اختلف النّقاد والهاوون وعلماء الأدب والفنّ في تعريف السينما. كم أمرٌ محيرٌ بالفعل. ما هو هذا الكيان العجيب؟ فعل ساحر إلى هذه اللحظة للجميع بدون استثناء؛ للكاتب الحالم، للسيناريست الثرثار، للمخرج الذي يُبدع كل مشهد وكأنه فلذة لكبده. لكن ما استطاع أن يتعرف عليه الجميع فقط هو بعض الأدوار التي تقوم بها السينما. ومن تلك الأدوار هو الدور الاجتماعي للفيلم.
بدأت السينما الغربية بداية شبه اجتماعية. فكان جوهر الأفلام في الولايات المتحدة وإنجلترا يدور حول القيم الاجتماعية المثالية (الإنسانية) المُختفية من المجتمع، والتي نحن في حاجة ماسّة لعودتها مجددًا.
وعلى سبيل المثال – لا الحصر- في موجة أفلام شارلي شابلن في الربع الأول والثاني من القرن العشرين، نجده في “الطفل” يحصر قيم الرضا والخير والجمال والحنان ورعاية الأطفال في طبقة الفقير. الرجل الفقير العاطل عن العمل والذي يلجأ عادة إلى الحيل البسيطة لكسب عيشه في مجتمع يتألف من أغنياء جدًا وفقراء جدًا.
مع تكنيكات مطاردة احترافية ومشاهد إنسانية مؤثرة حتى الآن. وتابع في “السيرك” صرخة الفقراء في مجتمع لا يلتفت إليهم بنظام اقتصادي يسبب الكساد للملايين.. ووصلت حالة الرفض والمقاومة تلك للنظام العالمي في “الديكتاتور” حين أظهر الحضارة الحديثة في صراعها الدموي وهي تسحق الأخلاق والإنسانية بمنتهى القسوة والعنف.
تعالت تلك النزعة في السينما الغربية إلى تحدّ كبير لجلّ المؤسسات البرجوازية للحضارة المعاصرة، حتى وصل الأمر للطعن في المؤسسة القضائية نفسها في الفيلم الملحمي 12 Angry Men.. قصة الفيلم المثيرة عن اثنى عشر رجلًا من هيئة المحلفين تأتمنهم المحكمة في قضية قتل شاب لوالده.
القضية تبدو واضحة جدًا والجميع مستعد على التصديق على حكم الإعدام في أول خمسة دقائق من المناقشة عدا واحد… وبالتحليل المنطقي والعلمي الذي دام لأكثر من أربعة ساعات، استطاع هذا الشخص أن يثبت عكس زعمهم بإثباته براءة المتهم.
الفيلم كان لطمة قوية للنظام، تلك الكلمة التي تم ذكرها في الفيلم في دلالة واضحة حينما قال أحد أعضاء تلك الهيئة “إنه النظام… هكذا يعمل” اثبت الفيلم أنه حتى الأغراض الأخلاقية للمؤسسات في المجتمع الحديث أغراض لا أخلاقية، بحيث أن حبكة الفيلم أظهرت أن كل مُحَلّفٍ جزم في البداية بأن الشاب قاتل “مذنب” كان وراء زعمه ذاك سببًا لا أخلاقيًا ولا موضوعيًا…
وفي موجة أفلام – ما بعد الحداثة – يأتي فيلم Fight Club في قمة تلك الأفلام التي تُعبّر بمنتهى السخط والتعرية للنظام العالمي للرأسمالية وحالة القرف العام من تسليعها لكل شيء. بل – ولأول مرة – بالمقاومة وإثارة الفوضى.
“أحسست بالرغبة في تحطيم شيء جميل.أردت أن أحرق غابات أمطار الأمازون، أن أرش الكلوروفلوروكاربون في طبقة الأوزرون، وأنا أضرب ذلك الفتى، تمنيت أن أدفن رصاصة بين عيني كل دب باندا مهدد بالانقراض ولم يستطع الحفاظ على سلالته، وكل حوت ودرفيل استسلم وألقى بنفسه على الشاطئ، أردت أن أستنشق الدخان أردت أن أقتل السمك الذي لن آكله، ,وأدمر الشواطئ الفرنسية التي لن أراها أبداً. أردت للعالم كله أن يبلغ الحضيض.”
ويحتوي الفيلم على اقتباسات كاملة من الرواية المأخوذ عنها لتشاك بولانيك تتكلم ببساطة وبراعة عن فساد النظام وخلقه لأجيال كاملة بلا قضية أو هدف أو معنى أو حتى وجود…
“جعلت الإعلانات هؤلاء القوم يطاردون السيارات والثياب التي لا يحتاجون إليها. هناك أجيال ظلت تعمل في وظائف تكرهها فقط لتستطيع شراء أشياء لا تحتاج إليها.. لا توجد حروب عظيمة في جيلنا ولا كساد عظيم.. لكن لدينا حرب عظمى للروح.. لدينا ثورة عظمى ضد الثقافة. الكساد العظيم هو حياتنا.”
