مهنة (اللمبچي) هي واحدة من المهن التراثية العراقية المنقرضة، يتذكرها آباؤنا وأجدادنا في بغداد والمحافظات قبل
دخول الكهرباء والإنارة للمدن، حيث كانت مهنة هذا الشخص (اللمبچي) هي إيقاد مصابيح الشوارع والأزقة (اللمبات
النفطية) لإنارتها ليلا، وكان ممارس هذه المهنة يتلقى راتباً شهرياً من البلدية لقاء هذا العمل،إسوة بالچرخچي ومأمور
البلدية وغيره.
ومهنة (اللمبچي) مأخوذة من (اللمبة) التي هي المصباح النفطي (الفانوس) التي تستخدم آنذاك في الازقة، وعادة ما
يكون عامل هذه المهنة طويل القامة حتى يستطيع ان يصل الى (اللمبات) التي كانت تنتشر في ازقة بغداد او (درابينها)
التي تشبه الفوانيس أو (اللالة)،وبعد غروب الشمس يأتي اللمبجي ومعه سلّم يصعد عليه ليمسح زجاج اللمبات ويضع
في خزانها الصغير نفطاً ويوقدها، وهذه كانت منتشرة في عدة أمكنة من المحلة البغدادية لتنير الدرب لمن يخرج ليلا أو
يعود لداره، في وقت الليل.
الملا عبود الكرخي
من منا لا يعرف الملا عبود الكرخي؟ فهو غني عن التعريف، خاصة لمن عرف وتذوق القصائد الشعبية البغدادية، مارس
شاعرنا الكرخي مهناً عدة منها الزراعة والتجارة والصحافة حيث أصدر جريدته الشهيرة (الكرخ) التي أغلقت مرات عدة
بسبب مواقف صاحبها السياسية الإنتقادية اللاذعة للحكومة، حيث لم يدع الكرخي مظهراً من مظاهر الحياة البغدادية لم
يتناوله بالنقد والسخرية والحماس والمديح والهجاء حتى لقب بحق أمير الشعر الشعبي البغدادي.
من القصائد التي إشتهر بها الملا عبود الكرخي قصيدة (المجرشة)* التي غنى أبياتاً منها مطرب العراق الكبير
محمد القبنجي، والتي يصف الكرخي فيها مشاعر إمرأة ريفية مقهورة لا عمل لها سوى جرش وطحن الحبوب يوماً
بعد يوم كي ترضي زوجها عديم الرحمة، والقصيدة الأخرى الشهيرة للكرخي هي قصيدة (داود اللمبچي) وقيل أن أول
من غناها مطرب المقام المعروف رشيد القندرجي، ولكنها لم تسجل على (قوان) او اسطوانة، وكان قراء المقام من
اليهود الاكثر ألحاحا في ترديد هذه الاغنية ولا يعرف لماذا..
اما المطرب يوسف عمر المعروف بذكائه وحساسيته المفرطة في اداء النمط الغنائي الشعبي الاصيل فقد غنى هذه الاغنية
في حفلة خاصة (يقال انها بحضور وزير الصحة آنذاك)، وانها سجلت من دون علمه، فذاعت واشتهرت وقيل إن مغنيها
يوسف عمر لم يعلم بتسجيلها في غفلة من الأمر فكان الذي كان ودارت على كل شفة ولسان.
مع العلم ان هناك العديد من الاغاني المماثلة في ذلك الوقت مثل (عفاك.. عفاك على الفند (قوة الارادة)
العملتينو، انا تعبتو وانا شقيتو، وعلى الحاضر اخذتينو).
المتحف البغدادي/ اللمبچي
من هو داود اللمبچي؟
هو شخصية معروفة في منطقة الميدان ببغداد الشهيرة بتواجد دور الدعارة (المبغى العام) وتسمى المحلة بالصابونچية،
وكان اللمبچي داود يمارس هناك مهنتين، الأولى هي (لمبچي) المنطقة الذي ينير الأزقة ليلا ليسهل دخول وخروج
الزائرين!!
وفي إحدى الأيام كان الملا عبود الكرخي جالساً في مقهى مجاور لمنطقة الميدان، وإذا بجنازة كبيرة تخرج من المبغى
العام، تتبعها جوقة من المومسات باكيات نادبات لاطمات، وتملّك الفضول شاعرنا الكرخي فسأل عن الفقيد الراحل، فقيل
له بأنه داود اللمبچي، صاحب المهنتين في الميدان!! ..
أثار الموضوع الملا عبود وهزّه لكي ينظم قصيدة ذاعت شهرتها في الآفاق، بالرغم من عدم تدوينها في جريدة أو مجلة
أو ديوان بل تداولها البغداديون يتندرون بها في مجالسهم الخاصة، ورسخت في موروثهم الشعبي غير المدوّن، ولكن
القصيدة نشرت فيما بعد للمرة الأولى في ديوان الكرخي الموسوم (ديوان الأدب المكشوف) الذي ضم غرر قصائده في
الأدب المكشوف وطبعت منه نسخ معدودة في منتصف القرن الماضي ببيروت ولم يتداول بين الناس إلا نادراً جداً حتى
ظهرت منه نسخة كاملة جرى تصويرها بطريقة الإستنساخ وبيعت بسعر زهيد خلال تسعينيات القرن الماضي في بغداد.
كما قام المحامي عبود الشالجي بإدراجها في موسوعته الشهيرة (موسوعة الكنايات العامة البغدادية).
ماذا تقول الأغنية؟
وهذه بعض ابيات من القصيدة :
مات اللمبجي داود وعلومه كومو اليوم دنعزّي فطومه..
مات اللمبجي داود وَيْهوّه ويهوّه عليكم يهل المروّة..
دلالات القصيدة:
لقد مات اللمبچي داود وماتت معه سيرته و(علومه) أي أخباره، فقوموا بنا كي نعزي فطومه. وفطومه هي فطومه
الصمنجي زوجة داود اللمبجي التي تزوجت من بعد وفاته بإبراهيم بيك الطنبوري وعاشت معه زمناً طويلا في دار
بمحلة العيواضية.
البعض يرى أن القصيدة ليست بالقصيدة "البذيئة" كما قد يتصور البعض لدى قراءتها للمرة الأولى وإنما هي صورة
إجتماعية دقيقة وساخرة لطبقة في مجتمع بغداد مارست أرذل وأقدم مهنة في التأريخ خلال النصف الأول من القرن
الماضي في محلة الميدان ببغداد والتي لصقت بها وبمحلة الصابونجية الملاصقة لها صفة الدعارة البغيضة وذلك بسبب
وجود المبغى العام فيها حتى جرى هدمه في خمسينيات القرن وبقيت صفة " الميدنلي" تطلق على كل قليل أدب وسيء
أخلاق. ... ولكن نسخا من القصيدة متداولة بين البعض تحتوي على عبارات بذيئة وساقطة،
ولا ندري هل تمت إضافتها من قبل البعض مستغلين أن القصيدة بالأصل لم ينشرها الشاعر الكرخي وإنما شاعت بين
الناس شفاها، مما أعطى الفرصة للمتصيدين أن يضيفوا او يحرفوا في كلماتها.