداد : هديل عبد الرزاق أحمد .
    لعله ليس جديداً أن نقول بأن ذا الرمة يعد أحد أهم الظواهر الفريدة في الشعر العربي، فهو المتخصص في وصف الديار وأطلالها، إذ سخّر لها الحيز الأكبر من بنى قصائده وشغل بها بشدة. وإن من يتتبع ديوان هذا الشاعر تبرز أمامه خصائص عديدة أهمها تسخيره شعره للتعبير عن واقع حياته، وهذا ما جعل شعره يحفل بالذاتية المفرطة، ولا تبرز هذه الذاتية حين يتحدث عن لواعج حبه لمحبوبته صاحبة الطلل فحسب، بل تبرز حتى حين يصف ناقته، فضلاً عن عدم إعطاء الغرض الرئيس -وهو الجزء الذي يمتاز بالغيرية- لقصيدته حيزاً من البنية العامة لها، سواء أكان هذا الغرض في المديح أو الهجاء أو غير ذلك، وهو ما ستوضحه بشكل أكبر هذه القراءة التي ستتخذ من إحدى قصائده أنموذجاً للتعبير عن مستويات الذاتية، والموقف من الوجود.
    وقد اخترنا أنموذجنا للتحليل قصيدته التي مطلعها:
    أمِن دمنةٍ بين القِلاتِ وشارعٍ تصابيتَ حتى ظلّتِ العينُ تدمعُ[1]
    وسنركز في تحليلنا على النص أولاً وأخيراً، ولكن دون إغفال الجوانب الأخرى التي تحيط به. فالنص الإبداعي هو وليد بيئته، وهو نتاج انفعالات الشاعر وإحساسه. لذا فمن غير العدل أن نكون بنيويين ونتجاهل عصر الشاعر وما يحيط بظروف تشكل النص، كما إنه من غير العدل أيضاً أن ننصرف عن النص إلى ما يحيط به فقط. لذا فإن انطلاقتنا النقدية آثرت أن تركز على النص، وتنطلق منه، دون إغفال الجوانب الخارجية له، التي تعمل بوصفها أدوات أو مفاتيح تقوم بإضاءة النص وتساعد في إنتاج قراءة أكثر شمولية.
    إذا ما تتبعنا الهيكل العام للقصيدة فإننا سنجدها تتكون من ثمان وأربعين بيتاً، وتضم ثلاث لوحات هي:
    •1. المقدمة المركبة، البكاء على طلل المحبوبة مي (الأبيات 1- 11) + التغزل بصاحبة الطلل (الأبيات 12-16).
    •2. الرحلة (الأبيات 17- 44).
    •3. هجاء قوم امرئ القيس (الأبيات 45- 48).
    يفتتح الشاعر قصيدته بالوقوف على طلل حبيبته (مي) كما عودنا في معظم قصائده، ويلاحظ أنه يبدأها بجملة استفهامية، وهذا يدل على الانفعال والاضطراب والقلق النفسي الذي يعتريه منذ بداية قصيدته. فالشاعر يبدو كأنه يعبر عن صيحة حزن في داخله حين يتساءل مع نفسه عن سبب بكائه. لكن تساؤله يحمل بعض الدلالات المتأتية من تنكيره لـ (دمنة) فتنكير المعالم كما هو معلوم يوحي بخفائها، كما يوحي أحياناً بمعاني أخرى كـ (التعظيم، والتحقير) والتي تدل على حجم صيحة الحزن التي في داخله وموقفه غير المستقر منها.
