يا أبا ذر إنك غضبت لله فارج من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عما منعوك، وستعلم من الرابح غدا، والأكثر حسدا، ولو إن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا، لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوك (2).ذكر ابن أبي الحديد في الشرح 2: 387375 تفصيل قصة أبي أبي ذر ورآه____________(1) حديث العهد أخرجه أحمد في مسنده.(2) نهج البلاغة 1: 247.مشهورا متضافرا وإليك نصه قال:واقعة أبي ذر وإخراجه إلى الربذة أحد الأحداث التي نقمت على عثمان وقد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس: أن لا يكلم أحد أبا ذر ولا يشيعه، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به وتحاماه الناس إلا علي بن أبي طالب عليه السلام وعقيلا أخاه وحسنا وحسينا عليهما السلام وعمارا فإنهم خرجوا معه يشيعونه فجعل الحسن عليه السلام يكلم أبا ذر فقال له مروان: أيها يا حسن! ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنت لا تعلم فاعلم ذل. فحمل علي عليه السلام على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته وقال:تنح نحاك الله إلى النار. فرجع مروان مغضبا إلى عثمان فأخبره الخبر فتلظى على علي عليه السلام ووقف أبو ذر فودعه القوم ومعه ذكوان مولى أم هاني بنت أبي طالب قال ذكوان: فحفظت كلام القوم وكان حافظا فقال علي عليه السلام:يا أبا ذر! إنك غضبت لله أن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فامتحنوك بالقلى ونفوك إلى القلا، والله لو كانت السموات والأرض على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا، يا أبا ذر! لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشن إلا الباطل.ثم قال لأصحابه: ودعوا عمكم. وقال لعقيل: ودع أخاك فتكلم عقيل فقال:ما عسى ما نقول يا أبا ذر؟! وأنت تعلم أنا نحبك وأنت تحبنا، فاتق الله فإن التقوى نجاة، واصبر فإن الصبر كرم، واعلم أن استثقالك الصبر من الجزع، واستبطاءك العافية من اليأس، فدع الياس والجزع.ثم تكلم الحسن فقال: يا عماه لولا إنه لا ينبغي للمودع أن يسكت وللمشيع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف، وقد أتى من القوم إليك ما ترى، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها، واصبر حتى تلقى نبيك صلى الله عليه وآله وهو عنك راض.ثم تكلم الحسين عليه السلام فقال: يا عماه إن الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى، الله كل يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، فما أغناك عما منعوك، وأحوجهم.إلى ما منعتهم؟ فاسأل الله الصبر والنصر، واستعذبه من الجشع والجزع، فإن الصبر من الدين والكرم، وإن الجشع لا يقدم رزقا، والجزع لا يؤخر أجلا.ثم تكلم عمار مغضبا فقال: لا آنس الله من أوحشك، ولا آمن من أخافك، أما و الله لو أردت دنياهم لأمنوك، ولو رضيت أعمالهم لأحبوك، وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا والجزع من الموت، ومالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه، والملك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دنياهم، فخسروا الدنيا والآخرة، إلا ذل هو الخسران المبين.فبكى أبو ذر رحمه الله وكان شيخا كبيرا وقال: رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة!إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وآله، مالي بالمدينة سكن ولا شجن، غيركم، إني ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين (1) فافسد الناس عليهما فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله، والله ما أريد إلا الله صاحبا، وما أخشى مع الله وحشة.ورجع القوم إلى المدينة فجاء علي عليه السلام إلى عثمان فقال له: ما حملك على رد رسولي وتصغير أمري؟ فقال علي عليه السلام: أما رسولك فأراد أن يرد وجهي فرددته، و أما أمرك فلم أصغره، قال: أما بلغت نهيي عن كلام أبي ذر؟ قال: أو كلما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه؟ قال عثمان: أقد مروان من نفسك. قال: م ذا؟ قال: من شتمه و جذب راحلته. قال: أما راحلته فراحلتي بها، وأما شتمه إياي فوالله لا يشتمني شتمة إلا شتمتك مثلها لا أكذب عليك. فغضب عثمان وقال: لم لا يشتمك؟ كأنك خير منه؟قال علي: أي والله ومنك. ثم قام فخرج فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار وإلى بني أمية يشكو إليهم عليا عليه السلام فقال القوم: أنت الوالي عليه وإصلاحه أجمل.قال: وددت ذاك. فأتوا عليا عليه السلام فقالوا: لو اعتذرت إلى مروان وأتيته. فقال: كلا أما مروان فلا آتيه ولا اعتذر منه، ولكن إن أحب عثمان أتيته. فرجعوا إلى عثمان فأخبروه فأرسل عثمان إليه فأتاه ومعه بنو هاشم فتكلم علي عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه____________(1) يعني مصر والبصرة، كان والي مصر عبد الله بن سعيد بن أبي سرح أخا عثمان من الرضاعة وكان على البصرة عبد الله بن عامر ابن خاله كما مر ص 290.