بسم الله الرحمن الرحيم أنّ الانسان مسافر إلى الله تعالى، وكادح كدحاً للوصول إليه والقرب منه واللقاء به، وأنّ ذلك لا يتحقّق إلاّ من خلال اتباع القرآن والعترة الطاهرة اللذين هما حبل الصعود إليه سبحانه، أشار القرآن إلى زاد هذا السفر الالهي
قال سبحانه و تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الاَْلْبَابِ) ...
أنّ الانسان له سفران:
سفر في الدنيا.
وسفر من الدنيا.
فالسفر في الدنيا لابدّ له من زاد، وهو الطعام والشراب والمركب والمال.
والسفر من الدنيا لابدّ فيه أيضاً من زاد، وهو معرفة الله ومحبّته والاعراض عمّا سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الاوّل لوجوه:
الاوّل:
أنّ زاد الدنيا يخلّصك من عذاب موهوم، وزاد الآخرة من عذاب متيقّن.
الثاني:
أنّ زاد الدنيا يخلّصك من عذاب منقطع، وزاد الآخرة من عذاب دائم.
الثالث:
أنّ زاد الدنيا يوصلك إلى لذّة ممزوجة بالآلام والاسقام والبليات، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرّة، آمنة من الانقطاع والزوال.
الرابع:
أنّ زاد الدنيا وهي كلّ ساعة في الادبار والانقضاء، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة، وهي كلّ ساعة في الاقبال والقرب والوصول.
الخامس:
أنّ زاد الدنيا يوصلك إلى منصّة الشهوة والنفس، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس، فثبت بمجموع ما ذكرنا أنّ خير الزاد التقوى.
فلنرجع إلى تفسير الآية:
لمّا ثبت أنّ خير الزاد التقوى، فاشتغلوا بتقواي يا أُولي الالباب، يعني إن كنتم من أرباب الالباب الذين يعلمون حقائق الامور، وجب عليكم بحكم عقلكم ولبّكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد، لما فيه من كثرة المنافع.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنّك لم ترصد كما كان أرصدا»
وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ خير مطيّة يمتطيها الانسان، لكي يصل إلى هدفه، هو قيام الليل.
فقال تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً)([42]). وقال تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً)([43]).
قال الطباطبائي في ظل هذه الآيات: «المراد بقيام الليل، القيام فيه إلى الصلاة. وقوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)
المراد بالقول الثقيل القرآن العظيم، والآية في مقام التعليل للحكم المدلول عليه بقوله: «قم الليل» فتفيد بمقتضى السياق، والخطاب خاصّ بالنبيّ محمد (صلّى الله عليه وآله) أنّ أمره بقيام الليل والتوجّه فيه إليه تعالى بصلاة الليل، تهيئة وإعداد لكرامة القرب وشرف الحضور وإلقاء قول ثقيل، فقيام الليل هي السبيل المؤدّية إلى هذا الموقف الكريم»
لكن عندما أراد أن يوسّع الخطاب ليشمل غير النبيّ محمد (ص) من المؤمنين، بعدما كان صدر السورة مختصّاً به (صلّى الله عليه وآله)
قال تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً)
حيث إنّه من الممكن أن تكون هذه إشارة إلى ما تقدّم في أوّل السورة من الآيات الحاثّة إلى قيام الليل والتهجّد فيه،
لذا ورد عن الامام العسكري (عليه السلام): «إنّ الوصول إلى الله عزّوجلّ سفر لا يدرك إلاّ بامتطاء الليل»
فتحصّل إلى هنا أنّ أفضل مركوب يمتطيه الانسان للسير إلى الله تعالى واللقاء به هو قيام الليل، وأنّ أفضل الزاد هو التقوى، وأنّ أفضل طريق هو الصراط المستقيم. وبهذا يتّضح دور التقوى في حياة الانسان، وأين موضعها في منظومة المعارف الدينية، إذ كثيراً ما يقع الحثّ على التقوى من دون أن يتّضح للسالك إلى الله تعالى موقع ذلك وموضعه.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :
«أوصيكم عباد الله بتقوى الله، التي هي الزاد وبها المعاذ، زاد مُبلغ ومعاذ منجح، دعا إليها أسمع داع، ووعاها خير واع، فأسمع واعيها، وفاز داعيها.
