مرة أخرى يتصدر المشهد ، ليعيد إلى الذاكرة : حراكه العسكري العنيف مع الاحتلال الأمريكي ، تصدره لعنصر الصدمة في الواقع السياسي العراقي الذي اعتاد أدوات رتيبة يمكن التنبؤ بها مسبقاً ، مقتدى الصدر مرة أخرى مع مشروع معلن قد يخفي الكثير وراءه بين أمل الموافقين و ريبة المخالفين له .
الإصلاح عنوان الحراك الذي يقوده الصدر هذه المرة ، العنوان الذي لم يظهر على السطح فجأة لمن تتبع كلمات الصدر و لقاءاته ، و بواقع زخم الكلمة التي طُلبت من الصدر الأول فرفضها بديلاً عن سفك دمه ، بواقع توسل المحيطين بالصدر الثاني لتخفيف حدة المواجهة مع النظام البائد و الرفض تحت جملة ( أنا بانتظار الرصاصة التي تمنحني الشهادة ) ، و بواقع الجبهة المناوئة للصدر التي تراهن على مرحلة يبدو أن شخوص هذه الجبهة لم يدركوا أنه طواها ، إنها المراهنة الخاسرة على تغليب أن الصدر سيعدل من حدة المسار حين يرى ردة الفعل و يفكر في النتائج الخطيرة القادمة ، المراهنة على أنه سيفكر بالأمر على أنه تغليب للمصلحة العامة و تحت بند ( دفع الأسوء بالسيء ) لكن ما فات شخوص الجبهة آنفة الذكر أن المصلحة العامة معطى قد يخالف الصدر الآخرين تداوله ، و هو ما بدا واضحاً من استشهاده بكلمة الحسين الخالدة (( ما خرجت أشراً و لا بطراً ..... )) الحسين الذي هدد النسيج الاجتماعي و أحدث شرخاً في الأمة بعمق مأساة قتله !!
لكن بعيداً عن وتر لفت الانتباه في المقدمة السابقة ، ماذا ينتظر العراق ؟ ماذا ينتظر المنطقة ؟ لماذا تتخوف الجبهة المناوئة للصدر من مشروعه ؟ لماذا هذا التوقيت بالذات ؟!! و هل فكر مقتدى الصدر بالنتائج الخطيرة إذا ما جوبه حراكه السلمي بالرفض من الحكومة و الأحزاب و المكونات الأخرى ؟ الرفض الذي قد تستخدم فيه الجبهة المناوئة أدوات السلطة و أجهزة الحكومة و هو ما يعني أن الصدر سيكون أمام خيارين لا ثالث لهما : الإذعان للواقع تجنباً لسفك الدماء ، أو المضي قدماً و الرد بالمثل تحت شرعية حق الرد لأن الحراك كان سلمياً و جوبه بالقوة !!
هذه الأسئلة و غيرها تطرق أبواب المشهد اليومي ، و تلح على الذهن العراقي ، و تفرز عدة احتمالات لا يمكن تجاوز كونها مجرد احتمالات فحسب ، و هذا يسري على ما نحن بصدده من مقال .
من مع الصدر ؟ من ضده ؟ في مشروعه الإصلاحي هذا ؟ سؤال بسيط لن يكلفنا عناء الإجابة بــ : الكل معه ، فالأحزاب و الحكومة و الشعب كلهم ينادون بالإصلاح .. لكن مع خصوصية مشروع الصدر و بالدخول لتفاصيله يبدو أن الإجابة ستختلف ، و عليه فلا مفر من سؤال أكثر دقة ، من مع حكومة تكنوقراط شخوصها لا ينتمون لأي حزب و لا يدينون بطرف مودة معها ؟!! و مع النتيجة العملية لمثل هذا المشروع ـ لو تحقق ـ من يوافق أن تسلب منه سلطته ؟؟!! لا أحد بكل تأكيد ، لا طرف يمارس السلطة سيكون مع الصدر .. الكل السياسي سيكون ضده ، لهذا ربما لجأ الصدر منذ البداية إلى الشارع و خاطب الشعب معلناً يأسه من السياسيين و لاحقاً براءته من أي سياسي و هو ما يمكن رسم خط باللون الأحمر تحته !
و حتى هذه اللحظة يبدو أن الصدر نجح في المرحلة الأولى من مشروعه إذ : لجأ إلى سلطة الشارع ، قيد الحراك بالسلمية ، راهن على التوقيت .