ثم قال: أما ما وجدت علي فيه من كلام أبي ذر ووداعه فوالله ما أردت مساءتك ولا الخلاف عليك ولكن أردت به قضاء حقه، وأما مروان فإنه اعترض يريد ردي عن قضاء حق الله عز وجل فرددته، رد مثلي مثله، وأما ما كان مني إليك فإنك أغضبتني فأخرج الغضب مني ما لم أرده.فتكلم عثمان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما ما كان منك إلي فقد وهبته لك، وأما ما كان منك إلى مروان فقد عفى الله عنك، وأما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق، فادن يدك. فأخذ يده فضمها إلى صدره، فلما نهض قالت قريش وبنو أمية لمروان:أأنت رجل جبهك علي وضرب راحلتك؟ وقد تفانت وائل في ضرع ناقة، وذبيان و عبس في لطمة فرس، والأوس والخزرج في نسعة (1) أفتحمل لعلي عليه السلام ما أتاه اليك؟فقال مروان: والله لو أردت ذلك لما قدرت عليه.فقال ابن أبي الحديد: واعلم أن الذي عليه أكثر أرباب السيرة وعلماء الأخبار والنقل: إن عثمان نفى أبا ذر أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكى منه معاوية، ثم نفاه من المدينة إلى الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام، أصل هذه الواقعة: إن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال واختص زيد بن ثابت بشئ منها جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع: بشر الكانزين (2) بعذاب أليم، ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. فرفع ذلك إلى عثمان مرارا وهو ساكت ثم إنه أرسل إليه مولى من مواليه أن انته عما بلغني عنك فقال أبو ذر: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى، وعيب من ترك أمر الله تعالى؟ فوالله لإن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي وخير لي من أن أسخط الله برضا عثمان، فأغضب عثمان ذلك واحفظ فتصابر وتماسك إلى أن قال عثمان يوما والناس حوله: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئا قرضا فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديين أتعلمنا ديننا؟ فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي، إلحق بالشام. فأخرجه إليها فكان____________(1) النسعة بكسر النون: حبل عريض طويل تشد به الرحال.(2) في النسخة: الكافرين. والصحيح ما ذكرناه كما مر عن البلاذري.
أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية يوما ثلثمائة دينار فقال أبو ذر لرسوله:إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا؟ اقبلها، وإن كاتنت صلة؟ فلا حاجة لي فيها. وردها عليه، ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر: يا معاوية! إن كانت هذه من مال الله؟ فهي الخيانة، وإن كانت من مالك؟ فهي الإسراف، وكان أبو ذر يقول بالشام، والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وآله، والله إني لأرى حقا يطفأ، وباطلا يحيا، وصادقا مكذبا، وأثرة بغير تقى، وصالحا مستأثرا عليه. فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية: إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كان لك فيه حاجة.وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية عن جلام بن جندل الغفاري قال: كنت غلاما لمعاوية على قنسرين والعواصم في خلافة عثمان فجئت إليه يوما أسأله عن حال عملي إذ سمعت صارخا على باب داره يقول: أتتكم القطار بحمل النار، اللهم العن الآمرين بالمعروف والتاركين له، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له.فازبأر (1) معاوية وتغير لونه وقال: يا جلام! أتعرف الصارخ؟ فقلت: الله لا. قال:من عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ثم قال: ادخلوه علي فجئ بأبي ذر قوم يقودونه حتى وقف بين يديه فقال له معاوية:يا عدو الله وعدو رسوله! تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع، أما إني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك ولكنك استأذن فيك.قال جلام: وكنت أحب أن أرى أبا ذر لأنه رجل من قومي فالتفت إليه فإذا رجل أسمر ضرب (2) من الرجال خفيف العارضين في ظهره حناء فأقبل على معاوية وقال:ما أنا بعدو لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله، أظهرتما الاسلام وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه وآله ودعا عليك مرات أن لا تشبع، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا ولي الأمة الأعين (3) الواسع البلعوم الذي يأكل____________(1) ازبأر الرجل ازبئرارا: تهيأ للشر.(2) الضرب: الرجل الماضي الندب.(3) في لفظ الحديث سقط كما لا يخفى.