    ويلاحظ منذ بدء الافتتاح أن الشاعر تطبق عليه أحزانه حتى تكاد تخيفه، إذ يلاحظ إحساسه الشديد باللا جدوى، ولعلّه يمكن اعتباره موقفاً خاصاً من الكون، فهو يعبر في مقدمته ومنذ البدء عن رؤية تمتلئ بالمأساوية وطغيان السواد الذي تمتلئ به بنية ومدلولية القصيدة، فكل شيء في القصيدة يعبر عن حالة الحزن والمأساة والعبثية واللا جدوى، وكما يتضح في قوله:
    أجل عبرةٌ كادت إذا ما وزعتها بحلمي أبت منها عواصٍ تسرَّعُ
    تصابيت واهتاجت بها منك حاجة ولوعٌ أبت أقرانها ما تقطّعُ
    إذا حان منها دون ميٍّ تعرُّضٌ لنا حنّ قلبٌ بالصبابة موزعُ[2]
    وإذا كان الشاعر ينطلق من رؤية مأسوية للزمن والكون وعبثية الوجود واللا جدوى، فإننا فيما بعد سنجده في مقطع الافتتاح نفسه يرى ويؤكد أن لا جدوى من الحزن والجزع، فما مضى لن يعود، فضلاً عن كشفه لقضية العجز أمام القدر:
    وما يُرجع الوجد الزمان الذي مضى ومـا للفتى في دمنـة الدار مجزع
    عشيــة مـا لي حيلة غير أننـي بلقط الحصى والخط في الأرض مولع[3]
    ويلاحظ أيضاً أن الشاعر في المقطع الطللي ركز على نفسه بشكل خاص، ولم يهتم بالطلل نفسه، إذ لم يذكر منه سوى الموضع (بيت القلات، وشارع) فلا نجد مثلاً النؤي أو الأوتاد أو الأثافي أو الرماد أو الثيران أو الظباء وما إلى ذلك، فكل هذه الأمور خلا منها مقطعه الطللي، فغدا طلل الشاعر طللاً نفسياً وذاتياً ووجودياً بامتياز، فضلاً عن ذلك فإنّ الشاعر لم يلجأ إلى تصوير الطلل أو وصفه كما اعتاد أن يضفي عليه من الصور الحسية التي يقوم بنقلها إلى المتلقي من خلال تشبيه الطلل بما هو مرئي وحسي مستمد من الواقع ومن محسوسات الطبيعة بشكل خاص، فيشبه الطلل بالوشم أو الثياب البالية أو التماثيل المعجمة أو ببطائن أغماد السيوف المزخرفة والمنقوشة التي امتلأت بها مقدمات قصائده الأخرى، ولكنه هنا عبر عن تجربته النفسية، وحزنه، وأزمته هو بوصفه إنساناً لذا فإننا لا نلمح طللاً حسياً بل نجد بكاءً ذاتياً، فكأن الطلل الذي أراد أن يعبر عنه الشاعر هو طلل نفسي بامتياز (طلل نفسه) وما يخالطها من الحزن الذي يخزه وخزاً أشد من طعنة الرمح النافذة، وما يداخلها من اليأس الشديد الذي لا أمل معه ولا رجاء، وما يمازجها من الوجد الممض الذي ليس له شفاء، فضلاً عن دموعه التي تتقاطر على وجنتيه بل تنهل وتسترسل دون أن يتمكن من كفها أو التحكم بعاطفته المتدفقة حزناً وألماً:
    كأنّ سناناً فارسياً أصابني على كبدي بل لوعة البين أوجعُ
    ألا ليت أيام القلات وشارعٍ رجعن لنا ثم انقضى العيش أجمع
    ليالي لا ميٌّ بعيدٌ مزارها ولا قلبه شتى الهوى متشيَّعُ
    ولا نحن مشؤومٌ لنا طائر النوى ولا ذَلّ بالبين الفؤادُ المروّعُ[4]
    ويحيط الشاعر أحزانه بإطار موسيقي محكم، ومعبر عن استغراق الشاعر في التعبير عن ذاتيته المفرطة وشرح عناصر حالته ووصفها، فالبحر الطويل جاء معبراً عن جدية التجربة التي يقوم الشاعر بالتعبير عنها، فضلاً عن إن هذا البحر من الناحية الفنية يفصح عن مديات قدرات الشاعر وتمكنه من التعبير عن تجربته بأدوات فنية مكتملة، يضاف إلى الجانب الموسيقي المتناغم مع التجربة الشعرية اختياره للقافية العينية، فالعين كما يقول اللغويون صوت مجهور مخرجه وسط الحلق، وهي تعبر أو لها صلة بالعنف الذي يقع على الإنسان. وهكذا نجد أن استعمالات الشاعر لأدواته الفنية جاءت أشبه بألوان الرسام التشكيلي الذي يمزج بين الألوان بدقة لتخرج صورته مكتملة ومتناسقة، فالقافية العينية وما يمكن أن تدل عليه من دلالات ترتبط بالعنف سنجدها تتلاءم وموضوع القصيدة الرئيس -هجاء قوم امرئ القيس- وإن لم يحتل سوى مساحة صغيرة من بنية القصيدة.
