بتاريخ : الإثنين 16-07-2012 01:09 صباحا
قرر مريدي أن يفتح له كشكاً في بداية شارع الكيارة وبدأ يبيع الحلوى والحامض حلو، وتوسعت دائرة مبيعاته لتشمل العطور والأدوية، وصار الكشك يؤمه الناس الباحثون عن كل غنج المدينة المترامية عن عيونهم والتي كانوا يسمونها بأماكن (المدن)،
والمدن مصطلح أطلقه النازحون من أهلنا في الجنوب على كل من يسكن المدينة، حيث البناء المعماري الذي لا يقترب في شكله بشيء من بيوتهم الطينية المتآكلة، صار لمريدي مريدون وصار كشكه محط أنظار أهل المدينة التي أرسى دعائم بنائها عبد الكريم قاسم.
من هو مريدي؟
رجل من عشيرة الفراطسة، ولد في ناحية العدل التابعة لقضاء المجر الكبير في محافظة ميسان، هاجرت عائلته الى بغداد شأنها شأن الكثير من عوائل الجنوب، استقر بهم الامر في اطراف بغداد، ثم تحول الى مدينة الثورة بعد قيام الزعيم عبد الكريم قاسم بتوزيع المدينة على الفقراء النازحين من المحافظات، اصبح اسم مريدي يتردد على السنة سائقي الباص في الباب الشرقي "الثورة مريدي ..مريدي" ليصبح اسمه لا يقل شأنا عن أي اسم آخر في تاريخ المدينة.
انتهى عهد البلاهة والتودد الى الاشياء لفهمها وصار ابناء المدينة يغوصون في قاع مجتمع جديد، لبسوا القوط وتنحى البعض عن العقال والدشداشة وصار البعض منهم نجوما للغناء في الاذاعة والتلفزيون، كبرت المدينة وكبر ابناؤها وصاروا يعرفون ماركس ولينين وسارتر.. هنا كان لا بد من الخطوط الحمر ان تمارس دورها مع النازحين الفقراء، ابناء بيوت الطين والقصب والبردي، اعدم ابناؤها باسم الدين والماركسية، وزج وراء الشمس خيرة ابنائها، صارت المدينة تشكل رقما صعبا بعيدا عن الوداعة والحلم بالسكن في بيوت من الطابوق.
مريدي غير آبه بكل هذا لأنه كان يحلم هو الآخر أن يملك سوقا وليس كشكا بسيطا فامتلك مريدي شارعا كبيرا وعطل سير المركبات والناس وهو (ميت)، حاولت الحكومة السابقة جاهدة أن تلجم رغبات مريدي لكنها فشلت، والحكومة الحالية أعلنت غياب قوتها وردعها لغلق الشوارع في كل مناسبة أو غير مناسبة ، باسم الحرية ولو على حساب مصالح الناس ورزقهم.
تاريخ السوق والمدينة
يعود تاريخ السوق إلى نحو 40 عاماً مقترناً بأول باعتها ويدعى الحاج مريدي صاحب أول كشك في السوق عام 1972، أي بعد تأسيس المدينة بـ10 أعوام. ويعود تأسيس مدينة الثورة (سميت أيضاً بمدينة الرافدين في عهد عبد السلام عارف ثم مدينة صدام والآن مدينة الصدر) إلى عهد رئيس الوزراء العراقي الأسبق الزعيم عبد الكريم قاسم الذي بناها مطلع ستينيات القرن المنصرم من أجل توطين سكان الريف النازحين من جنوبي العراق إلى بغداد. ويتوسط سوق مريدي مدينة الصدر المقسَّمة إلى قطاعات حيث يحتل السوق ثلاثة من قطاعاتها الـ 97 ويبدأ من منطقة الاورزدي بشارع الجوادر انتهاءً بمستشفى الإمام علي بطول يصل إلى 1500 متر، وبعرض 60 مترا وعلى الرغم من ادعاء البعض بان الناس لا تجد عملا فتتوسط الشارع المؤدي من بداية تقاطع الاورزدي وحتى نهاية شارع مستشفى الإمام علي، وتفترش ارض الشارع لتمنع بذلك مرور السيارات والسابلة وتكون في أوقات كثيرة مصدر إزعاج لحالات إنسانية ومرضية تتطلب السرعة في الوصول إلى المستشفى ذهاباً وإياباً، وصارت السيارات تتخذ طرقا أخرى عبر الأفرع الضيقة او الشوارع الفرعية نظرا للزحام الذي ولده تواجد الباعة في هذا السوق.
فوضى الخدمات
على الرغم من تعاقب أكثر من حكومة وأكثر من وزارة فإن معضلة هذه السوق لم يقدر على حلها حتى أزلام النظام المباد بكل قسوتهم وجبروتهم، ليصل الأمر الى الحكومة الجديدة التي زادت الطين بلة، حينما وضعت سيارات الجيش خدمة لحراسة كل هذه التجاوزات بموافقات رسمية.