فاللجوء إلى سلطة الشارع تعني عملياً : أن الخيار مفتوح على مصراعيه ، إسقاط الحكومة ، حل البرلمان و إجراء انتخابات مبكرة .... الخ .
و تقييد الحراك بالسلمية يعني عملياً : لا مجال لمجابهة هذا الحراك بأدوات السلطة ، و إلا سيكتسب الصدر شرعية الرد بالقوة أيضاً .
و التوقيت يعني : استباق مطالبة بعض أمراء الحشد الشعبي باستحقاقات النصر ، خصوصاً و هو يقول قبل أشهر ( لستُ أخشى من مرحلة داعش ، بل مرحلة ما بعد داعش ) و مع الإشارة إلى أن الكثير من قيادات الحشد مقاتلون و (( إن الملوك إذا دخلوا قرية ....... )) و الواقع نطق بأول ملامح ما بعد داعش حين طالب فصيل من فصائل الحشد الشعبي بفرض النظام الرئاسي و إلا تظاهر و إن لم يستجب لمطالبه فسيكون له رد آخر !! و ما بعد الحرب يأتي وقت الغنائم ، و البلد الذي بان عظمه لن يقدر على إيفاء حق قضمة أخرى !
و ما تقدم بخصوص التوقيت سيفرض احتمال تأييد ـ وإن كان ضمنياً ـ بعض الفصائل المخلصة لوطنها من الحشد الشعبي لهذا المشروع و إن بالسكوت و الاكتفاء بعدم معارضته .
و إذا كان الكل السياسي ضد الصدر فعلى من يراهن الصدر ؟ ربما يراهن على :
المرجعية الدينية ممثلة بالسيد السيستاني / المرجعية التي نجح الصدر في تشييد علاقة خاصة ضامة معها لم تتكشف ملامحها للكثيرين إلا مؤخراً ، علاقة بدأت بــ رهن حلّ جيش المهدي بأمرها و لم تنتهِ في سياقها الزمني بدعم مطالبات الصدر في كل مجال طرقه و الانسجام مع موقفه انسجاماً كبيراً و فاعلاً و كانت المواقف من تهديد داعش و الحشد الشعبي و القتال خارج العراق علامات واضحة لهذا الانسجام ، السيد السيستاني يدعم مشروع الصدر .. هذا ما صرح به صلاح العبيدي علناً .. و لم تنفهِ مرجعية السيد السيستاني ، كيف لا و السيد السيستاني يضيق ذرعاً بالفاسدين الذين انتحلوا اسم الدين و المذهب و لم يفلح حزب أو مسؤول حكومي في اجتثاثهم .
الجماهير / و لا خلاف أن الصدر يمتلك أكبر قاعدة جماهيرية قادرة على التظاهر و الاعتصام و العصيان المدني و القتال إن لزمت الضرورة ، مضافاً إليها : أتباع المرجعية الدينية غير المسيسين ، التيار المدني الذي و إن اختلف مع التيار الصدري فكرياً غير أن هدفه يتحد مع هدف التيار الصدري ، هامش واااسع من الناقمين على الوضع المزري و الفساد المستشري ، هامش واسع آخر سيلتحق بفعل الشخصيات المؤثرة المقبولة التي ستنضم لمشروع وطني حر يرفض التدخلات الخارجية و ينتمي للعراق فقط .
كل ذلك يجعل الصدر قوياً ، يدرك خطواته ، ويتعامل مع واقع اللجوء إلى الشارع بشكل ذكي و فاعل ، يحرج الجبهة المناوئة بمعادلة : إن رفضت الإصلاح فأنت فاسد ، و إن قبلت به فستخسر سلطتك ، و إن واجهته بالقوة ستعطي شرعية للرد بالطريقة ذاتها .
