محمد صابر فراج
محرر وكاتب محتوى ومترجم حر
مواجهة شكسبير والعقاد ومصطفى محمود مع مارك!
أول ما يبدر إلى ذهنك حين أقول لك "كاتب"، هي الصورة النمطية عن الشخص الذي لا يغادر مكتبه ليل نهار، حيث يطالع الكتب نهارًا وينكب على الكتابة ليلاً، يعيش في شرنقة بعيدًا عن الحياة الاجتماعية، ولا يلقِ بالًا بأي مجاملات عائلية أو أسرية، وغالبًا ما يكون فقيرًا معدمًا حتى تكتمل الصورة البائسة لمثل تلك الحياة التي غالبًا ما لا يهتم أحد بصاحبها إلا بعد مماته ونشر أعماله، ولا يصيبه المجد إلا بعد أن يدسه التراب.
الكاتب إنسان حساس يشعر بألم من حوله وينشر معاناتهم ويسعى في حلها بالذكر مرة وبالنقد أخرى، ومن يُوفق من الكُتاب للنجاح هو من تتوفر لديه القدرة الأفضل على تجسيد الواقع بكل ما يحمله من بؤس وشقاء أو فرح وسعادة. وهو شخص يدقق في تفاصيل كل شيء حوله ويحاول الإجابة عن أسئلة لا تخطر إلا على بال من لديه هذه الملكة الفكرية التي اختص بها الله مقدارًا ضئيلاً من خلقه، فإذا شاهد شابًّا ذبل وجهه وشابَ شعره وتحول في عنفوان عمره إلى كهل عجوز متشقق الوجه مهلهل الثياب، يندفع في عقله فورًا شلالًا من الأسئلة التي تستفسر عن تحليل منطقي لما أصاب الفتى من مصائب وصعاب أدت به في نهاية المطاف إلى تلك الحالة! وهذه عاطفة ومشاعر لا يمتلكها الكثير وهي التي تميز الإنسان عن غيره من الفصائل الحيوانية.
وبالطبع هناك دافع آخر يمكن أن يدفع الإنسان للكتابة، ألا وهو المعاناة، فشكسبير مثلاً، هجر زوجته وأولاده الثلاثة وعمل بوظيفة متواضعة داخل المسرح في سبيل التماسه لطريق الثراء إلى أن أصبح ممثلاً ومساهمًا في إحدى الفرق المسرحية، وكان قد بدأ حينها في معالجة بعض القصص وكتابة النصوص لتناسب المسرح في أواخر القرن الخامس عشر وكان يكتب بمعدل روايتين في كل عام، ومات ثريًّا مترفًا.
بينما قضى العقاد حياته في الكتابة والقراءة والتأليف والشعر والقتال في المعارك الأدبية مع معاصريه من الأدباء العظام، ولكن مطالب الحياة أجبرته على الالتحاق بأكثر من وظيفة ليسد حاجته، وما لبث أن استقال وأصبح حرًّا لممارسة الكتابة مرة أخرى، ومن هنا تميزت عبقرية وسطعت موهبته وعاش دون زوجة ولا ولد.
وهناك من تأثر بحياته الشخصية وخرج منها بأفضل ما يُمكن قراءته في الأدب المعاصر، ومنهم نجيب محفوظ وأعماله، حيث كانت الحارة هي المسرح الأساسي الذي يعيش فيه أبطال رواياته وقصصه وهي الواقع النابض بالحياة في كل تفاصيله، ولقد استمد كل مفردات الحوار وأشكال الشخصيات من أناس عاصرهم في فترة نشأته التي قضاها في حي الجمالية، ومن خلال قضاء الكثير من وقته على "القهوة" والتي كان يخصص لها جزءًا من يومه على مدى سنوات كما ذكر تفصيلاً في إحدى لقاءاته المُسجلة.