“نحن أطفال التاريخ الأوسطين الذين ربانا جهاز التليفزيون وقال لنا إننا يوماً سنصير مليونيرات ونجوم سينما ونجوم موسيقى روك، لكن هذا لن يحدث، ونحن الآن نستوعب الحقيقة.”
أما الأوروبيون، فكان الاتجاه الاجتماعي للسينما نفسيًا وعميقًا جدًا ولم يكن مباشرًا كما هي عادة السينما الأمريكية. نجد أن السينما هناك لم تتناول تلك القضية بشكل مثالي (أو مجرد)، بل بشكل واقعي فيما يُعرف بسينما الواقعية الجديدة خصوصًا في إيطاليا.
ومؤخرًا، وبشكل معاصر لنفس الموجة في السينما الإيرانية كما سنتحدث عنها الآن، ظهر التذمر من المجتمع ككل عن طريق أفلام رمزية في فرنسا، كفيلم ” Carne- لحم الحصان”، قصة وإخراج جاسبر نوي، أطلق في 1991 متزامنًا مع انهيار المعسكر الشرقي. أطلق الفيلم تذمرًا قويًا وتعبيرًا صادمًا جدًا عن فشل المجتمع الحديث. جزار لحم الحصان الذي يعيش مع ابنته الوحيدة بلا أم. علاقته المملة بابنته التي لا تتحدث تقريبًا. واضمحلال المجتمع من حوله ومن حولها.
ربما يأتي الفيلم الملحمي Babel في العام 2006 كأول فيلم يأخذ بُعد اجتماعي “عالمي”. أي أنه ناقش الظلم الرأسمالي تلك المرة في إطار عالمي. وفي ترابط روائي مُحكم أتى بنماذج إنسانية من المكسيك والولايات المتحدة إلى المغرب فاليابان، بحركات رشيقة بين الشرق والغرب، بين الغنيّ والفقير، بين الرفاهية والقهر، بين الطفولة والمراهقة والنضج الكامل ليضع أمامنا تذمّر جديد بصيغة عالمية يمكن قراءَتها بكل اللغات. ويمكن تقبلها وفهمها عند كل الثقافات.
ربما يأتي الفيلم الملحمي Babel في العام 2006 كأول فيلم يأخذ بُعد اجتماعي “عالمي”. أي أنه ناقش الظلم الرأسمالي تلك المرة في إطار عالمي. وفي ترابط روائي مُحكم أتى بنماذج إنسانية من المكسيك والولايات المتحدة إلى المغرب فاليابان، بحركات رشيقة بين الشرق والغرب، بين الغنيّ والفقير، بين الرفاهية والقهر، بين الطفولة والمراهقة والنضج الكامل ليضع أمامنا تذمّر جديد بصيغة عالمية يمكن قراءَتها بكل اللغات. ويمكن تقبلها وفهمها عند كل الثقافات.
وتضرب إيطاليا في العام 2013 بفيلم The Great Beauty بمشاهد طويلة وشاعرية وعميقة جدًا تعبر عن تفسّخ المجتمع البرجوازي من القمة، وتيه الطبقة الوسطى وانتهاء دورها في التاريخ. ويأتي ذلك في إطار مسرحي عريض وشاعري جدًا وجوًا برجوازيًا من الاحتفالات والمرح الغير مفهوم.
من هذا العرض السريع تجد أن السينما الغربية قد عبّرت عن مقاومتها لحضارتها الحديثة القائمة بشكل يتضمن اعترافًا بأن المشكلة عندهم من الداخل، وليست طارئة عليهم من معسكر آخر أو من خارج أدواتهم.
السينما الشرقية والصراع مع المجتمع البرجوازي
أيران تدخل المضمار بشكل مختلف
الطفل والفقر
استطاعت إيران في موجة جديدة قادها المخرج الإيراني داريوش ميهرجيو بفيلمه “البقرة – 1969” أن يؤسس لتيار سينمائي يحمل في طيّات فنّه تقديم صورة دقيقة وواقعية لحال الطبقة العاملة والكادحة في إيران. مُنِع الفيلم في وقتها من العرض في نظام الشاه بحجّة أنه يشوه صورة إيران العصرية ولكنه عُرض في مهرجانات خارج إيران.