ولا يشبع فلتأخذ الأمة حذرها منه (1). فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل. قال أبو ذر:بل أنت ذلك الرجل أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسمعته يقول وقد مررت به:اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب. وسمعته صلى الله عليه وآله يقول: إست معاوية في النار. فضحك معاوية وأمر بحبسه وكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية: أن احمل جندبا إلي على أغلظ مركب وأوعره. فوجه به مع من سار به الليل والنهار وحمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد فلما قدم بعث إليه عثمان: الحق بأي أرض شئت قال: بمكة. قال: لا. قال: بيت المقدس. قال: لا. قال: بأحد المصرين. قال: لا، ولكني مسيرك إلى الربذة فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات.وفي رواية الواقدي: أن أبا ذر لما دخل على عثمان قال له:لا أنعم الله بقين عينا * نعم ولا لقاه يوما زينا
تحية السخط إذا التقينافقال أبو ذر: ما عرفت إسمي قينا قط. وفي رواية أخرى: لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب. فقال أبو ذر: أنا جندب وسماني رسول الله صلى الله عليه وآله عبد الله فاخترت اسم رسول لله صلى الله عليه وآله الذي سماني به على اسمي، فقال له عثمان: أنت الذي تزعم إنا نقول: يد الله مغلولة وإن الله فقير ونحن أغنياء؟ فقال أبو ذر: لو كنتم لا تقولون هذا؟ لأنفقتم مال الله على عباده، ولكني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا، وعباده خولا، ودينه دخلا. فقال عثمان لمن حضر:اسمعتوها من رسول الله؟ قالوا: لا. قال عثمان: ويلك أبا ذر! أتكذب على رسول الله؟فقال أبو ذر لمن حضر: أما تدرون أني صدقت؟ قالوا: لا والله ما ندري. فقال عثمان: ادعوا لي عليا. فلما جاء قال عثمان لأبي ذر: اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص.فأعاده فقال عثمان لعلي عليه السلام: أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: لا وقد صدق أبو ذر فقال: كيف عرفت صدقه؟ قال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما أظلت____________(1) وفي حديث علي عليه السلام: لا يذهب أمر هذه الأمة الأعلى رجل واسع السرم، ضخم البلعوم.ذكره ابن الأثير في النهاية 1: 112، لسان العرب 14: 322، تاج العروس 8: 206.الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر. فقال من حضر: أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله. فقال أبو ذر: أحدثكم إني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله فتتهموني؟ ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله.وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال: رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له: أنت الذي فعلت وفعلت؟ فقال أبو ذر: نصحتك فاستغششتني ونصحت صاحبك فاستغشني قال عثمان: كذبت ولكنك تريد الفتنة وتحبها قد انغلت الشام علينا قال له أبو ذر: إتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام فقال عثمان:مالك وذل؟ لا أم لك. قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فغضب عثمان وقال: أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب، إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله فإنه قد فرق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض الاسلام.فتكلم علي عليه السلام وكان حاضر فقال: أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون فإن يك كاذبا؟فعليه كذبه، وإن يك صادقا، يصبكم بعض الذي يعدكم، إن الله يهدي من هو مسرف كذاب. فأجابه عثمان بجواب غليظ وأجابه علي عليه السلام بمثله ولم نذكر الجوابين تذمما منهما.