إن تاريخ العلم هو ليس بمجرد قصص مثيرة عن فك الألغاز المعقدة للكون والحياة، وهو ليس ببساطة قصة درامية وصراع محتدم بين الأفكار والأفراد والمؤسسات المختلفة، إن أكثر ما يميز قصة تاريخ العلم عن غيرها، هي أنها قصة عن تطور الفكر البشري، حكاية تحمل تفاصيلها تاريخ صراع البشر ضد عشوائية الكون، واجتهادهم الدائم وفضولهم في تتبع الحقيقة، قصة تبدأ كل يوم مع كل لحظة يقضيها الباحث في معمله مستخدما أدواته المعقدة لحل لغز محير، ومع كل طفل صغير تملكه الفضول، يركز كل حواسه على جسم غريب لمعرفة ماهيته.
قصتنا التي سنرويها اليوم هي قصة فريدة من نوعها، شغلت كثيرين من مؤرخي العلم لما تحويه من تفاصيل عن طبيعة العلم وتطوره، خطورة الانسياق وراء سلطة الأفكار، أهمية الشك والنقد العلمي، العلاقة بين التكنولوجيا والعلم، قصة مليئة بالدراما وصراع الأفكار امتدت لما يزيد عن 40 عاما، تلك القصة المثيرة هي قصة “عد الكروموسومات البشرية”.
إذا كنت تظن عزيزي القارئ أن قصة “العد” تلك هي قصة مملة وأنها مهمة بسيطة للغاية بالنسبة للعلماء المختصين، دعنا نفجر أولى مفاجآت قصتنا، بتوضيح أن العدد السليم للكروموسومات البشرية لم يتم تحديده بعد اكتشاف الكروموسومات مباشرة، الحقيقة ولا حتى بعد ربطها بالوراثة، وقد سبقها أيضا الكشف على أن DNA وليس البروتين المكون للكروموسوم هو المسؤول عن نقل للمعلومات الوراثية، وكذلك فرضية “جين واحد أنزيم واحد” المؤثرة في كل من علوم الكيماء الحيوية والوراثة، بل حتى بعد الكشف التاريخي عن التركيب اللولبي لل DNA عام 1953 على يد واطسون وكريك وبداية عصر علم “البيولوجيا الجزيئية”، كان عدد الكروموسومات البشرية الذي يعرفه طالب المرحلة الإعدادية “حاليا” لم يتم تحديده بعد بدقة! .. العدد السليم للكروموسات البشرية تم تحديده أواخر عام 1955 وأعلن عنه عام 1956.
بداية القصة: أجسام ملونة
ملاحظة الكروموسومات تحت الميكروسكوب بدأت منتصف القرن التاسع عشر، حيث جرب عالم الأحياء الألماني “والتر فليمينج” بعض الصبغات المشتقة من صبغات صناعة النسيج على الخلايا محاولة لكشف أسرارها وإيضاح تفاصيلها، ليكافئ بمجموعة من الخيوط لامعة بالألوان في منتصف الخلية، ويبدو أنه كان محتارا ما الاسم الذي قد يمنحه لتلك الأجسام البديعة، ليستقر فيما بعد على أن تسمى بالأجسام الملونة، لتبدأ قصة الكروموسومات، ومعاها “علم الوراثة الخلوية”.
رسومات “والتر فليمينج” للكروموسومات تعود لآوخر القرن التاسع عشر
الدراسات الأولى على الكروموسومات لم تكن مهتمة بعددها بقدر أهمية حركتها ودورها، إلا إعادة اكتشاف أعمال مندل بدايات القرن العشرين والكشف على أن لكل نوع حي عدد مميز من الكروموسومات،
أشعل السباق لعد الخيوط الملونة في الجنس البشري.
كانت التقديرات الاولية قليلة جدا وبعيدة عن الدقة، أغلبها أشار لوجود 24 كروموسوما أو 12 زوجا، إلا أن رياح التغيير هبت مجددا من النمسا على يد عالم بيولوجيا خلية يعرف بـ “هانز فون وينيوتور” ليسجل عام 1912 أن للذكور 47 كروموسوما وللإناث 48، كان إعلان وينيوتور مزلزلا، قلب الموازين، هوجم بقوة في البداية
إلا أن اكتشافه سينمو لتكون له سلطة علمية أرسطوية يحارب من يتعد عليها أو ينتقدها.
كانت العديد من عينات وينيوتور من الأفارقة وقد فتح دراساته الباب لنوع من العنصرية التي كانت متفشية حينها، حيث اعتقد البعض أن الأفارقة قد يختلفون عن العرق السامي أبيض البشرة في عدد الاجسام الملونة !
إلا أن أستاذا حفر اسمه في تاريخ علم الوراثة الخلوية سرعان ما نفى ذلك في العشرينيات حيث وضح أن لكل من البيض والسود وكل البشر العدد نفسه من الكروموسومات، كان ذلك السيد الجليل هو الأستاذ “ثيوفلوس بينتر”.
الشك العلمي ينخر صرح الأفكار القديمة
قبل الحديث عن إسهامات بينتر في حل اللغز، دعونا نوضح بعض العقبات التي واجهت كل من أقدم على عملية العد المقدسة للكروموسومات البشرية، أهمها هو سلطة الـ 48 كروموسوما التي كان يعتد بها الكثير من علماء العصر واعتمدوا عليها في أبحاثهم المختلفة، يليها غياب التكنولوجيا الضرورية للحصول على صورة واضحة للكروموسومات داخل الخلية.
يضاف إلى ذلك صعوبة الحصول على عينات بشرية طازجة لفحصها، توجد أغلب خلايا جسمنا في حالة من عدم الانقسام، وفي تلك الحالة تكون الكروموسومات مكدسة غير واضحة المعالم داخل النواة، لذى كان على العلماء انتقاء أنسجة محددة بعينها تكثر بها الخلايا التي تنقسم، حيث تصطف الكروموسومات بصورة أقل عشوائية في منتصف الخلية.
الأنسجة الموجودة بالخصية كانت الاختيار الأمثل، حيث تحوي خلايا سريعة الانقسام لتقوم بوظيفتها الرئيسية وهي إنتاج ملايين من عربات الوراثة المذيلة المعروف بالحيوانات المنوية، يمكنك تخيل صعوبة الحصول على عينات خصية طازجة حية من رجل، فكما يقص التاريخ كان على العلماء أن ينتظروا قرب أبواب العمليات الجراحية وقرب المشانق لنزع خصية طازة في سعادة غامرة مثل “جولوم” فيلم مملكة الخواتم، ويذهبوا بها سريعا إلى المعمل لفحصها.
كان بينتر أحد المحظوظين استطاع الحصول على 3 خصى من نزلاء بمستشفى الأمراض العقلية بولاية تكساس بعد عملية اسئصال لخصاويهم سبقتها نوبة جنونية من الاستمناء!
هنا واجه بينتر المعضلة الثانية وهي عدم توافر التكنولوجيا والتقنيات الضرورية لعد دقيق وواضح للكروموسومات، احتار في العد ليسجل في النهاية أنها 48 كروموسوما، لكنه سجل في ملاحظاته: ” تراوح عدد الكروموسومات في العينات التي اختبرتها بين 45 و 48 كروموسوما، إلا أن أكثر العينات وضوحا أظهرت 46 كروموسوما فقط !” ، ربما لن نعرف بالتحديد لماذا قرر بينتر في النهاية أن العدد هو 48، إلا أنه على الأغلب لم يكن مستعدا لمواجهة سلطة الـ”48″ التي أسسها وينيوتور، إلا أن تلك الملاحظة بقيت ليقرأها من يجيد الشك ويقوى على المواجهة.
الصدفة السعيدة تطرق الباب
أواخر الأربعينات وصل إلى جامعة تكساس خريج جامعة صيني باحثا عن عمل يعرف بـ “تي.سي.هسو”، بعد أن أوكلت له مهمة عد الكروموسومات في أنسجة جنينية، كعمل روتيني كان هسو محبطا في البداية حتى دقت الصدفة السعيدة على بابه ، حدث عند مشاهدته لخلايا طحال وجلد مستزرعة أن وجد الكروموسومات واضحة للغاية غير مكدسة بحيث يسهل عدها بلا جهد، وتمضي الرواية إلى أنه لم يصدق عينيه، نهض من جلسته، ذهب ليحتسي كوبا من القهوة ويهدأ، عاد مجددا ليجد أن الشرائح الاخرى كلها أيضا واضحة بديعة!
عاد هسو ليكرر عمله على مزرعة جديدة من خلايا الطحال، ليصاب بالإحباط الشديد، حيث ارتدت الكروموسومات لسلوكها المزعج من عدم الوضوح، تساءل إذا كانت تلك الخلايا تعاني من مشكلة مرضية أدت لعودتها لذاك السلوك، لكنه لم يعثر على إجابة مرضية، بعد 3 شهور من العمل المضني، قرر هسو أن يختبر بشكل منهجي المحاليل التي استخدمها في يومه المحظوظ ذاك، ليبدأ أخيرا بمساك أول الخيط لكشفه المذهل.
توصل هسو أن السحر يكمن في المحلول الملحي الذي يستخدم بكثرة في التجارب المعملية، وفي حالة هسو كان يستخدم لشطف الخلايا، عند تحضير تركيز منخفض من المحلول، ومن ثم معالجة الخلايا المستزرعة به، تتدفق المياه بالتأثير الأسموزي من الوسط الأقل تركيزا إلى الأعلى تركيزا، أي من المحلول الملحي المخفف إلى داخل أغشية الخلايا، لتنتفخ و تبتعد الكروموسومات عن بعضها، واضحة جلية جاهزة لعملية العد.
في يوم هسو المحظوظ، حضرت إحدى فنيات المعمل عن طريق الخطأ محلولا مخففا، ربما لم تمتلك تلك البطلة الحقيقة للتقنية الجديدة الشجاعة الكافية للتصريح بخطئها المذهل، ولأن الصدفة السعيدة دائما ما تكرم العقل المستعد، سجلت التقنية الجديد التي عرفت بـ “Hypotonic shock” باسم هسو، وأدت إلى أن يرتفع اسمه ومنصبه سريعا في الجامعة، وبين المجتمع العلمي ككل.
ربما تعتقد عزيزي القارئ أننا وصلنا أخيرا إلى نهاية قصتنا المثيرة، إلا أن رحلتنا لم تنته بعد، فبرغم من وضوح الصورة أخيرا، لم يكن هسو مستعدا بعد لهدم جدار سلطة الـ 48، ليؤكد في النهاية أن العدد السليم هو 48، وينتظر العالم عدة أعوام أخرى حتى سطوع الحقيقة.
الكلمة الأخيرة لعلماء النبات
كما اعتاد علماء النبات السبق في مجالات علم الوراثة المختلفة، كانت النهاية الحاسمة أيضا في مهمة عد الكروموسومات البشرية وانتعاش علم الوراثة الخلوية على يد اثنين من علماء النبات المخضرمين، الذين انتقلوا من دراسة وراثيات النبات إلى الخلايا الحيوانية، ليرصدوا التشوهات التي تصاحب الكروموسومات في الخلايا السرطانية، هذان العلمان هما ألبرت ليفان،وجو هن تيجو.
كان ألبرت ليفان عالم نبات مرموق، نشر العديد من الأوراق البحثية الهامة قبل كشفه الأكبر، منها استخدام مادة “الكولشيسين” لتقييد الكروموسومات في المرحلة المعروفة بـ Metaphase”” خلال انقسام الخلية، حيث يعرقل الكولشيسين الخيوط الدقيقة التي تسحب الكروموسومات إلى أقطاب الخلية في نهاية الانقسام، لتظل ثابتة في المنتصف لفترة طويلة، وهي تقنية لعبت دورا هاما في مهمة عد الكروموسومات.
من ناحيته كان تيجو شخصية متفردة، ربما توافرت فيه كل الصفات المناسبة للثورة على سلطة الأفكار القديمة، حيث ولد بجزيرة جاوة في إندونيسيا، وعمل كمهندس زراعي هناك وتمرس التصوير الفوتوجرافي حتى الاحتلال الياباني إبان الحرب العالمية الثانية، حيث تعرض لألوان مختلفة من التعذيب من قبل الجيش الياباني.
بعد انتهاء الحرب غادر تيجو إلى هولندا ليحصل على منحة دراسية، ويطوف من هولندا إلى كوبنهاجن إلى جامعة لوند بالسويد حيث التقى ليفان وعمل معه لسنين طويلة، ورغم التى الخلافات التى تروى عن علاقة العالمين المخضرمين، إلا صداقتهما توجت عام 1956 بورقة بحثية في دورية “Hereditas”، وفيها أخيرا الحقيقة التي ستعيد صياغة الكتب الدراسية.
بعد قرابة 4 عقود من الأخطاء، توافرت أخيرا الظروف والتقنية والأدوات، والأهم من ذلك العقول المناسبة لكشف الحقيقة، وإزالة القذى عن عيون علماء الخلايا البشرية، وتحفز الباحثين لدراسة شذوذ الكروموسومات المتعلق بالأمراض، حيث سرعان ما كشف النقاب عن سبب متلازمة داون وكلايفنتير وتيرنر، وفتح الباب أمام مشروعات الوراثة البشرية الضخمة، كمشروع الجينوم البشري.
تفصح لنا قصتنا الكثير عن طبيعة العلم والطريقة العلمية، عن كيفية تأثير غياب التقنيات المناسبة التي تعد بمثابة حواس الباحث الرئيسية في المعمل على نتائج تجاربه، عن قوة تأثير وخطورة سلطة الأفكار التي يغيب عنها دليل قاطع، إلا أنها تستمد قوتها من داعميها الكثر الذي غاب عنهم حس النقد والشك العلمي، عن كيف يمض العلم بعض الأحيان ليحقق نجاحات وتقدم وتطبيقات متطورة اعتمادا على بيانات قليلة الدقة، والأهم والأجمل عن مرونة العلم وقابليته المستمرة لتغيير الثوابت وفقا للدليل العلمي، وكيف يمكن أن تفتح الصدفة السعيدة الباب لكشف علمي مذهل.
المصادر
كتاب ” لعنة آدم: مستقبل بلا رجال..العلم الذي يكشف عن مصيرنا الوراثي”
Nature 1
WardeLab
Springer
Nature 2