    ويسيطر عنصر، أو موضوعة (الحيرة والذهول) على مجريات مقطع الطلل حين يستذكر الشاعر ماضيه، وأمنياته التي لم يتحقق منها شيء، فيجهل ماذا تخبئ له الأقدار في قادم أيامه. ولعلّ هذا ما جعله يلجأ إلى الحجارة (الساكنة) محاولاً استنطاقها عن مصير حبه وغرامه، فراح يخط على الرمال خطوطاً عديدة ثم يمحوها ثم يعيدها فيمحوها وهكذا دواليك. لعل هذه الحجارة (الساكنة) والرمل (الهش)، (القابل للحركة) يكشفان له عن حظه الذي يتنبأ هو نفسه بأنه عاثر، حين يستحضر معادلاً رمزياً لسوء الحظ والإحساس بالتشاؤم فيختار الغربان التي ترمز لسوء الطالع كما هو معلوم في التقاليد والأعراف العربية، وكما يتضح في قوله:
    أخط وأمحو الخط ثم أعيده بكفيّ، والغربان في الدار وقّع[5]
    ولعلّ اختيار الشاعر للغربان تحديداً لم يأت اعتباطاً، كما لم يأت استحضار هذه الصورة بهذه الهيئة بلا مسوغ، فهو يريد أن يعبر من خلال صورتها عن معاني عديدة كالخداع وحلول الخراب والموت، فيجعل من هذه الغربان معادلاً رمزياً لهذه المعاني.
    وينتقل الشاعر بعد ذكر الطلل إلى التغزل بصاحبة الطلل، لذا يمكن القول إن مقدمة هذه القصيدة هي من نوع المقدمات المركبة التي تعبر عن مديات النضج الفني لدى الشاعر، فهي تتكون من لوحتين، هما (الطلل) و(الغزل).
    وما يمكن أن نخرج به الآن من وصف لبنية لوحة مقدمة الطلل هو غلبة وسيطرة عنصر السواد (الغربان)، وعنصر السكون (الحجارة)، والسوداوية (الحزن، والحيرة، والقلق، والذهول، وغير ذلك).
    أما لوحة الغزل بالمحبوبة فتبدأ بغلبة اللون الأبيض عليها، لكنها تنتهي باللون الأسود، ففي الأبيات (12- 15) يهيمن البريق والنصاعة -الشديد البياض- والزُهر -البيض- على الطابع العام للوحة:
    جرى الأسحِلُ الأحوى بطفلٍ مُطَرفٍ على الزهر من أنيابها فهي نصّعُ[6]
    لكن في البيت (16) يتحدث الشاعر عن شعر محبوبته فيقول:
    وأسحمَ ميالٍ كأن قرونه أساودُ واراهن ضال وخروع[7]
    وما يدعو إلى المفارقة هو إن الشاعر يشبه شعر حبيبته الأسود بـ (الأساود) أي (الحيّات) وهذا يدعونا إلى التساؤل عن السبب أو النية من وراء هذا التشبيه، فهناك بالتأكيد قصد للشاعر من وراء ذلك، ولم يأتِ به اعتباطاً. ومعروف أن الحية هي رمز الحياة، لكنها ترمز أيضاً للخديعة والغدر، وكل المعاني السلبية، وإذا وضعنا استحضاره لها بجانب استحضاره (الغراب) وجدنا أن كليهما (أسود)، ويرمزان للخديعة، ويحملان مدلولات سلبية تدعو إلى النفور والتشاؤم.
    وكما قلنا سلفاً إن لهذه المقدمة (المركبة) علاقة وشيجة بغرض القصيدة الرئيس -هجاء قوم امرئ القيس- فهي تمتلئ بالسواد والسوداوية وخيبة الأمل التي قد تمتلك مدلولية التعبير عن مديات خيبة أمله بقوم امرئ القيس الذين وصمهم بالبخل -وإن كان لم يعطِ للغرض حيزاً كبيراً من اهتمامه الشعري- إذ استغرقت المقدمة والرحلة الجزء الأعظم من القصيدة في حين لم يشغل الغرض الهجائي سوى أربع أبيات من مجموع أبيات القصيدة.
    وبعد أن ينهي الشاعر افتتاح قصيدته بذكر تمثلات الماضي الذي انتهى، والذي بالرغم من ذلك لا يزال محفوراً في الذاكرة، لذا يحاول إحياءه ولكن بلا جدوى، لأنه يعلم جيداً أن الماضي لا يمكن أن يعود مطلقاً؛ لذا لا بد له أن ينطلق إلى عالم الحس والمادة، إلى العالم الأرضي الواقعي الذي يتمثل بمقطع الرحلة وما يتيحه من سبيل للمواجهة الحقيقية مع الحياة والانطلاق في رحابها، فالرحلة كما هو معلوم المنطلق والبداية الحقيقية إلى الاعتراف بالواقع والعيش في عالم الحاضر وعالم المحسوسات المادية. وهي جزء مهم في القصيدة، فلوحة الافتتاح هي بمثابة نافذة على أمس الشاعر وصوره التي تلح على الذاكرة في لحظات الإبداع[8]، أما الرحلة فهي بمثابة الجسر الذي يربط بين طرفي القصيدة -الافتتاح والغرض-[9] وهي تستند في الأصل إلى واقع الإنسان العربي ومعيشته البدوية غير المستقرة، رغم تحولها فيما بعد إلى تقليد فني لا أكثر، يعبر الشاعر من خلاله عن فكرة مواجهة الحياة وتحدياتها وليس شرطاً أن يكون قد مارس الرحلة حقاً.