قال الواقدي: ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ويكلموه فمكث كذلك أياما ثم أتي به فوقف بين يديه فقال أبو ذر: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله؟ ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل هديك كهديهم؟ أما إنك لتبطش بي بطش جبار. فقال عثمان: أخرج عنا من بلادنا. فقال أبو ذر: ما أبغض إلي جوارك فإلى أين أخرج؟ قال:حيث شئت. قال: أخرج إلى الشام أرض الجهاد. قال: إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها، أفأردك إليها؟ قال: أفأخرج إلى العراق؟ قال: لا إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولي شقة وطعن على الأئمة والولاة. قال: أفأخرج إلى مصر؟ قال: لا، قال: فإلى أين أخرج؟ قال: إلى البادية. قال أبو ذر: أصير بعد الهجرة أعرابيا؟ قال:نعم. قال أبو ذر: فأخرج إلى بادية نجد. قال عثمان: بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى امض على وجهك هذا فلا تعدون الربذة فخرج إليها.وروى الواقدي أيضا عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة: إن أبا الأسود
الدؤلي قال: كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة فجئته فقلت له: ألا تخبرني أخرجت منا المدينة طائعا؟ أم أخرجت كرها؟ فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم فأخرجت إلى المدينة فقلت: دار هجرتي وأصحابي، فأخرجت من المدينة إلى ما ترى، ثم قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إذ مر بي عليه السلام فضربني برجله وقال: لا أراك نائما في المسجد. فقلت: بابي أنت وأمي غلبتني عيني فنمت فيه. قال: فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: إذا الحق بالشام فإنها أرض مقدسة وأرض الجهاد. قال: فكيف تصنع إذا أخرجت منها؟ قلت: أرجع.إلى المسجد. قال: فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: آخذ سيفي فأضربهم به فقال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ انسق معهم حيث ساقوك وتسمع وتطيع. فسمعت وأطعت و أنا أسمع وأطيع، والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبي.ثم ذكر ابن أبي الحديد الخلاف في أمر أبي ذر وحكى عن أبي علي حديث البخاري الذي أسلفناه ص 295 فقال: ونحن نقول: هذه الأخبار وإن كانت قد رويت لكنها ليست في الاشتهار والكثرة كتلك الأخبار، والوجه أن يقال في الاعتذار عن عثمان و حسن الظن بفعله: إنه خاف الفتنة واختلاف كلمة المسلمين فغلب على ظنه إن إخراج أبي ذر إلى الربذة أحسم للشغب وأقطع لأطماع من يشرئب إلى شق العصا، فأخرجه مراعاة للمصلحة ومثل ذلك يجوز للإمام، هكذا يقول أصحابنا المعتزلة وهو الأليق بمكارم الأخلاق فقد قال الشاعر:إذا ما أتت من صاحب لك زلة * فكن أنت محتالا لزلته عذراوإنما يتأول أصحابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان، فأما من لم يحتمل حاله التأويل وإن كانت له صحبة سالفة كمعاوية وأضرابه فإنهم لا يتأولون لهم، إذا كانت أفعالهم وأحوالهم لا وجه لتأويلها ولا تقبل العلاج والاصلاح. انتهي.من المستصعب جدا التفكيك بين الخليفتين وبين أعمالهما، فإنهما من شجرة واحدة، وهما في العمل صنوان، لا يشذ أحدهما عن الآخر، فتربص حتى حين، وسنوقفك على جلية الحال.هلم معي إلى نظارة التنقيبقال الأميني: هل تعرف موقف أبي ذر الغفاري من الإيمان، وثباته على المبدأ، ومحله من الفضل، ومبلغه من العلم، ومقامه من الصدق، ومبوأه من الزهد، ومرتقاه من العظمة، وخشونته في ذات الله، ومكانته عند صاحب الرسالة الخاتمة؟ فإن كنت لا تعرف؟ فإلى الملتقى.المصدر كتابأبو ذر