ينزل الرجل إلى الشارع ليقف أمام أحد السيارات، ينظر له السائق ثم يركض نحوه ليفتح له الباب وهو يقول: “صباح الخير يا سعادة البيه”، يرد الرجل: “صباح الخير يا عم محمد”، يدخل إلى السيارة ويغلق السائق الباب *قطع* وصلت السيارة إلى مكان العمل لينزل السائق سريعًا ليفتح الباب وهو يقول: “حمدلله على السلامة يا سعادة البيه”.
يستحيل أن ترى هذا المشهد التخيُّلي في الحياة بهذا القطع، فلا يوجد في رحلة الحياة ما يمكن قطعه وإلصاقه بمشهد آخر، فالمشاهد في الحياة متتالية/ متتابعة ولا يمكن فصلها عن بعضهم البعض، وهذا ما يُسمّى بالإستمرارية.
والإستمرارية تعني أن كل شيء حولك يحدث بشكلٍ مستمر وغير متغيّر عبر الزمن، ففي الحياة أنت مُلزم بالبقاء ضمن حيّز زمني ومكاني مُحدد، فلا يمكنك أن تكون في مكانين وزمانين مختلفين في نفس الوقت لأن هذا مستحيل يفرضه علينا الحيّز المكاني/ الزماني.
لكن في السينما الأمر مختلف، ففي السينما أنت تستطيع أن تتواجد في أكثر من مكان في وقتٍ واحد، أو أن تسير في أحد الشوارع فتجد نفسك في البيت فجأة دون الإضطرار للمشي لمدة طويلة مثلًا. فهذا يتطلّب مهارة فائقة في جمع مشهدان يحدثان في نفس الوقت/ الزمن ولكن في مكانين مختلفين، وهذا ما يُسمى تحرير الأفلام (المونتاج).
المونتاج في الأصل كلمة فرنسية تعني تركيب الصور، بمعنى تركيب مشهدان يحدثان في مكانين مختلفين في وقتٍ واحد أو أوقاتٍ مختلفة وتجد رابط ما بينهم. الأمر أشبه بجلوسك على طاولة وأمامك عِدة شاشات، كل شاشة تعرض مشهدًا منفصلًا لا علاقة له بالمشاهد الأخرى، لكن عقلك يرى رابطًا بينهم بشكلٍ ما. من هنا بدأت فكرة تحرير الأفلام.

نقطة الإنطلاق


في السنوات التي سبقت عام 1895 كانت الأفلام عبارة عن مشاهد طويلة لحدث واحد يحدث في حيّز زماني ومكاني محدد، كوصول قطار إلى أحد المحطات، أو وصول أحد البواخر للمرسى، أو مشهد طويل لأحد شوارع لندن وقت الظهيرة، بلا حبكة ولا قصة ولا أي شيء.
لكن في عام 1895، ظهرت أول المحاولات لتحرير الأفلام في فيلم قصير مدته 18 ثانية بعنوان “The execution of Mary Stuart” عن إعدام ملكة اسكتلندا ماري ستوارت. في هذا الفيلم، تم استخدام خدعة التوقّف – Stop trick – وهي عبارة عن خدعة يتم فيها وقف المشهد وإستبدال الشخص بدمية ليتم قتله أو ذبحه مثلًا وبعدها يتم استكمال المشهد.
في السنوات التالية، زادت أعداد الخِدع فظهرت خدعة جديدة تم استخدامها في فيلم مدته دقيقة ونصف تقريبًا يُسمى “Attack on china mission” صدر عام 1900. استخدم هذه الفيلم لقطة دخول القوات إلى أحد المنازل بزاويتي تصوير (من الأمام والخلف) وهو أمر حدث لأول مرة في تاريخ السينما، لأن الفيلم كان أشبه بلقطات من الحياة، وفي الحياة لا يستطيع أي إنسان أن يرى المشهد بأكثر من زاوية واحدة في وقتٍ واحد، لذلك تُعدّ هذه اللقطة من أهم اللقطات التي أسست لمفاهيم جديدة في السينما.



في عام 1902، ظهر فيلم A Trip To the Moon للمخرج “جورج ميلييس” والذي أصبح في ما بعد أيقونة في تاريخ السينما، بسبب إحتواءه على الكثير من التقنيات السينمائية المبتكرة التي اكتشفها ميلييس بالصدفة. في عام 1896 كان ميلييس يصوّر حافلةً تسير في أحد شوارع لندن، لكن الكاميرا توقفت عن التصوير لخطأ ما ثم عادة مرة أخري للتصوير بعد مدة، لكن في ذلك الوقت كانت الحافلة قد غادرت وحلت محلها سيارة.
بعد رؤية ميلييس للشريط المصوّر، اكتشف أن الشريط يصوّر الحافلة وهي تتحوّل إلى سيارة في نفس اللقطة، فقرر استخدام هذه التقنية كخدعة في أفلامه لإخفاء وإظهار الشخصيات والأشياء، عُرفت هذه التقنية فيما بعد باسم “Jump cut”.
كل هذه الخِدع ظلت تتراكم ليأتي العبقري ديفيد جريفيث والذي يُعرف أيضًا بأنه “صانع هوليوود”. أسس جريفيث لما يُسمى سينما المخرج، والتي استخدم بها جميع تقنيات السينما التي يعرفها والتي ابتكرها اثناء التصوير، كتقنية تصوير حدثان يحدثان في مكانين مختلفين في وقتٍ واحد في فيلم “Enoch Arden” الذي صدر عام 1911.
حيث صورّ مشهدًا لزوجة تُفكّر في زوجها الذي نُفي إلى مكانٍ بعيد، وصوّر مشاعر الزوجان في لقطات متتالية مختلفة عن طريق تركيبهم على بعضهم البعض، بمعنى أنه استخدم المونتاج في إيصال مشاعر الزوجان ببعضهم البعض في وقتٍ واحد. يُعدّ جريفيث أول من فتح الطريق لظهور جميع التقنيات الحديثة للمونتاج التي نراها اليوم.

الروس وتجربة تحرير الأفلام


كان للروس نصيبًا أيضًا في إرساء قواعد المونتاج، فلهم تجربة مهمة يُطلق عليها تجربة “كوليشوف” تشرح كيفية ربط العقل بين مشهدين متتاليين حتى لو كانت المشاهد لا علاقة لها بما بعدها. التجربة كانت عبارة عن عرض ثلاثة مشاهد لرجل واحد بنفس تعبير الوجه يليها ثلاث مشاهد أخرى، الأول مشهد طبق مليء بالطعام، والثاني مشهد لدمية في صندوق، والمشهد الثالث لامرأة مُستلقية على أريكة.
عُرضت هذه المشاهد على بعض المشاهدين، كانت آراء المشاهدين في كل مشهد مختلفة، ففي المشهد الأول الذي يتلوه مشهد طبق الطعام ربط عقل البشر بين الرجل والطعام فقالوا أن الرجل جائع، وفي المشهد الثاني – مشهد الدمية – قالوا بأن الرجل يشعر بالحُزن، وفي المشهد الثالث – مشهد المرأة المُستلقية – قالوا بأن الرجل يشعر بالشهوة، على الرغم من إن تعابير وجه الرجل لم تتغير في المشاهد الثلاثة إلا أن عقل المشاهدين ربط بين الرجل وما يظهر بعده بشكلٍ فوري، وهو ما اعتمد عليه معظم المخرجين فيما بعد.
أول من اعتمد على هذا الأمر في الأفلام كان المخرج الروسي “سيرجي آيزنشتاين” الذي قال يومًا ما أن السينما هي فَنّ المونتاج. اعتمد آيزنشتاين في فيلمه الأشهر “المدمرة بوتمكين” عام 1925 تقنية جديدة وهي استخدام تحرير الأفلام في التعبير الرمزي. هناك مشهد في الفيلم لمجموعة من البحارة الغاضبين يتلوه مشهد لحساء يغلي فوق النار ليُعبّر عن مدى غضب البحارة وثورتهم القادمة لا محالة.

المونتاج بين الفيديو والأفلام


منذ أن بدأ استخدام التحرير في الأفلام، كان هناك خُطاً آخر يسير فيه التحرير وهو خط الفيديو، والذي لم يظهر إلا منذ وقتٍ قريب. والفارق بينهم كان كبيرًا، إذ أن محرر الفيلم كان في حاجة إلى قص الشريط السينمائي ليتم عرضه عن طريق ماكينة العرض السينمائية، لذلك كان عمله أصعب لأنه يتطلب مجهودًا أكبر في التركيز على القطع حتى لا يحدث أي خطأ.
أما محرر الفيديو، فعمله لا يُدمّر لأنه لا يُعرض عن طريق ماكينات بل عن طريق أجهزة العرض المتطورة كالتليفزيون والحاسب الآلي، فهذه الأجهزة لا تتطلب قطع شريطًا أو شيء من هذا القبيل، لذلك كان عمله أسهل نسيبًا من عمل محرر الأفلام. أما حاليًا، فالعملين أصبحا أقرب لبعضهم البعض، فكل شيء يتم الآن عن طريق الأجهزة الحديثة المتطورة، ولا حاجة لمكانيات العرض السينمائية.
لكن يظلّ عمل محرر الأفلام متطلبًا لمجهود أكبر، لذلك يجب أن يكون شخصًا مُلمًا بقواعد التحرير السينمائي، ويفهم رؤية المخرج الذي يعمل معه جيدًا. سأضرب مثالًا بالأخوين كوين (جويل وإيثان)، هذان العبقريان هم من أهم مخرجي هذه الحقبة بشهادة الجميع تقريبًا. للأخوان كوين علامة إخراجية مميزة وهي ما تُسمى بتقنية “Shot Reverse Shot” وتعني أن يتم تصوير حوار بين شخصيتين من زاوية الشخصيتين، حيث تذهب الكاميرا ذهابًا وايابًا بينهم.
يختار الأخوان كوين من سيعمل محررًا معهم في أفلامهم بعناية، فالقطع المُتسرّع أو البطيء سيفسد قوة الحوار الذي يعتمد عليه الأخوان في كل أفلامهم تقريبًا. ففي الأفلام التي يخرجونها يذهب الحوار بين الشخصيات ذهبًا وايابًا بسرعة مناسبة تريح المشاهد وتجعله مستوعبًا لكل ما يقال، لكن في الأفلام التي كتبونها وأخرجها غيرهم تختفي السلاسة من الحوار فيصير مملًا في بعض الأحيان، وهذا العيب هو عيب محرر الفيلم في المقام الأول وعيب المخرج الذي لم يرَ عيبًا في عمل المحرر.

مشاهد كان التحرير السينمائي بطلًا لها


جميعنا تقريبًا نشاهد الأفلام دون أن نعبأ بالمونتاج أو التحرير السينمائي على الرغم من أهميته. لكن في بعض المشاهد يظهر التحرير السينمائي واضحًا ليؤكد أنه بطل هذه المشاهد، وأننا لن نشاهد هذه المشاهدة بهذه الكيفية شديدة الدقة والقوة والوضوح إذا كانت بلا مونتاج.
من ضمن هذه المشاهد، مشهد بداية فيلم “City of God” فيلم الجريمة البرازيلي الذي صدر عام 2002. يُعبّر المشهد تعبيرًا صادقًا عن طريق المونتاج وتجميع المشاهد عما ستراه طوال الفيلم من ركض وهروب وحروب عصابات وقتل، عن طريق لقطات متتالية لمشاهد من السوق البرازيلي بمصاحبة موسيقى برازيلية زادت من حلاوة المشهد.



مشهد آخر وهو مشهد الافتتاحية من فيلم “2001A Space Odysse” الذي صدر عام 1968. استخدم المخرج العبقري “ستانلي كوبريك” في مشهد البداية تقنية الـ “Jump cut” ببراعة للإنتقال بين بعض القردة الذين يحاولون اكتشاف الأدوات عن طريق استخدام عِظام الجثث كأدوات لهم. يقذف أحد القردة بعظمة في الهواء عاليًا، فتتحول إلى مركبة فضائية في قطعٍ بديع وكأن كوبريك يقول أن اكتشاف الأدوات في البداية أدى إلى ظهور هذه التكنولوجيا في النهاية.



المشهد الأخير والذي كان فيه المونتاج بطلًا بشكلٍ واضح هو مشهد التعميد من فيلم “The Godfather” الجزء الأول والذي صدر عام 1972. في هذا المشهد يتم تعميد ابن “مايكل كورليوني” في الكنيسة، وفي نفس الوقت يتم تعميد مايكل كورليوني نفسه رئيسًا للعصابة بعد موت أبيه “دون كورليوني”.
المشهد عبارة عن انتقال سلس بين التعميد الكنائسي والتعميد الإجرامي عن طريق مشاهد متتالية لبعض الجرائم التي ترتكبها عصابة مايكل كورليوني في نفس الوقت الذي يتم فيه تعميد ابنه على التوازي. وهذا الاستخدام يُعدّ الأفضل من حيث استخدام فكرة أن المونتاج في الأساس هو الجمع/ الربط بين مشهدين يحدثان في مكانين مختلفين في وقتٍ واحد.



والآن التحرير السينمائي المميز يستحق التقدير بالفعل، خصصت الأكاديمية جائزة خاصة له في حفل توزيع جوائز الأوسكار وفاز بها للمرة الأولى “كونراد نيرفج” عن فيلم “Eskimo” عام 1934. في المرة القادمة التي تشاهد فيها فيلمًا وتجد أنك تشعر بالراحة وأن المشاهد تتوالي على الشاشة بسلاسة، إعلم أن وراءها محررًا سينمائيًا مميزًا.



المصدر
www.careerigniter.com