Sun, Jul 22, 2012
البريد الإلكتروني.. تقنية غيرت وجه التاريخ في 30 ثانية!
30 ثانية فقط غيرت وجه التاريخ بفكرة عبقرية، واختراع مثالي، وشخصية لم تجد حظها من التقدير، ولم تنل حتى صكاً لبراءة اختراعها. ولعلنا جميعاً نجزم الآن بأن البريد الالكتروني من أكثر وسائل الاتصال الحديثة انتشاراً وفاعلية في عالمنا الواقعي، ومع ذلك لا نكاد نعلم شيئاً عن مولده وتطوره، وعن المبتكر الفذ الذي قدم للبشرية هذه الوسيلة الرائعة.
وإذا كانت هناك ثلاث وسائل للاتصال غيرت أساليب التخاطب والاتصال بين بني البشر في أرجاء المعمورة، وصارت تواريخ ابتكارها نقاطاً مضيئة في حياة البشرية الحديثة، وبات مخترعوها من المشاهير الذين لولاهم، لما بدت الدنيا كما هي اليوم.. وتلك الوسائل هي التلغراف والهاتف واللاسلكي.وجاء اختراع رابع ليمثل ذروة الاتصالات في عالمنا الحديث، والمتمثل في البريد الالكتروني الذي دخل حيز الوجود في سبعينات القرن الماضي، وأصبح الاتصال عبره عنواناً للحداثة في عالمنا المعاصر.
ولكن لايزال مخترع البريد الالكتروني وواضع أسسه مجهولاً يقبع في الظل.كما بقيت مجهولة للأكثرية من مستخدمي الانترنت، الطريقة التي اخترع بها وسيلته الاتصالية الحديثة. فمن سمع عن براي توملينسون؟ إنه مخترع البريد الالكتروني الذي يعيش حياة عادية موظفاً في شركة أميركية منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً. دون أدنى محاولة لتعريف العالم بأنه أحد رجال التاريخ، نعم فخور بما اخترعه، ولكن هذا يكفيه؟ في يوليو من عام 1982 أرسل راي توملينسون أول رسالة الكترونية في التاريخ. فوصلت إلى العنوان الذي قصده على الفور، لقد أرسلها لنفسه. ولا يذكر ما كانت تحتويه الرسالة بالضبط، كل ما يذكره أنها كانت تجميعاً لعدد من الأحرف التي كتبت في صورة عشوائية مكونة كلمة "QWERTYIOP"، أو شيء من هذا القبيل.تخرج راي توملينسون عام 1965 في معهد ماساشوستش للتكنولوجيا، وهو واحد من أشهر المراكز العلمية في العالم، وعمل بعد ذلك ضمن فريق شركة "بي بي أن" الأميركية.
ومنذ ذلك التاريخ والأحداث تبدو وكأنها رتبت نفسها بحيث تقوده إلى إحدى المصادفات التاريخية الاستثنائية. فلم يكن اختراعه ضمن جدول أعماله مطلقاً، وذلك بعكس بقية اختراعاته، التي كانت تخضع للدراسات المسبقة، وكان يقوم بها إما عن سابق إصرار، أو بطلب من الشركة التي يعمل لديها.
فقد اختارت وزارة الدفاع الأميركية شركة "بي بي أن" التي يعمل فيها توملينسون، لتقوم ببناء "أربانت" ARPANET وهي الأحرف التي ترمز إلى الشبكة التي تربط المعاهد العلمية والجامعات في الولايات المتحدة بعضها ببعض، وتجعلها على اتصال فيما بينها فقط. وذلك على غرار الشبكات المحلية التي تربط أجهزة الكمبيوتر في مؤسسة واحدة حالياً. ويطلق عليها اليوم اسم "جدة الانترنت". فقد كانت الشكل الأول أو التجربة الأولى على ما أصبح يعرف اليوم بشبكة الإنترنت، فشبكة اليوم هي ابنة "جدة الانترنت" الشرعية.
برنامج بسيط
شارك توملينسون في تصميم تلك الشبكة ببرنامج بسيط لكتابة الرسائل يدعى SNDMSG وذلك لكي يتمكن العاملون عبر شبكة "أربانت" من أن يتركوا من خلاله الرسائل المتبادلة بينهم.
وهذا البرنامج لا يرقى إلى مستوى البريد الالكتروني الحالي بطبيعة الحال، ولكنه كان خطوة مهمة على الطريق إليه. وأهمية البرنامج أنه يصنع ملفاً توضع فيه الرسالة، ما يعني أنه لا يستعمل إلا بين شخصين أو أكثر يشتركون في جهاز كمبيوتر واحد.من تلك الأجهزة التي كانت متوافرة في المعاهد والجامعات المشتركة بشبكة آربانت، فالكمبيوترات الشخصية لم تكن قد ظهرت بعد. حيث كان عليه أن ينتظر حتى عام 1981 لتظهر محدثة التحول الأكبر في عالم التكنولوجيا الحديثة التي تسيطر على عالمنا اليوم.
في هذه الأثناء صمم برنامجاً آخر يدعى "سيبنت" يسمح بنقل الملفات من جهاز كمبيوتر إلى آخر على أن يكون الجهازان مرتبطين بشبكة أربانت."إن لم تجد رابطاً ما بين هذين البرنامجين فأنت لست مخترعاً". مثل هذه العقلية الفذة التي تربط بين المخترعات المختلفة كانت متوافرة عند توملينسون، وهي التي جعلته يفكر بالبريد الإلكتروني.
وقد عمل على تقارب الفكرتين فهناك برنامج لكتابة الرسائل على الكمبيوتر نفسه، وبرنامج لنقل الملفات من كمبيوتر الى آخر. ومن خلال دمجهما أمكن وضع برنامج لنقل الرسائل إلكترونياً من جهاز كمبيوتر إلى آخر؟ في هذه اللحظة ولد البريد الالكتروني، في ذهنه أولاً. ولم يحتج الأمر إلا إلى إضافة الحلقة الناقصة.والحلقة الناقصة كانت دمج برنامج CYPNET الذي ينقل الملفات، ببرنامج SNDMSG الذي يكتب الرسالة، وكان نتاج ذلك الاندماج، البريد الالكتروني.
إشارة @ تبعث من العدم
وأتاح الابتكار الفرصة للجميع لاستخدام البريد الإلكتروني، ولكن المشكلة أن الرسالة كانت حتى ذلك الوقت لا تحمل أي دليل على مكان مرسلها. وما أرقه ان شبكة "أربانت" موزعة على 15 جهازاً في أماكن متفرقة من الولايات المتحدة، والتشتت جعل توملينسون يفكر في ابتكار رمز يوضع بين اسم المرسل والموقع الذي يفترض أن ترسل منه الرسالة. ولم يرد أن يكون الرمز رقماً. فكان الرمز @ هو ما اختاره من الرموز الموجودة على لوحة المفاتيح.وهو حرف الجر الوحيد الموجود على اللوحة.
وبالطبع فالرمز الذي وقع اختيار توملينسون عليه يقرأ على أنه حرف الجر "at" باللغة الانجليزية والذي يشير إلى المكان الذي تنطلق منه الرسالة. ولم يتوقع أبداً أن يكون للرمز أثره الحالي، حيث بات حرفاً قائماً بذاته، يستخدم ضمن أسماء الشركات وعلى اللوحات الإعلانية، مثل أي حرف آخر.وبعدها أرسل توملينسون أول رسالة الكترونية لنفسه، من جهاز إلى آخر، وكانا مرتبطين بشبكة "أربانت" في مقر شركة "بي بي إن" التي يعمل فيها في ماساشوستش.
لم ينشر توملينسون اختراعه على الملأ فوراً، بل طلب من مساعده بريتشفيل ألا يخبر أحداً عنه، لكن قلقه سرعان ما زال عندما أخبره زميل ثالث يدعى لاري روبرتس أنه سيستخدم اختراعه.
وخلال فترة وجيزة بات الاختراع وسيلة اتصال مثلى بالزملاء الآخرين وببعضهم البعض، ولم يمض كثير وقت حتى اكتسح اختراع توملينسون الجديد مستخدمي "أربانت"، وجلهم من المحاضرين في الجامعات الأميركية، وأظهرت الدراسات التي أجريت في تلك الفترة أن 75 في المئة من الاتصالات في شركة "اربانت" كانت تتم باستخدام البريد الالكتروني الجديد. الذي يرى توملينسون أن أهم ما فيه هو أن استخدامه لا يشترط وجود أي من مرسل الرسالة أو مستقبلها، كما هو الحال في اختراع الهاتف مثلاً.
واختفت "أربانت" وظهرت شبكة جديدة إلى حيز الوجود، هي شبكة الإنترنت، وأصبح مئات الملايين حول العالم يستخدمون البريد الالكتروني ويعرفون الرمز @ حق المعرفة.
ولم يبق من أصل البريد الالكتروني الذي ابتكره توملينسون إلا المبادئ الأساسية. فاستخدامه ضمن شبكة يشغلها الآلاف لا يقارن أبداً بالبريد الالكتروني الذي ينتقل ضمن شبكة تضم مئات الملايين من المستخدمين.
الفرق بين الإنترنت وأربانت، ربما كان السبب في ضياع حق راي توملينسون، بالشهرة على الأقل. فـ "جدة الانترنت" "أربانت"، شبكة محلية، ولذلك فهي ليست مجالاً رحباً يمكن للجميع الاستفادة منه كما هو الحال بالنسبة للإنترنت، وعليه لم ينتشر ابتكار توملينسون إلا بين فئة ضيقة من مستخدمي شبكة أربانت الذين لا يقارنون أبداً بأعداد مستخدمي الانترنت الذين وصل عددهم إلى المليار شخص، ولعل ذلك ما جعل توملينسون لا يقدر مدى أهمية اختراع يستخدمه عدد محدود من الأشخاص.
مرحلة جديدة
انتهت تلك المرحلة، وبدأت أخرى، هي الإنترنت، التي تعني بالإنجليزية الشبكة العالمية، حيث لا مجال لفئة ضيقة احتكار استخدامها، ولأن توملينسون لم يسجل البريد الإلكتروني كاختراع باسمه، ليحصل على براءة اختراع، كما فعل ويفعل الكثيرون، بات البريد الإلكتروني دون مالك، وانتشر بين كل مستخدمي الإنترنت، وذلك بعكس العدد المحدود الذي كان يستخدم "آربانت" وبقي البريد الإلكتروني اختراعاً دون مخترع، يستخدمه الملايين حول العالم مجاناً عبر شبكة الإنترنت.
وكما ساعدت الشبكة العنكبوتية على انتشار البريد الالكتروني، ساعدت في المقابل على ضياع اسم راي توملينسون.
والسرعة الرهيبة التي انتشرت من خلالها كوسيلة اتصال معلوماتية حديثة، لم تدع مجالاً أمامه للتفكير في مدى أهمية اختراعه، الذي فكر فيه وأحسن استغلاله القائمون على موقع "هوتميل"، التابع لشركة مايكروسوفت، والذين قدموا البريد الالكتروني خدمة مجانية للمشتركين في الشبكة، مراهنين على أن الاختراع سمة المستقبل، ولقد نجحوا في كسب الرهان.
واليوم، يستخدم ملايين الأشخاص حول العالم البريد الالكتروني، وقلة منهم فقط تذكر صانعه راي توملينسون الذي توصل إلى اختراعه مصادفة، تماماً مثل عشرات الاختراعات التي غيرت وجه التاريخ، وهو ما يتضح من خلال هذا الاستخدام الواسع له.
ولا شك في أن ذلك يؤكد أن هذا الابتكار كان حتمياً، وأنه لو لم يوجد، لكان من الضروري إيجاده.
وأن كان كل اختراع على هذه الدرجة من الأهمية يذكر ويذكر معه صاحبه فإن البريد الالكتروني يذكر وكأن وجوده من طبيعة الأمور، أما صاحبه فلا أحد يكترث له أو به حتى لو كان على درجة من العبقرية مثل راي توملينسون الذي لم يستغرق منه ابتكار وسيلة الاتصال هذه التي غيرت وجه التاريخ سوى 30 ثانية.