تمرّ السنوات لتواجه إيران في العقود الأخيرة تضييقات أمنية فظيعة خصوصًا في مجال السينما. وتقييد النساء بأزياء معيّنة عند التمثيل. لم يمنع هذا، وخصوصًا في العشرين سنة الأخيرة، المخرجين الإيرانيين من إظهار الواقع المُزري للطبقة الكادحة في إيران، بل والتذمر المباشر أو غير المباشر من البرجوازية الحاكمة هناك ومسؤوليتها عن تلك الأوضاع.
وكانت طريقة التناول الإيرانية للبعد الاجتماعي هي طريقة رصد التغيرات النفسية وتفاعلات الإنسان البسيط مع واقع النقص الحاد في كل شيء. النقص في الغذاء، الصحة، المال، السند الاجتماعي، النقص في الأمن، السكن، وحتى العلاج.. ظهرت لنا أفلام ذات مستواُ فنيًا عال يرصد تغيرات الحياة اليومية غير المُنتهية، بحيث أن يكون العمل في ذاته صرخة كبيرة باتساع فيلم كامل واعتراض على هيئة قصة على ظلم الحياة والظروف القاسية التي تفرضها على طبقات وفئات اجتماعية رهيبة.
البالون الأبيض – 1995
فيلم للمخرج جعفر بناهي. وبطلة الفيلم صغيرة لم تصل إلى الثامنِة بعد. وهي فتاة من الطبقة الكادحة الإيرانية.
اختار المخرج الأطفال لبطولة الفيلم. الطفل هنا لا يُعبّر عن ظاهرة الكدح والفقر بشكل أحادي أو منفرد، وإنما يُقدّم معها فَنّ المقاومة. يعرف الأطفال بالحيلة والحماسة المستمرة الغير منقطعة. أما الكبار، فيبدو عليهم التعب والملل من الظروف المعيشية ورفض عمليات التغيير ومقاومة المحاولات الثورية اليومية للأطفال في انتزاع مكاسب بسيطة.
راضية تحاول شراء سمكة زينة “ذهبية”. استعانت في رحلتها تلك بالحماسة وبالأطفال. على مدار الفيلم، صراع مُلهم من الأطفال لانتزاع شيء أحبوه، وكفاح يوميّ في سبيل تحقيق الحلم. حتى الأطفال لا يتقيدون كثيرًا باللباس المفروض على المرأة الإيرانية هناك، وبذلك يبدون أكثر تحررًا وانطلاقًا وقدرة على الثورة وتحليل الأحلام الإنسانية اليومية البسيطة.
أطفال السماء – 1997
الأطفال مرّة أخرى.. بعد عامين فقط من “البالون الأبيض”، على نفس لونه يأتي الفيلم الذي كاد أن يحصل على الأوسكار في عامه كأفضل فيلم أجنبي لولا ترّشحه مع فيلم “الحياة الجميلة” الإيطالي في نفس العام، أحد أفلام “مجيد مجيدي” عن طفلين يتحمّلانِ ظروف قاهرة. أب فقير يتحمّل بالكاد تجميع ثمن حذاء جديد لابنته. ضيّق الخلق كضيقِ الحال. وأمّ مُتعبة مستسلمة تحاول أن تستر بيتًا في ظروف معيشية قاهرة.
تأتي الحبكة وحسّ المطاردة التي يُشعرنا بأننا نعود إلى “الطفل – لشابلن” في جو مرح ومؤلمٍ في نفس الوقت، عندما أضاع “علي” حذاء أختِهِ “زهرة” الجديد. واضطرها أن يخفيا عن أبيهما ويستعملانه معًا في حيلة ذكية وممتعة.
يُمكن أن يُلاحظ المشاهد لأول مرة عدم احترافية أبطال هذا النوع من الأفلام. وهذا طبيعيّ جدًا، بل ومطلوب. لأن تلك النوعية من الأفلام التي تربط بين الفقر والأوضاع النفسية والاجتماعية اليومية تنتمي لمدرسة الواقعية الجديدة والتي تحبّذ اتخاذ أبطال من بطن الواقع بعيدًا عن أي افتعال أو حتى احتراف تشخيصيّ “تمثيليّ”.
إذاً الأطفال مرة أخرى. هم الأبطال. أبطال مجهولون بالفعل. لديهم من القوة ما قد نضب عند الكبار. لديهم الحسّ الثوري المتمرّد على الفقر والذي يعي جيدًا أن هنالك ظلم اجتماعي كبير يقع عليهم. ويتم التعبير عن ذلك من خلال عدة لقطات ومشاهد قوية ومركزة على عيون الطفلة “زهرة” وهي تنظر لقريناتها في المدرسة الأفضل حالًا منها. تنظر على أحذيتهنّ وملابسهنّ الزاهية. وتتكلم عيونها بغضب عن أن تلك الظروف لا دخل للأطفال بها، وإنما من صنع الكبار، ولا بد أن تتغير.