عباد الله إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزَمَتْ قلوبهم مخافته، حتى أسهرتْ لياليهم، وأظمأت هواجرهم، فأخذوا الراحة بالنَصَب، والرَيّ بالظمأ، واستقربوا الاجل، فبادروا العمل وكذّبوا الامل، فلاحظوا الاجل»
«اعلموا عباد الله أنّ التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل، لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه، ألا وبالتقوى تقطع حمّة الخطايا، وباليقين تُدرك الغاية القصوى.
عباد الله، الله الله في أعزّ الانفس عليكم، وأحبّها إليكم، فإنّ الله قد أوضحَ لكم سبيل الحقّ وأنار طرقه، فشقوة لازمة، أو سعادة دائمة، فتزوّدوا في أيّام الفناء لايّام البقاء، قد دُللتم على الزاد، وأمرتم بالظعن، وحُثثتم على المسير، فإنّما أنتم كركب وقوف، لا يدرون متى يؤمرون بالسير، ألا فما يصنع بالدنيا مَنْ خُلق للآخرة، وما يصنع بالمال مَنْ عمّا قليل يُسلبُه، وتبقى عليه تبعته وحسابه»
«وأوصاكم بالتقوى، وجعلها منتهى رضاه، وحاجته من خلقه، فاتّقوا الله الذي أنتم بعينه، ونواصيكم بيده، وتقلّبكم في قبضته، إن أسررتم عَلِمَه، وإن أعلنتم كتَبَه، قد وكّل بذلك حَفَظة كراماً لا يسقطون حقّاً، ولا يثبتون باطلاً.
واعلموا أنّه من يتق الله يجعل له مخرجاً من الفتن ونوراً من الظلم، ويخلّده فيما اشتهت نفسه وينزله منزل الكرامة عنده، في دار اصطنعها لنفسه، ظلّها عرشه، ونورها بهجته، وزوّارها ملائكته، ورفقاؤها رسله، فبادروا المعاد وسابقوا الآجال. فإنّ الناس يوشك أن ينقطع بهم الامل، ويرهقهم الاجل، ويُسدّ عنهم باب التوبة.
فقد أصبحتم في مثل ما سأل إليه الرجعة من كان قبلكم، وأنتم بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم. وقد أوذنتم منها بالارتحال، وأمرتم فيها بالزاد.
واعلموا أن ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار، فارحموا نفوسكم، فإنّكم جرّبتموها في مصائب الدنيا. أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه، والعثرة تُدميه، والرمضاء تحرقه؟ فكيف إذا كانبين طابقين من نار، ضجيع حجر وقرين شيطان؟
أعلمتم أنّ مالكاً إذا غضب على النّار، حطّم بعضها بعضاً لغضبه، وإذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعاً من زجرته»
«معاشر الناس، اتّقوا الله، فكم من مؤمل ما لا يبلغه، وبان ما لا يسكنه، وجامع ما سوف يتركه، ولعلّه من باطل جمعه، ومن حقٍّ منعه، أصابه حراماً، واحتمل به آثاماً، فباء بوزره، وقدِم على ربّه آسفاً لاهفاً، قد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين»
«تجهّزوا رحمكم الله! فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقِلّوا العُرجة على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد، فإنّ أمامكم عقبةً كؤوداً، ومنازل مخوفة مهولة، لابدّ من الورود عليها، والوقوف عندها، واعلموا أنّ ملاحظ المنيّة نحوكم دانية، وكأنّكم بمخالبها وقد نشبت فيكم، وقد دهمتكم فيها مفظعات الامور، ومعضلات المحذور، فقطِّعوا علائق الدنيا، واستظهِروا بزاد التقوى»
عن مفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) فذكرنا الاعمال، فقلت أنا: ما أضعف عملي، فقال: مه، استغفر الله، ثمّ قال لي: إنّ قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى. قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال: نعم مثل الرجل يطعم طعامه ويرفق جيرانه ويوطئ رحله ] كناية عن كثرة الضيافة وقضاء حوائج المؤمنين، بكثرة الواردين إلى منزله [فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى. ويكون الآخر ليس عنده، فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه»