على بُعد أمتار معدودة، وفي الوقت الذي كان فيه الفنان العراقي كاظم الساهر فوق ركح مسرح الهواء الطلق حسني شقرون بوهران يشقّ بصوته سكون الليل، ومن أمامه آلاف الأشخاص جاءوا من كل حدب وصوب لتذوق قصائده الغنائية، والتمتع بفُرجة الأضواء التي سخّرتها الجهات المنظمة، اضطر أطباء عيادة التوليد ''نوّارة فضيلة''، للاستنجاد بالشموع وأضواء أجهزة هواتفهم المحمولة، بعد أن باغتهم الانقطاع المفاجئ للتيار الكهربائي، راخيا سُدول الظلام، وفارضا عتمة دامسة أرعبت بعض الحوامل اللائي كدن أن يضعن حملهن من شدة التوتر وفرط الخوف، ليس من ألم المخاض وأوان وقت الولادة.
هذه مفارقة واحدة من مئات المفارقات التي تتكرر بصفة يومية في قوالب ومشاهد مختلفة ونحن بصدد الاحتفال بخمسينية الاستقلال، التي أُريد لها أن تكون في شكل سيناريو حرق للملايير في السماء عن طريق ألعاب نارية استغرقت فرقعتها وأضواؤها دقائق معدودة، ولكنها في نهاية المطاف كبّدت خزينة الدولة اعتمادات مالية ضخمة كانت كافية لبناء مصانع صغيرة بإمكانها توفير مناصب شغل لآلاف الشباب العاطلين الذين يضطرون إلى ركوب البحر وامتطاء قوارب صيد، مُعرضين أرواحهم لخطر الموت، غير آبهين بالمصير الدرامي الذي واجهه المئات من نُظرائهم، ممّن قضوا نحبهم في عُمر الزهور، وهم لقمة سائغة للحيتان، أو جثث متفسخة تتلاطمها الأمواج كل حين، وفي كل اتجاه.
هذا الكلام لا يعني بأني أُعارض الاحتفال، خاصة إذا تعلق الأمر بمناسبة عزيزة على قلوبنا جميعا، نتباهى فيها باسترجاع سيادة بلادنا واستقلالها بعد 231 سنة من التعذيب والتنكيل، ونهب الثـروات، ومحاولات بائسة لطمس الهوية الوطنية، وسلخ الشعب من لسانه العربي وانتمائه الديني، فما أحوجنا إلى الفرحة والابتسامة التي نصيبنا منها مجرد لحظات معدودة، مقابل ساعات حزن ممدودة.. ولكن هل الاحتفال بمرور خمسين سنة من الحرية والسيادة كان يستوجب تسخير هذا الكمّ الهائل من الأموال في مفرقعات وسهرات غنائية لا تسمن ولا تغني من جوع؟ المؤكد أن الإجابة ستكون بالنفي، لأن الاحتفال الحقيقي يكمن في تشييد دولة قوية قوامها مؤسسات وليس أشخاص، يُوفّر فيها الشغل لعشرات الآلاف من البطّالين، ويُضمن فيها العلاج للفقراء والأغنياء سواء بسواء، ويرقى فيها التعليم ويُبجّل فيها أهله، وتُصان فيها كرامة المواطنين دون تمييز ولا تفضيل، ويُشاع فيها العدل بالشكل الذي يكون فيه الضعيف قويا عند ولي الأمر حتى يُريح عليه حقه، والقوي ضعيفا حتى يُؤخذ الحق منه، ويكمن في تأمين مستقبل الأجيال القادمة من خلال تنويع مصادر الرزق، وليس اقتصاد مبني على مداخيل النفط، حيث نتنفس كلما التهبت في البورصة العالمية، ونشدّ الحزام كلما تراجعت أسعارها في الأسواق الدولية.
إن الأريحية التي تعيشها الخزينة العمومية في الفترة الأخيرة مكنتنا هذه المرة من مشاهدة الألعاب النارية في سمائنا، وسمحت لنا بحضور حفلات نجوم الطرب العربي والعالمي في مسارحنا، لكن دوام الحال من المُحال، وعلى من يتولون أمرنا أن يفقهوا بأنه إذا تواصل الأمر على ما هو عليه، قد تدركنا سنين عجاف، عندها سنحث التراب على رؤوسنا ندما على الملايير التي أكلتها الألعاب النارية والمفرقعات، وحفلات إليسا و''الحاجة'' الزهوانية. ولكم في اليونان وإسبانيا عبرة.. اللهم إني بلغت.. اللهم فاشهد.