يقول المواطن مهدي الفياضي بان بيته يقع في اخر قطاع من المدينة وانه يضطر لصعود اكثر من حافلة لكي يصل سواء الى عمله او بيته، مستغربا من صمت مؤسسات الدولة على هذا التجاوز على الطرقات العامة بحجة العوز والحاجة ، ويقول السيد هشام: إذا ما بررنا هذا العمل فسيصبح البلد فوضى لانه سيسمح لكل من هب ودب ببناء كشك او بسطية في أي شارع وهو ما يحصل الآن وخاصة في هذه المدينة التي تعاني الفوضى في الخدمات وغياب القانون .
من أين جاءت شهرته؟
على الرغم من أن شهرة سوق مريدي تكمن أولا في الاسم الغريب للسوق وهو ما يجذب الأنظار اليه أولا إلا أن توفر الحاجيات التي يبحث عنها الناس وبأسعار زهيدة وخاصة تلك التي تتعلق بأدوات عملهم او حصولهم على الأدوات الاحتياطية باسم (التفصيخ) حينما لا يتوفر لها بديل في الأسواق الرسمية، كل ذلك جعل الناس يتوافدون عليه بكثرة، كذلك جاءت شهرة سوق مريدي في عموم العراق من كونه مركزا لتزوير الوثائق والمستمسكات التي كان يلجأ إليها آلاف العراقيين لانجاز معاملة معينة أو الحصول على فرصة عمل ما أو للاستفادة منها عند الهروب واللجوء إلى خارج البلاد، فقد انتشر في جنبات السوق أشخاص امتهنوا التزوير، وصار بإمكانك وفي غضون دقائق الحصول على أهم الوثائق التي تصدرها الجهات الرسمية بدءا من رخص قيادة السيارات.. الى المستمسكات الشخصية والجوازات وانتهاءً بالشهادات العلمية المزورة، نسخ مطابقة أو مشابهة، لا يمكن بسهولة اكتشاف أنها غير اصلية ، ويروي احد المزورين قصصا بطولية ومطاردات حدثت بينه وبين رجال السلطة السابقة لغرض القبض عليه لكنه كان في كل مرة ينجو بنفسه من قبضتهم الا انه وقع في احد الايام بسبب وشاية وأودع الحبس... والأغرب من كل هذا انه تم إطلاق سراحه بكتاب من ديوان الرئاسة زوره له أصدقاؤه الآخرون في السوق ثم غادر الى لبنان وعاد بعد السقوط .
برلماني بماجستير مريدي
فيما يبرر زميل له بأنهم كانوا يقومون بهذه الأعمال وخاصة في ثمانينات القرن المنصرم لمساعدة الجنود الهاربين من جحيم الموت أثناء معارك القادسية المشؤومة وانه لم يزور أي كتاب يسبب أذى لشخص او مجموعة من الناس، ويقول إن بعض البرلمانيين الحاليين حصلوا على شهادات الكلية والماجستير من هنا، وحين طالبناه بكشف بعض الأسماء رفض وقال: لو قلت لك سيعرفون أني من أخبركم وبعدها (يروح جلدي للدباغ).. ويقول متعاملون إن سوق مريدي يخرج طلاباً أكثر من الجامعات! ويحددون أسعار الشهادات العلمية التي يمنحها السوق، بأنها تختلف بين جامعة وأخرى، كما تختلف من درجة إلى درجة. فشهادة البكالوريوس تنحصر أسعارها بين 70 و100 دولار، اما شهادة الماجستير فتراوح أسعارها ما بين 350 - 500 دولار، فيما تصل أسعار شهادة الدكتوراه إلى 700 دولار. وعن أماكن كشف التزوير يقول إن:"تلك الشهادات لا تختلف عن الشهادات الرسمية بشيء، لكنها ليست مسجلة في الدوائر واكتشافها يتم بسهولة كبيرة في حال الاستفسار عن صحة صدورها من تلك الدوائر"، لكنهم يرون أن هناك صعوبات كبيرة في كشف الوثائق والشهادات التي يتم استخراجها للسفر، لان (غالبية تلك الشهادات يتم تصديقها من وزارة الخارجية، التي تنبهت الى الأمر في الآونة الأخيرة وحددت تصديق الوثائق بالمعتمدين لدى الكليات).
فضيحة تزوير الشهادات العلمية في العراق بحسب مصدر في مفوضية النزاهة، طلب عدم الإفصاح عن هويته، تورط بها نواب في البرلمان ووكلاء وزارات ومحافظون ما زالوا مستمرين في الخدمة ويحصلون على رواتبهم ومخصصاتهم المالية من الدولة على أساس شهاداتهم المزورة التي ضموها إلى وثائقهم الرسمية حيث تحتفظ بها الإدارات العامة.
ما الذي يباع في هذا السوق؟
كل ما عليك هو أن تبحر في هذا الشارع الممتد بطول 1500 متر على الجانبين، فإنك ستجد ما لم يخطر في بالك من أجهزة كهربائية جديدة ومستعملة وأسواق الثلاجات والمراوح وأسواق للمواد الغذائية الصالحة والمنتهية الصلاحية، وكل بسعره وتاريخ انتهاء صلاحيته كما تقع وسط السوق أكشاك لبيع الأدوات الصحية الجديدة والمستعملة، كذلك فان السوق يضم الكثير من أصحاب المهن مثل مهنة الخياطة والحياكة وصناعة العقال العربي وتنتشر في سوق مريدي محال بيع الطيور التي تشهد بدورها إقبالا جيدا رغم أن المدينة المؤلفة من 79 قطاعا تضم بيوتا صغيرة تبلغ مساحتها 144 مترا مربعا يعيش فيها محدودو الدخل والفقراء، ومع هذا يفضلون أن تعيش معهم مثل تلك الطيور والبلابل الجميلة، سوق مريدي الذي يقصده عشرات الآلاف من المتسوقين يوميا لا يقتصر على بيع المواد الجديدة، بل يضم محال وساحات لبيع المواد المستهلكة والقديمة من أجهزة كهربائية ومنزلية وتحف.
الأسعار مناسبة والإرهاب موجود
يقول المواطن قاسم حسن بأنه يفضل التسوق من هنا لأنه يجد أسعار المواد رخيصة ومناسبة لأصحاب الدخل المحدود فكما ترى اشتريت هذا القفص الحديدي بـ15 ألف دينار، بينما طلب مني الحداد مبلغ 50 ألف دينار، على الرغم من أن البضاعة قد تكون مستعملة إلا انها اقوى من الحديد الجديد ، ويقول أبو شاكر (موظف) بأنه يقصد هذا السوق شاء أم أبى لان بيته يقع في نهاية السوق وعليه ان يترجل من السيارة ويذهب مشيا، وأضاف بانه ومن خلال تكرار مروره اليومي فانه حصل على أشياء نادرة جدا من هذا السوق لا يعرف أصحابها قيمتها، منها اسطوانات لمطربين قدماء وبأسعار منخفضة كذلك فانه حصل على بعض الانتيكات التي تعود إلى الحقبة الملكية في العراق من زجاجيات وميداليات وهدايا شخصيات سياسية، ويضيف أبو شاكر طالبا من أمانة بغداد وقيادة عمليات بغداد أن تلزم الباعة بالعبور خلف (الصبات) التي وضعتها الدولة لهم وان لا يشغلوا الشارع لان هذا مخالف للشرع والقانون .
لم يسلم هذا السوق أسوة بباقي الأسواق في العراق كافة من الأعمال الإرهابية، فقد تعرض لأكثر من مرة لانفجار سيارات مفخخة ودراجات نارية يقودها انتحاري أو عبوات ناسفة حصدت أرواح الكثير من متبضعي وبائعي هذا السوق في مشاهد دموية قام بكتابة السيناريو لها وأخرجها عقل مريض وجبان يشعر بمتعة منظر الأشلاء المتناثرة ولون الدم في ثقافة متوارثة من الأحقاد والضغينة والتكفير على مر العصور.
اسمه في كل مكان
يبدو أن اسم مريدي صار ماركة مسجلة واسما تجاريا يثير رغبة الكثيرين بإطلاقه على محالهم او أسواقهم او حتى تجارتهم ، في سامراء يوجد سوق مريدي ، كما أطلق اسم مريدي على الكثير من المواقع الالكترونية فيمكنك فتح النت لتجد أسماء تلك المواقع قد سميت بسوق مريدي، منها لبيع أجهزة الاي باد والحاسوب ومنها لبيع الساعات غالية الثمن كما أن هناك مواقع للشعر والأدب أهملت أسماء نوابغ العرب وشعرائها لإطلاق أسمائهم على الموقع إلا أن القائمين على هذه المواقع فضلوا اسم (مريدي) لموقعهم لأنه وحسب قولهم اسم له صدى مؤثر وغريب حال سماعه ..
المساس به من الحرمات
يبدو أن هذا السوق او الشارع صار عصيا على الحل ولسنا هنا في معرض الحديث عن غلق هذا السوق وبالتالي فتح الشوارع أمام السيارات والسابلة لان بغلقه سيتم قطع آلاف الأرزاق التي يعتاش عليها باعة هذا السوق إضافة الى ان تأخر الدولة بكل أجهزتها الأمنية والخدمية كانت عاجزة عن إيجاد حلول ناجعة تنصف المواطن وباعة هذا السوق وتبقى المسألة معلقة بقرار جريء من أعلى السلطات لان إناطة هذا الأمر ببلدية مدينة الصدر أو مجلس بلديتها تعد ضحكا على الذقون بسبب أن هذا السوق او الشارع سيطرت عليه مافيا كبيرة للتجارة والتزوير وبيع كل ما من شأنه أن يؤمن حياة رغيدة لهم ولا اعتقد أن الأمانة بقوتها أو حتى المراكز المحلية تتجرأ على فعل شيء واحد من اجل إنهاء معاناة المواطنين من زحام هذا السوق العشوائي، واعتقد انه صار من المحرمات على أي مسؤول التطرق إلى إزالة هذا السوق لان هذا يعني إزالة المسؤول أولا، ومن ثم مناقشة إزالة (مريدي) البريء من كل ما حصل لبذرته الأولى التي تحولت إلى أشجار صنوبر شائكة .