    وينتقل ذو الرمة في قصيدته، في البيت السابع عشر منها، إلى مقطع الرحلة بلا وشيجة أو حسن تخلص إذ يقول:
    أرى ناقتي عند المحصب شاقها رواح اليماني والهديل المرجّع[10]
    وهنا نجد أن الشاعر التزم التقليد الجاهلي كعادته في جعل ناقته وسيلته وأداته التي يستعين بها إلى بلوغ هدفه. ونجد أن ناقته -حسب ما يزعم- حين سمعت الإبل تحدج، والحمام يهدل اشتاقت إلى منزلها. وفي الواقع مهما يكن من شيء فليست الناقة في هذه القصيدة سوى الشاعر نفسه، فالناقة هنا غدت المعادل الرمزي، والموضوعي، والنفسي للشاعر، الذي يحن إلى دياره وإلى ماضيه.
    ويتحدث طويلاً عن رحلته الشاقة مع ناقته في الصحراء ويصف أهوالها ومتاعبها وصفاً حسياً، مستمداً من الواقع والحقيقة وموجودات الطبيعة المحيطة. فالرحلة في أي قصيدة تمثل -كما أسلفنا- انطلاق الشاعر ونزوله إلى أرض (الواقع) و(الحاضر) و(الحركة)، وتجاوز ومغادرة (الماضي) و(السكون). لذا نجد أن هذا المقطع تحديداً يمتلئ بالأفعال المضارعة، ومثال ذلك قوله:
    إذا (انجابت) الظلماء (أضحت) رؤوسهم عليهن من طول الكرى وهي ظلّع
    (يقيـمونها) بالجـهد حالاً و(تنتـحي) بها نشوة الإدلاج أخرى (فتركع)
    (تـرى) كل مغلـوب (يمـيد) كأنـه بحبلين في مشـطونة (يتنوع)[11]
    ومثلما يحشد الشاعر جمله الشعرية أفعالاً ليمنحها سمة الحركة التتابعية المستمرة، فإنه يحشد تشبيهاته أيضاً -وإن كانت مقتضبة هنا- لذا فهو حين يريد أن يصف سرعة ناقته وصلابتها يشبهها بما في الطبيعة الصحراوية من حيوانات مُستفزة، ومطاردة، تمتلك سمات مثالية في السرعة والمتانة والصلابة والتحمل. ونلاحظ أن ذا الرمة يشبه سرعة ناقته تارةً بقطيع البقر الذي تفرق يمينا وشمالاً في البيت الخامس والعشرين من القصيدة:
    عسفتُ اعتساف الصدع كل مهيبة تظلّ بها الآجال عني تصوّع[12]
    وفي موضع آخر، في البيت الأربعين تحديداً نجده يشبهها بطير السماني السريع الذي نجا من الخطر المحيق:
    سمامُ نجت منه المهارى وغودرت أراحيبها والماطلي الهملّع[13]
    ثم يشبه ناقته فيما بعد في عدوها وضمورها بالظليم الأسود القوائم، والأقرع الذي ليس على رأسه شعر أو ريش:
    يخدن إذا بارين حرفاً كأنها أحم الشوى عاري الظنابيب أقرع[14]
    ويلاحظ أن الشاعر لم تنفتح لوحة الرحلة لديه على قصص الحيوانات كما اعتدنا أن نجدها في قصائد أخرى له، أو لغيره، بل إن ما حدث هو أن الناقة في رحلته شبهت بشكل سريع بـ (قطيع البقر، وطير السماني، والظليم) لكننا لا نجد أي أثر لقصة لأحد هذه الحيوانات كما اعتدنا أن نجد. ولعلّ السبب يكمن كما نظن في اضطراب نفسية الشاعر وتوتره. لذا فإن مقطع الرحلة لم يضم لوحات متعددة، تضم كل لوحة قصة مستقلة ومتكاملة الأجزاء تنفتح بدورها على قصة أخرى أو تكتفي بها فقط دون أن تنفتح على غيرها، إنما كانت تشبيهات سريعة لم تتجاوز الواحدة منها البيت الواحد فقط.
    ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بل إنه يُقحم نفسه لأهميته هو هل فعلاً إن الشاعر في هذه الأبيات -أبيات الرحلة- يتحدث عن ناقته حقاً؟ وبعبارة أخرى هل إن ناقته هي المقصودة من كل هذا أم أنها مجرد رمز أراد الشاعر من خلالها أن يعبر عن ذاته وما يعتمل في نفسه من شوق وحزن واضطراب؟
    في الواقع لعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا إن صوت الشاعر قد طغى في هذا المقطع وهيمن عليه، فاتضحت معالم ذاتيته المفرطة فيه، فـ (أنا) الشاعر وشخصيته ظهرت وسيطرت بوضوح على مجريات المقطع، لاسيّما استخدامه ضمير المتكلم حين يتحدث عن ناقته، أو يوجه حديثه إليها، فبرزت شخصيته بدل ناقته، فكأنه حين يتحدث إليها يحدث نفسه، أو يوجه كلامه إلى نفسه، كما في قوله مثلاً:
    (أرى) ناقتي عند المحصب شاقها رواح اليماني والهديل المرجّع
    (فقـلت لها) قـرّي فإن ركابـنا وركبانها من حيث تهوين نزّع[15]
    ويمكن القول إن الشاعر توحد مع ناقته فخلق منها معادلاً موضوعياً له، فرسم لها صوراً في مخيلته الشعرية، أراد منها أن تعبر عن تجربته النفسية وتتفاعل معها.
    وإذا انتقلنا إلى غرض القصيدة الرئيس، والذي لم يشغل منها سوى أربع أبيات، فإننا نجده كما أسلفنا يدور حول هجاء قبيلة امرئ القيس الذين رفضوا أن يضيّفوا الشاعر. ويلاحظ أنه حين يهجو هؤلاء القوم فإنه فضلاً عن تعييرهم بالبخل، فإنه يلجأ أيضاً إلى أسلوب التعيير بالنساء، ومعلوم ما تعني المرأة بالنسبة للعربي، من كونها مركز ثقل شرفه ومكانته بين الأقوام، فحين يُعيّر بها فهذا يعني أنه أصيب في نقطة ضعفه، وهو يعد ضمن أشد حالات الهجاء وطأة.
    وأخيراً لا بدّ أن نقول إن ذا الرمة قدّم في قصيدته لوحات متعددة ضمت الطلل والغزل والرحلة والهجاء، إلاّ إن ما هيمن في كل أجزاء قصيدته هو عنصر الذاتية المفرطة. فذاتية الشاعر هي (المهيمنة) على بنية، وأجواء، وموضوعة، وعالم القصيدة بأكملها. وبالتأكيد لكل نص قراءات متعددة، تتعدد بتعدد القراء، وقد تتعدد لدى الكاتب نفسه، لاسيّما حين يكون النص حياً وناطقاً وحيوياً كنص ذي الرمة.

    1ديوان ذي الرمة، رواية ثعلب، ت: عبد القدوس أبو صالح، ج2، 718.
    [2] نفسه.
    [3] نفسه، 720.
    [4] نفسه.
    [5] نفسه، 721.
    [6] نفسه.
    [7] نفسه، 725.
    [8] ينظر: قراءة معاصرة في نصوص من التراث الشعري، د. محمود عبد الله الجادر، 15.
    [9] ينظر: عمرو بن قميئة، سيرته وشعره، عبد اللطيف حمودي كاظم الطائي، رسالة ماجستير-كلية الآداب- الجامعة المستنصرية، 1988، 67.
    [10] ديوان ذي الرمة، 726.
    [11] نفسه، 734- 736. وغير ذلك من أبيات مقطع الرحلة التي تمتلئ بالأفعال المضارعة المعبرة عن استمرار الحركة وتجددها. وقد آثرنا أن نميز الأفعال في الأبيات المذكورة أعلاه بأن وضعناها بين قوسين كما هو ملاحظ.
    [12] المصدر نفسه، 731.
    [13] المصدر نفسه، 740.
    [14] المصدر نفسه، 741.
    [15] المصدر نفسه، 726- 727.

  2. #2
    من اهل الدار
    اااااه يا أخي
    تاريخ التسجيل: January-2016
    الدولة: 1993/1/25
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 45,930 المواضيع: 3,938
    التقييم: 12891
    مزاجي: الحمدلله
    المهنة: مادام لي ربا يرى حالي❤فما لي أدفن في اليأس امالي
    أكلتي المفضلة: كلشي احب
    موبايلي: ايفون6
    آخر نشاط: 21/December/2019
    شكرا لك اخي

  3. #3
    حُلْمٌ ضائع
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فقد الاحبه مشاهدة المشاركة
    شكرا لك اخي
    وشكراً على مروركِ أختي

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال