نوفل الصافي ؛ من الشعراء المتميزين بخط معين في رسم الشعر، فهو يختار مفردته باناقة عالية ودقة محسوبة تستدرجك الى الانتباه اليه والانشداد لذلك الضوء الباهر المنبعث من دفق التصوير المعبر في جمل قصائده ..هو شاعر من الجنوب كما يحلو له ان يطلق على نفسه ( شاعر من جنوب الناصرية ومايخاف ) …شاعر من جنوب الناصرية ـ مدينة سوق الشيوخ ـ التي تقع في جنوب مدينة الناصرية والتي انجبت ولازالت تنجب الكثير من الأدباء والشعراء والفنانين ….عاش الالم ورأى الحزن يخالط روحه ويعتصر من حوله فقد عاصر اجواء ومواقف لا يحسد عليها وترجمها برشاقة في نتاجه الشعري المكثف…. قصائده معبرة للغاية ….تصور المشهد غاية في الدقة وتجعلك تعيش تلك اللحظات وكأنك فيها ….في قصيدته ” قاعات شعرية”… يصف حالة ليست بالغريبة على من عاصر نظام الطاغية ويبدا بطرح استنهاضية تحريضية لمجابهة واقع مرير عاشه الشاعر وشعبه..
هاي ساحه ..
البيه زود اوحظ يكوم
الصوم لليكدر يصوم !!
فمن كان مريضاً أو على خدر
يرجع وره
يصور العراق بساحة كبيرة ويراهن على من يقف بوجه الظلم ….او الذي يستسلم ويعود ادراجه من حيث اتى ….فمثل هكذا مواقف تتطلب شجاعة كبيرة لتحمل نتائج هذا الصراخ في وجه السلطة القمعية ومايمكن أن يتعرض له الشاعر من اضطهاد جلاوزة النظام الدكتاتوري الذين لايمتون للانسانية بشئ؛ حتى بملامح وجوهم التي اكتست بالقسوة…ثم يصور التقاطة غاية في الروعة حين يجسد كيف يرتدي البعض ثياب الصمود وتبدو القيود وكانها رمز للفخر لانها تعكس صورة لرفض الطغيان الذي جاوز حده معذره .. (القيد للمسجون هيبه) ثم يعرج بنا بلغة شفافة ليعرض لنا صورة دلالية تعري واقعا كان يعيشه من كان يحتجز قسرا في سجن الموت واقبية مديريات الأمن الصدامية سيئة الصيت ؛ ليضعنا في اطار تبعث فينا خوف المكان حيث القاعة الاولى في ذلك السجن والتي لايتنفس آهلوها اكثر من همس للكلام وبرودة الجدران ورائحة الهواء المشبع برطوبة المصير البشع..
قاعه واحد ..
اولايه خرسه السوالف بس همس
الحيطان ماضاكت شمس !!
الكاع تنتل !!
والهوه خربان.. بايت من أمس !!
ثم يسترسل بنا الصافي ليغور اكثر عمقا في القصيدة ليصور لنا (بانورما) شعرية جميلة فيها قوة إقناعية وتأثيرية وتعبيرية، وجمالية أيضا حين يكملها بقاعة (رقم اثنين) .. اللغة هنا هي لغة الإشارة والرمز ،.يصف لنا بصورة محزنة انطفاء احد الاقمار….دلالة على استشهاد احد الشباب المعتقلين ..
قاعه رقم اثنين اكبال قاعه رقم واحد
أشويه اكبر ..
الفرق بس الممر وانطفه بيها كمر !!
ثم يقودنا الصافي في بنية ايقاعية جميلة ليشكل لنا معالم نص مرتبط بما قبله ليكون جزءاً آخر من قصيدة متكاملة حيث يصل بنا الى قاعة رقم ثلاثة …حيث الليل هو الصفة المتسيدة للمكان حتى لو كانت الشمس في وضح النهار …المكان لا يختلف عن المقبرة ….فجميع تلك المحاجر اشبه بمقابر تحتضن اناس احياء في رسم الموت ….المكان يبدو من الخارج عكس ماعليه من الداخل ….البياض الذي طلي به الباب من الخارج يقابله باب ومكان ملئ بالذكريات التي خطها جميع من دخل تلك المحاجر ….كتبت بقوة واصرار ..كتبت حتى بقشور الرمان التي كانت أدخلها الشاعر الصافي بصورة سرية في اشارة لمدى الحرمان والظلم الذي كان يقع على المعتقلين هناك …المسيح و الصليب يدخل فى أعماق مشاعر الإنسان وفكره الروحى هو فكرة الخلاص او توقع قدوم المخلص …. هو موضوع عناق قوي فى علاقتهم بالله وايمانهم في إن الفرج قريب لامحالة.
قاعه رقم أثلاثه ..
ليل أومكبره مكبره يمهه المحاجر..
المحاجرمدري ليش ..
ذكرّتني ابرسم شاعر ..
الباب من بّره وجه جنه حليب او وجه الآخر..
نُص كلتــّه الذكريات ..
وبكشر رمّان مكتوب الفرج كلش قريب
آورَسِم للسيد المسيح ياكل براس الصليب !!
أشباح الآلام لاتفارق القصيدة ولامجال للفرار منها …تحكم السيطرة على المكان ..وحيث الكل يهرب دون جدوى ….فيما هناك من صبر وتحمل الالم بشكل يستحق منا الوقوف امامه و فيها اشارة واضحة للشهيدة ” عايدة عبد الكريم الركابي ” التي اعتقلت في كانون الثاني 1991 وحكم عليها بالسجن عشر سنوات ولكنها توفيت في ظروف غامضة في مستشفى اليرموك ـ جرعة سم ـ في عام 1994
قاعه رقم اثلاثه ..
ليل أو مكبره والألم ع الباب
لازم سيطره اوتاجر صبر..
بس جوهره عنده صبرعوزه زلم ..
اوعنده شعر يسحر مَرَه الزلم ركضت ع الشعر !!
والمره ماجنها مره ابـ (كنتور) صبره اموزرّه !! ؟
ويستمر الصافي في تجواله بنا في قاعات وممرات مبنى الأمن البغيض ويصل بنا الى قاعة رقم اربعة .. حيث الموت يتربص بالجميع خلسة وبدون سابق انذار ويسترسل بشكل مخيف حيث الحلم ممنوع …لا مكان للامل …حيث كل شي هنا يستحيل لونه الى الاحمر …لون الدماء في كل مكان …..واعطى الشاعر للعين ـ بإشارته الذكية اليها ـ دلالة على اهمية الارض والحرية والوطن حيث التضحية بالروح وبذل الدم يهون من اجل المبادئ … تصطبغ الابواب بالدم …..الجدران بالدم ….الشبابيك بالدم …لدرجة يظن بها الشاعر انه ربما ليس على قيد الحياة لكثرة استباحة الدماء والقتل , يتحول المكان الى هدوء قاتل ….حينها يخاطب الشاعر نفسه وهنا نجد اشتراك في الإحساس وعمق البوح قائلا ضع رمحك في خاصرتك وتحمل الالم ولاتسقط او تنحي لمثل هؤلاء…صورة شعرية غاية في الروعة مستفيدا من البيت الدارمي المشهور (خل الرمح بجلاك….الخ )
والحلم ممنوع ..
وانطـّو للجفن نسخة أمر.. طبق الاصل !!
والعين تتشلبه عله الشباج دَم ..
ترسم الحيطان .. دم تصبغ البيبان ..
دم اوجدم سجّان اونحيب الباب
.. سكته .. كلها سكته .. امنين ماتلتفت سكته
!! اتلمست روحي بَعدْهي
وهاجس ابروحي يصيح ( خل الرمح بجلاك واكف لمه اتطيح) .. …
فهذه ساحة قتال وفيها يختبر صبر الرجال وشجاعتهم حيث يدور كل شيء…الكرة الاضية تدور ونحن ندور وهو في هذا يعبر عن اختلال التوازن الانساني في بلد خطفته عصابة تلاعبت بمقدرات شعبه واستباحت دماءهم …..ليكمل لنا ذلك في الوقت الذي تتواصل فيه الرؤى وتتدفق من خلال إرهاصة الحلم لنجد أن الرؤية ما زالت شديدة القتامة ومستحيلة التصديق …لحظات يتغلب فيها الحزن على الحلم الذي يسير في طريق وعرة وبالتالي هو يبحث عمن لديه قدرة التواصل والمثابرة .
وهاي ساحه ابصبر ساعه..
البيه زود ايكوم يلعب !! وهذا ملعب !! وسوط يلعب !!
والكره الأرضيه تفتر.. مدري افتر.. مدري نفتر..
دون راس الراس يمشي بلايه عين !!
العين تحلم بالجفن يحضنها يوم ..!!
ويوم ياكل يوم .. ياكل يـــ ـ ـ ـ ـ ـ ووووو م ياكل هاجس اجناحه يحوم
.. يفتر القاعات وعيونه تطوف ..
ابحلم يشتم عطر غيظ ايحنيّ بي باب الظفيره ..
ابحلم يشتم ناس غيظ ..
اتبات كمرة شوك بعيون المنافي !!
الايام تمضي في السجن يوم بعد اخر واخر ياتي وتبقى الاحلام معلقة بين غرف السجن ؛ تحلم بانها ستمر يوم وينفتح باب السجن لها دون عودة له ….التعذيب اخذ ماخذه منهم وتراجع الجميع تحت وطأته ويصور الشاعر نفسه وهو واقف امام مثل هكذا تحدٍ … هو يصف في القصيدة الحياة التي تتمثل في هؤلاء المعتقلين ظلما وكأنهم اشبه بشهرزاد ….ولايخفى عنكم ان شهرزاد كانت تتكلم وتقص الحكايات كل يوم لتنقذ نفسها من الملك شهريار الذي كان يصر كل يوم على سماع قصة جديدة وهكذا كان البعض يحكي قصصا في صراع (نفسي ـ جسدي) مع الموكل بالتحقيق والتعذيب … ويوم ياكل يوم .. ياكل يـ ـ ـ ـ ـ ـ ــووووو م ياكل هاجس اجناحه يحوم .. يفتر القاعات وعيونه تطوف ابحلم يشتم عطر غيظ ايحنيّ بي باب الظفيره ..
ابحلم يشتم ناس غيظ ..اتبات كمرة شوك بعيون المنافي !!
ماكو ناس السوط يلعب.. اتقدمت كلها وره !!
اتراجَعِت آنه الـ أَمَام !!
والقصيده الشهرزاد اتريد زاد الشهريار.. وشهريار يريد من عدْهه الكلام ..
تتسلل نسمة من الراحة الى جسده وتعود به الى ارضه ووطنه ورائحة مكانه وصوت الصلاة والاذان يعلو ليذكره بانه لايزال حيا ….انه صوت الله ….. صوت الحق ….صوت الجنوب الذي يبقى شامخا دائما..الصوت الذي يكره التملق ويسعى لجلد الجلاد بوقفة مشرفة حتى لو قتل أوشرد ولكنه لايعترف الا بالوطن ولاينحني الا لدجلته وفراته لانه من جنوب الجنوب.. لن تهزه المصائب ولن يهزمه التعذيب.. وهاهو يكمل افادته .. ويوقّع على أقواله .. في منلوج ذاتي مع النفس تمتزج فيه دلالات التحدي والإعتزاز الفخر بعراقية وجنوبية المتصدر للمشهد السياسي ووصولا الى مرحلة التتويج الفني للقصيدة بأعلى طاقاتها التعبيرية ..
التوقيع: شاعر من جنوب الناصريه
ومايخاف وبْصَمِتْ دون اعتراف!!
إيضاح مع عدم الاعتذار
اللّهم عاف .. العثـــّه وصلت تاكل بروس الزلم!!
الحمد لله ماكلتني
وهكذا يختتم الشاعر قصيدته بتصميم وتأكيد على مواصلته للحياة رغم ما يحيط به من ظلام وصراعات وآلام… حتى وإن ظل وحيدا من بين جميع الموجودين الذين لعب بهم الخوف ونثر في رؤوسهم عثة التراجع والتردد التي نخرت أرواحهم وعقولهم … فهو ـ الشاعر المعتقل ـ أو المعتقل الذي صوره الشاعر يبقى في النهاية شاعر من جنوب الناصرية..