كل ما تقدم لم يجب عن : ماذا ينتظر العراق ؟ و هل كل هذا منظور من زاوية علاقة ما يجري في المنطقة بالعراق و بالعكس ؟
و هنا لا بد من فرضيتين أساسيتين :
الأولى / نجاح المشروع الإصلاحي و الوصول به إلى أقصى ممكناته و هو ما يعني خروج العراق من أزمة تاريخية لن ينجح في تجاوزها إلا بعد أجيال ، و البدء بمرحلة جديدة تمثل الطموح ، هذا النجاح الذي سيفضي إلى حكومة تكنوقراط مستقلة إن لم تنجح خلال ما تبقى من عمر هذه الحكومة فسيحسب لها الشارع العراقي حساب استقلاليتها و هو ما يعني تغيراً جوهرياً في المشهد السياسي العراقي ، إذ من المؤمل أن تتجه أنظار الناخب العراقي ـ و لو بالتدريج ـ إلى شخصيات مستقلة متخصصة ، و هو ما يعني إبعاد التيار الصدري و الأحزاب الأخرى التي مارست السلطة عنها و اضمحلالها تدريجياً في الجانب السياسي المتعلق بالدور التنفيذي في السلطة و هو لا يعني بالضرورة إقصاءها من الحياة السياسية ، هذه الفرضية ستقود إلى تغيير سلمي في السلطة .. و مع أنها فرضية صعبة المنال غير أنها ممكنة الحدوث مع تخطيط متقن أعتقد أن معطيات تصرفات الصدر حتى الآن تشير إلى توافره عليه .
الثانية / مجابهة المشروع بــ : التحايل و الالتفاف عليه كما هو الحال مع الإصلاحات الترقيعية و الشكلية .. و هو أمر غير ممكن الحدوث مع تصريحات الصدر في كلمته للمتظاهرين في ساحة التحرير ، أو اللجوء إلى استخدام القوة مع تصاعد إجراءات المطالبة من قبل المتظاهرين خصوصاً و أن الصدر هدد باقتحام المنطقة الخضراء و التي أسماها بــ ( الحمراء ) ربما لأنها محظورة و تمثل خطاً أحمر أو لأنه يلمح إلى سفك دماء الأبرياء فيها من قبل عصابات الفساد و مافياتهم .. هذا الاستخدام للقوة الذي قد يأخذ منحيين : المنحى الرسمي و باستخدام قوات الجيش أو الشرطة و هو ما سيقود إلى ما لا يحمد عقباه لا لشيء إلا لأن الصدر مصرّ و لا مجال للتراجع عن مشروعه .. أو المنحى غير الرسمي و يتم ذلك باستخدام ميليشيات مؤيدة للجبهة المناوئة للصدر ، و هذا أهون لأن تلك الميليشيات ستكون تداعيات الرد عليها أقل وطأة .
كل ما ورد في الفرضية الثانية لا أتوقع حدوثه ، لأن معطيات الواقع و حرب تحرير الأراضي العراقية تشير إلى خلاف ذلك سواءً على مستوى تفكير الأطراف الحكومية أو غيرها به أو إمكانية الفعل خصوصاً مع امتلاك التيار الصدري لسرايا تضم ( 250000 ) عنصر مدرب تدريباً اختصاصياً لم يستخدم التيار من هذا العدد حتى هذه اللحظة في معاركه ضد داعش إلا ( 10000 ) أو ( 12000 ) مقاتل ، مضافاً لاحتياط غير مدرب يناهز العدد الأول .
معطيات من وحي طائر يغرد في أذني :
- الصدر مصرّ و لا مجال لتراجعه عن المشروع الذي افتتحه بمهلة ( 45 ) يوماً تتوافق نهايتها مع ذكرى بداية مشروع الإصلاح الذي أطلقه السيد محمد الصدر بإعلان صلاة الجمعة ، و مع الآية الــ 45 من سورة القمر (( سيهزم الجمع ويولون الدبر )) .
- إيران صامتة .. لم تفلح وساطتها .. لذلك حدث اجتماع كربلاء
- السيد السيستاني سيتدخل في الوقت الذي يحتاج تدخله
- الجبهة المناوئة ستصل إلى الحد الذي لا يمكنها الوقوف و عدم التصرف .
- الصدر يعتمد على الخطوات غير المحسوبة من الآخر ، و الأيام القادمة ستفرض معطيات تخدمه .
- كيفما اتفق ستكون النتائج لصالح المشروع الإصلاحي ، فالصدر الآن يعمل على وفق الفعل و الآخرون يعملون على وفق ردة الفعل .. و هو ما يؤشر تقدم الصدر خطوة على الأقل في كل تحركاته .
- كل ما يجري و سيجري يعتمد على أمرين .. الأول تأييد الشارع .. و الثاني إصرار الصدر .
- من المستبعد جداً تحول الحراك من السلمية ، لكن لكل حادث حديث .. و كل ما هو مشروع ممكن .