وهناك من كانت كتاباته تجسيدًا لما مر به من محطات خلال رحلته الفلسفية الفكرية، مثل الدكتور مصطفى محمود، الذي استمر بحثه عن إجابات لأسئلة وجودية لأكثر من ثلاثين عامًا، قرأ خلالها كتب التشريح والفلسفة والدين والعلم وأمّن لنا مخزونًا هائلاً من الفكر الذي سطره بلغته البسيط السلسلة، وساق لنا أمثالاً من الحياة الطبيعية ومن كلمات وحكم الفلاسفة في سياقات مميزة لا ينازعه فيها منازع، فضلاً عن 400 حلقة تلفزيونية من حلقات برنامجه "العلم والإيمان".
والمتأمل في حياة الأدباء العظام يجد أنهم قد خالطوا الناس.. تعاملوا معهم.. وتأثروا بهم، فالتصقت كلماتهم بذاكرة الكاتب، وأثرت به بل ونُقشت تفاصيلهم وتركيباتهم النفسية في مذكرات ومسودات الروايات، عاشوا وعشنا معهم حياة كاملة بين غلافي كتاب.
أما الآن فإذا فكرتَ في الاشتغال بالكتابة، فعليك أن تجد لنفسك وقتًا لمخالطة الناس ووقتًا للقراءة والتعلم والبحث، وهذا أمر سهل جدًّا في هذا العصر، فإذا بحثت في ذاكرتك ستجد أنك تعرف أكثر من 300 شخص على الأقل في حياتك، لعلك تتعجب الآن مما أقول ولكن هذه حقيقة، فقط افتح الفيسبوك! فمخالطة أصدقائك على فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي ستجعلك تكتب أعظم الروايات فشلاً وأكثر القصص رداءة، لأنك لا ترى منهم إلا ما يريدون أن يظهروه على الناس وهذا بعيد كل البُعد عن حقيقة النفس البشرية بخيرها وشرها وفضائلها ورذائلها، ولو فكر أحد ما في فعل ذلك لوجدنا كُتابًا يكتبون عن مناقب الذي لديه ما يزيد عن 3000 متابع على فيسبوك وتويتر وعن منّ كانت صفحته الشخصية عامرة بمنشورات الأطفال المفقودين ومنشورات على شاكلة "إذا لم تنشرها، فأعلم أن الشيطان قد منعك" وغيرها الكثير من أصناف وأنواع الخير الإلكتروني المحفوظ على صفحات الويب.
تسلبنا التكنولوجيا الحديثة كل يوم خصلة من خصل الاتصال الإنساني البشري الذي تعودنا عليه، ولربما مرت بنا الأيام حتى يجد كل منا نفسه في جزيرة منعزلة يحدها الإنترنت من كل جانب، فيتواصل مع زوجته على واتسآب ويتابع أخبار أولاده من فيسبوك ويشاهد صور أصدقائه على إنستغرام ويهنئ زملاء العمل على الترقيات الجديدة من خلال بطاقات لينكيدإن.. وحينها فقط سنصبح مسوخًا أو أنصاف بشر، حولتهم وسائل التواصل إلى عبيد مسيرة تلهث خلف الإعلانات وتقتات على فُتات الشائعات وفضائح المشاهير، وتصبح وسائل التواصل الاجتماعي؛ وسائل انقطاع إنساني والذي بدوره يقتل روح الكاتب ويخنق روح القارئ بداخل كل من فينا.
ومن هنا أنصح بعدم تضييع الوقت في اللهو الإلكتروني ومتابعة أحدث المنشورات، فلماذا لا نأخذ من هذه الوسائل الحديثة خيرها ونطرح شرها، ولو أننا قضينا بعض الوقت كل يوم في الاتصال البشري الطبيعي، لوجدنا الكثير من الراحة النفسية، فضلاً عن الخبرات الحياتية المكتسبة والتجارب التي نضيفها إلى حصيلة المعرفة لدينا، فالاختلاط مع البشر كما تصوره زميلة لنا "هو رحلة صيد وجدانية" تغنم فيها بالكثير والكثير من الفوائد التي لا حصر لها، ولأن كلنا نلهث في دوامة المطالب التي لا مخرج منها، ولأن وحش العمل والمشاغل الشخصية لن يتركا لك وقتًا لأي شيء، فاصنع أنت خبرتك وتحكم أنت بحياتك واقرأ قصص الآخرين حتى تعرف كيف تكتب قصتك.