الإمام الكاظم(ع) مسيرة رساليَّة مليئة بالتَّضحياتبسم الله الرحمن الرحيم
قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. صدق الله العظيم.
الإمام موسى بن جعفر الكاظم، الَّذي عاش في ظلِّ أبيه عشرين سنة، وتربّى على يديه، فكان أنموذجاً في العلم والعبادة والخلق والكرم والزّهد والصَّبر، ومثالاً أعلى في الثّبات والشَّجاعة.
وقد عبَّر الإمام الصَّادق(ع) عن موقعه(ع) عندما قال فيه: "الحمد لله الّذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء".
وقد عانى الإمام في مرحلة إمامته الّتي امتدّت لخمسٍ وثلاثين سنةً، طغيان خمسة من ملوك بني العبّاس: العباس، والمنصور، والمهدي، والهادي، وكانت أشدّ معاناته خلال حكم هارون الرّشيد، الّذي وصل إلى حدٍّ من العتوّ والغطرسة والجبروت أن يقول للغمامة: "اذهبي حيث شئت، فإنّه يأتيني خراجك".
كان العبّاسيون يتوجّسون خيفةً من أهل البيت(ع)، الّذين بلغ حضورهم في نفوس المسلمين، رغم كونهم بعيدين عن موقع السّلطة، مكانةً دفعت أحدهم لأن يقول لهارون الرّشيد، وكان يريد بذلك التّحريض: "ما ظننت أنّ في الأرض خليفتين حتى رأيت موسى بن جعفر... وإنّ الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب"، وهو يقصد الأموال الشرعيّة.
الموقف من أئمَّة الجور
والعبرة في نظرتنا إلى كلِّ مواقف أهل البيت(ع) من حكَّام الظّلم والجور، هي أنَّ الأئمَّة لو أنّهم هادنوا أو حتّى ميَّعوا مواقفهم من الزّعامة المنحرفة، فراعنة الظّلم والجور، لولّوهم أبرز المناصب، ولنعموا وعاشوا في عزٍّ وترفٍ وخدمٍ وحشمٍ ودنيا، إلا أنهم وعوا أنَّ لموقعيَّتهم الدينيَّة مسؤوليَّة تجاه الله وتجاه الأمَّة في حاضرها ومستقبلها، كما يفعل دائماً الّذين يسخِّرون الدّين لتدعيم مصالحهم وأركان حكمهم وتسلّطهم الآنيّ والمرحليّ، فالأئمّة رغم كلّ التّضييق والحصار الّذي فرض عليهم، لم يتركوا فرصةً أو قناة تواصل إلا وعبّروا من خلالها عن رفضهم وسخطهم تجاه معاناة الأمّة. والإمام الكاظم ما هو إلا علم من أعلام هذه المدرسة، فما كان ليسمح أن تُقلب الحقائق وتمرّر بالدِّعاية وعبر الأبواق لتصير من الثَّوابت، كما يحصل عادةً. إنَّ أئمَّة أهل البيت(ع) لم يلتهوا بالأمور الشخصيَّة، بل ظلَّت أعينهم على هزِّ المشروعيَّة الّتي يستند إليها كلُّ مَنْ وصل الى حكم المسلمين في تلك الفترة، فهم، وإن لم يتمكَّنوا من إزاحة الظَّالمين الّذين لم يحكموا بما أنزل الله من الحكم، إلا أنّهم كانوا مصدر قلق، وقلق كبير، نسبةً إلى ما يمثِّله أهل البيت من موقعيَّة ومصداقيَّة.
حدود فدك
تذكر السّيرة أنَّ هارون الرَّشيد أتى يوماً إلى قبر رسول الله(ص) في المدينة زائراً وكان حوله النَّاس، وكان الإمام الكاظم حينها حاضراً، فلمَّا انتهى هارون إلى قبر رسول الله(ص)، توجَّه إلى الرَّسول قائلاً: "السَّلام عليك يا رسول الله يابن العمّ"، وهو يريد، كما كان دأْبُ بني العبَّاس، البناء على القرابة من الرَّسول، لإضفاء الشرعيَّة الدّينيَّة على موقعه كحاكمٍ، وخصوصاً أمام العوام، إلا أنَّ الإمام لم يدع له أن يخدع المسلمين، فتقدَّم إلى القبر ليؤكِّد أنَّ منزلته من رسول الله فوق كلّ منزلة، قائلاً: "السّلام عليك يا أبتِ..". هنا تغيّر وجه الرّشيد، ولكنّه لم يستطع أن ينبس ببنت شفة.