زمن الخيولِ المخمورة – 2000
بعد ثلاثة أعوام عن أطفال السماء، يأتي فيلم متوسّط الجودة للمخرج القدير “بهمان قبادي” ليتناول قضية الأكراد الذين يعيشون على العمل في التهريب على الحدود. ولم يكن هذا أول فيلم يتناول قضية الأكراد بدون تحرّج. الفيلم ينتمي أيضًا لفئة الأفلام الواقعية الشديدة والمؤلمة، ويستخدم الأطفال في توضيع المعاناة الواقعة على عائلة مكونة من خمسة أبناء يعيشون حياة مريرة من الكدح والفقر والعمل في التهريب. مع أبٍ مريض وعاجز وأمٍ ميتة.
بطل آخر يظهر بجانب الأطفال، وهو الحيوان. تلك الخيول التي يضطر الأطفال لسقيها الخمر حتى تتحمل العمل بأكبر قدر من البضائع فوق أعناقِها.
Ten – 2002
بعد عامين إضافيين، تأتي لنا عبقرية من نوع خاص جدًا لم تعتد عليه السينما الإيرانية.
عمل جديد يدمج بين الواقعية الشديدة، بين الدراما المحبوكة والسينما التسجيلية، الفيلم ساحر بالمعنى الحرفيّ للكلمة، وشاحذ عظيم للعقل والوجدان معًا من إخراج عباس كايرستامي. وبطولة مانيا أكبر وأمين ماهر.
ترشح الفيلم لجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي لعام 2002، وحصل على المركز 447 من ضمن أفضل 500 فيلم في التاريخ الإنساني حسب تصنيف مجلة “إمباير” البريطانية لعام 2008. ورقم 47 في قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما لنفس المجلة في العام 2010.
شابّة مُطلّقة لديها سيارة خاصة وابن جميل من طليقها يعيش معها هي وزوجها الجديد. على مدار اليوم، يتناوب على ركوب السيارة معها عشرة من الأشخاص. سيدهشك التنوع الرهيب في هؤلاء الذين تصاحبهم البطلة معها على مدار الفيلم. كانت منهم “مومساء”!! ويُقال أنها مومساء حقيقية من شوارع إيران! وكان الحوار معها شيقًا وعاصفًا ذهنيًا ممتعًا وشخم جدًا.
في هذه المرة لم يكن الطفل هو البطل، وإنما هو بداية الحكاية ونهايتها.
المذهل في الفيلم قدرة الطفل الحوارية العفوية في الفيلم. إن لم تكن قد شاهدت هذه الدراما الشيقة سوف يفوتك الكثير عن قدرة الأطفال على المناورة وتعقل الأمور. ويستطيع الطفل – هذه المرة من خلال التذمر والغضب – في استعراض المشاكل الاجتماعية للطبقة الوسطى في إيران. كما تستكمل بقية الشخصيات استعراض صورة كاملة عن هذه الطبقة. وكيف أن بها شرخ بنيوي أخلاقي واجتماعي، وتفضح هشاشة البرجوازية وضعف معاييرها في الحياة.
“أنا أعلم ما تريدي أن تقولين.. تريدي أن تثبتي دومًا أنه من الجيد الطلاق من أبي.. تريدي أن تثبتي أنكِ كنتي على صواب وهو على خطأ.. أعلم ما الذي تودين قوله في كل مرة..”
انفصال – 2011
أحد أشهر الأفلام الإيرانية اليوم، والعالمية أيضًا.. حاصل على أكثر من ثلاثين جائزة عالمية وحاصل على الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي لعام 2011.
مثل فيلم “عشرة”، الطفل هنا شخصية محورية تدور حول وجودها القصة. بل أن الأمور تتحرك وتتقاطع وتتناقض بين أبويها بسببها. الأبنة التي تعيش مع أسرة مفككة نسبيًا. أب يرفض السفر خارج إيران لرعاية أبيه المسنّ. مشاعر قوية وأخلاقية يبثها الفيلم في طياته لن تستطيع حبس دموعك أثناء المشاهدة.
وأم تعترف أمام القاضي أنها تريد الطلاق لأنه لا يريد السفر معها، وهي، كما قالت للقاضي بكل جرأة، تريد تربية ابنتها في ظروف أفضل من الظروف القاسية الموجودة التي تخلقها البرجوازية الإيرانية من ناحية وضغوط الرأسمال العالمي من ناحية أخرى.
البداية كانت الطفلة. وكذلك النهاية بيد الطفلة. في قوة إخراجية وسيناريو عظيم يترك أصغر فرهادي مخرج العمل المشاهد في حالة قوية وشديدة من اختلاط المشاعر والتفكير في: ماذا ستختار الابنة؟؟ الأب أم الأم؟؟ إيران أم أوروبا؟
المصدر
www.arageek.com