ومن الطّبيعيّ أن يحاول هارون الرَّشيد (وهو ما يحدث عادةً في موضوع معارضة الحكم وانتقاده والوقوف في وجهه)، استمالة الإمام بالمال والمغريات. ولكن من الطبيعيّ أيضاً، أنَّ المكاسب الدنيويّة لم تكن لتغيِّر في مبدئيَّة الإمام وقيمه ومواقفه من السّلطة غير الشرعيّة. ويروى أنَّ هارون الرّشيد قال للإمام الكاظم(ع) يوماً: أريد أن أعيد إليك فدك. وهو يريد بذلك إظهار التّعاطف مع أهل البيت(ع)، فقال له الإمام(ع): (حسناً تعيد لنا فدك) لكن بحدودها.. قال له: وأيّ حدود، وهي واضحة المعالم؟ (قطعة أرض معروفة في المدينة).. قال له: "أمّا الحدّ الأوّل فعدن... والحدّ الثّاني سمرقند... والحدّ الثّالث أفريقيا، والرّابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية"، وهي امتداد حدود الدّولة العباسيّة يومها، فقال له هارون الرّشيد: ما تركت لنا شيئاً. قال: وهو ذلك.
لقد أراد الإمام الكاظم(ع) أن يبيّن لهارون الّذي جاء يرشيه، أنَّ فدك لم تكن أرضاً أو ملكاً خاصّاً سعت لاستعادتها الزّهراء(ع)، وهي الّتي لم ترد الدّنيا وكلّ ما فيها، لكنّها أرادت بمطالبتها بفدك، أن تشير إلى حقّ أهل البيت(ع) في خلافة المسلمين.
المواجهة السياسيَّة والإعلاميَّة
ولم يكتف الإمام(ع) بالمواجهة الكلاميّة، وبإعلان موقفه السياسيّ الواضح والحازم، ولكنّه تعدّاه إعلاميّاً وفق المتاح، فكان من حديثه لأحد أصحابه ورواة حديثه صفوان الجمّال (الّذي كان يملك جِمالاً وإبلاً، ولديه ما يمثِّل اليوم وكالة نقل عامّ: سيّارات أو باصات)، قال له: "كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً"، فقال له: جعلت فداك، أي شيء هو؟ قال(ع): "إكراؤك جمالك من هذا الرَّجل" (إكراؤك أي تأجيرك)، والرَّجل هو هارون الرَّشيد الَّذي كان يكريه الإبل والجمال لتكون في خدمته! فقال له: "والله ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصّيد، ولا للّهو، ولكن لهذا الطّريق ـ يعني طريق مكّة ـ ثم أنا لا أتولّاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني". يومها وقف الإمام بصلابة، وقال له بما أنك تقبض من مال هارون الرّشيد، فهذا سبب لدخول النّار. ويروي صفوان قائلاً: بعدها ذهبت، فبعت جمالي على آخرها. فبلغ ذلك هارون، فاستدعى صفوان وقال له: يا صفوان، لقد بلغني أنَّك بعت جمالك، إنّي لأعلم السَّبب، إنَّ من أشار إليك بهذا موسى بن جعفر.
لقد كان الإمام(ع) يدرك أنَّه من الصَّعب لمن يستفيد أو لديه مصلحة مع الظَّالم، أن يعارضه في ما بعد، عملاً بالمبدأ القائل: (أطعم الفم تستحِ العين). بل على العكس، سيتمنَّى هذا المستفيد استمرار مُلْكِه حتّى قضاء حوائجه أو مصالحه.
وأبعد من المعارضة الذّاتيَّة والإعلاميَّة، فقد ساند الإمام الكاظم أولئك الّذين واجهوا طغيان الحكَّام العباسيّين آنذاك وظلمهم، وهذا ما تجلّى في موقفه من الثّورة الّتي أعلنها الحسين بن عليّ، ابن أحد أحفاد الحسن المجتبى(ع).
وكانت نتيجة هذه الثَّورة الّتي بدأت في المدينة واتجهت منها إلى مكَّة، أن استشهد الحسين بن عليّ ومن كانوا معه على مشارف مكَّة في منطقة فخّ، ولذلك سُمِّيَتُ المعركة باسمها.
ولما سمع الإمام الكاظم باستشهاده، بكاه وأبَّنه قائلاً: "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً، صوّاماً قوّاماً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله".
استشهاد الإمام(ع)
ولهذا كلّه، شكَّل وجود الإمام تحدّياً لطغيان هارون الرَّشيد، الّذي شعر بأزمة وجوده بين النَّاس وهم يلتفّون حوله، ويستمدّون منه الوعي والعزيمة والإرادة.
ولذلك قرَّر أن يبعده ويودعه في السِّجن، ليوهن من عزيمته، ويبعد جمهوره عنه، ويعزله عن الاتِّصال بالمسلمين، وهذا ما حصل، وقد سعى إلى أن يعطي لعمله هذا شرعيّةً، عندما ذهب هارون يومها إلى مسجد النبيّ(ص)، ليعلن، وبين يدي الله، ما يريد القيام به، وهذا ما يظهر صلافته ووقاحته على الله ونبيّه وأهل بيته.
ولكنَّ الإمام الكاظم فضح هارون، وأفشل له مخطّطه، بأن حوَّل السِّجن مدرسةً ومكان عبادة ومنطلقاً للتَّغيير، رغم أوامر هارون بأن يضيَّق على الإمام في سجنه، وكان في البصرة.
لكنّ شخصيَّة الإمام(ع) أحدثت في نفس سجّانه (عيسى بن جعفر) تحوُّلاً، فلم يستطع أن يقابل حسن أخلاق الإمام معه وحسن عبادته إلا بالإصرار على عدم الإساءة إليه، بل والاهتمام به، حتّى تحوّل السّجن إلى روضةٍ من الرّوحانيّات والمناجاة، دفعت الإمام إلى أن يتوجّه إلى الله بالدّعاء شاكراً حمده، قائلاً: "اللّهمّ إنّك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك وقد فعلت، فلك الحمد".
وتكرّر هذا الأمر، عندما تمَّ نقله إلى سجن بغداد عند الفضل بن الرَّبيع، وعند الفضل بن يحيى، ما جعل هارون الرَّشيد يرسله إلى سجنٍ من أسوأ السّجون، وهو الّذي يشرف عليه (السندي بن شاهك)، وكان هذا الرَّجل من أشدِّ الناس بغضاً لأهل البيت(ع)، فأساء إلى الإمام أشدَّ الإساءات، ثم نفَّذ قرار هارون الرّشيد بالتخلّص من الإمام، فدسَّ له السّمّ في طعامه، وانتقل الإمام إلى رحاب ربّه شاهداً وشهيداً، وبقيت سيرته منهجاً في مواجهة أركان الظّلم، ومشعلاً يُلهم كلَّ المجاهدين والمؤمنين في جهادهم وتطلّعاتهم نحو تحقيق الحريّة والعدالة في أيِّ زمانٍ ومكان.
استهداء قيم الإمام(ع)
أيّها الأحبَّة: في ذكرى الإمام موسى الكاظم(ع)، نتعلَّم قيمة الصَّبر والثَّبات، قيمة أن نحوِّل البلاء، مهما كان كبيراً، هذا ما بشّر به الله الصّابرين الثّابتين، بالصّلوات عليهم منه والرحمة وأنهم هم المهتدون.
إنّنا بحاجة إلى استهداء هذه القيم، حتّى نواجه التحدّيات التي يُرسَم لها أن تعصف بواقعنا وتسقط كلّ عناصر القوّة فينا.
نستلهم هذه الذّكرى، بأن لا نهن، ولا نضعف، ولا نسقط، بل نثبت ونبقى، وسيكون المستقبل للصّابرين الثّابتين الأقوياء بإذن الله.
فهذا الإمام الكاظم وهو في عليائه، مهبط قلوب الزّائرين الّذين يفدون إليه في كلّ يوم، ومن كلّ حدب وصوب، رغم الأخطار المحدقة بهم، وفي المقابل، أين هارون وملك هارون؟ أين مجده؟ أين جبروته الّذي لأجله باع آخرته؟ الإمام(ع) كان ينظر إلى مستقبل الأمّة الّذي لا حدّ له، أمّا هارون ومن مثله من فراعنة الأمس واليوم، فهم دائماً ينظرون إلى اللّحظة الآنيّة، والمرحليّة الزّائلة، فأين هذا من ذاك؟!
هي عبرة لكي نعتبر، فاعتبروا يا أولي الأبصار