يؤكد لنا الشاعر فائز الحداد من خلال مجموعته الشعرية (غرانيق الأمس ) الصادرة عن دار نيرفانا بدمشق آذار 2013 ، بأن صياغة القصيدة الحرة ، أو القصيدة النثرية ، هي امتداد حداثوي وتسلسلي وتصاعدي للقصيدة العمودية ، وهي الجذور الرئيسية والأصيلة، والتي من دونها لا يستطيع أي شاعر أن يقدم قصيدة تفعيلة ، أو قصيدة نثر ، يصل في صياغتها إلى الحس التصاعدي الشعري المطلوب ،لأن هذا التطور في حقيقة الأمر أساسه الشعور بأن الشعر العمودي في آحيان كثيرة لا يستطيع أن يعبر تعبيرا نموذجيا معاصرا عن خلجات الشاعر وعن مشاعره الحسية الشعرية الجياشة ، وإنه لا يريد لها أن تكون حبيسة قفص القافية وسجينة شروط وقيود القصيدة العمودية، ويريد لها أن تكون حرة طليقة في سماء الأدب الجميل.
فقصيدة النثر كونها المرحلة الأخيرة من مراحل تطور القصيدة الشعرية ناتجة عن هذا التاريخ العميق من نشأة القصيدة في الوطن العربي ، وهكذا فأن الشاعر الذي مر بمرحلة هذا التطور، ويكتشف أن هذه القصيدة من الصعوبة بمكان لا تقل عن القصيدة العمودية ، كونها تمتلك مفردة شعرية عميقة جداً ذات إيحاءات متعددة ، وذات مدلولات ورموز وصور واستعارات وانزياحات مكثفة ، وإن بناءها يحتاج إلى شاعر يصوغ الشعر بكل أنواعه ، فأحياناً يكون عمقها الدلالي فلسفياً ، وأحياناً موغلاً في قدم الحضارات ، وأحياناً تكون ذات تناص مع القرآن الكريم ، وأحياناً تكون موغلة في عمق التجربة الحياتية للشاعر ومدى تأثير هذه التجربة على حسه الشعري ومخيلته الحسية ، وملكية الشعر لديه.. من هذا يتضح لنا بأن الشاعر فائز الحداد ، هو امتداد صحيح لحركة التطور الشعرية ، كون البنية النصية للقصيدة لديه صيغت بمهارة ومعرفة وبمهنية عالية ، والتي تبدأ من بنية العنونة ، حتى زوايا النظر في كل قصيدة ، ومضمونها ، وشكلها ، وثيمتها ، إذ إن المرأة في ثنايا قصائده لها حضور واضح وهو يقوم بإذابتها في فضاء النص، وحسب اتجاه حركة الثيمة الشعرية ، ويشكلها كما شاءت هواجس الحس الشعري لديه، فهي الحبيبة التي يشتاق إليها ، وهي الحبيبة التي يفتش عنها في بحر النسيان ، وهي التي تشاركه هواجسه وخلجاته وتداعياته الذاتية ، وهي التي تسكن هناك في الليالي الحمر التي يرتشف منها رحيق الحياة ، هي جزء مهم من بناء القصيدة لديه ، بل إنها محور القصيدة وثيمتها .
فهذه المرأة التي تربعت في عرش قلبه ، منحته حاسة شعرية عميقة ، وشكلت لديه الهاجس الفكري الدائم ، وهو ما فتئ ينشد لها القصائد ، بروح حالمة بهذا الالتصاق الحميمي الذي يحيلنا إلى دورها المهم في أن تجعل الكون واحة خضراء مزدهرة تحيطها العاطفة ، ويكسو فضاءها الندي قلب كبير ، يفتش داخل ثنايا النص عنها ويريدها معه في حله وترحاله ، وهي رمز كبير من رموزه الشعرية وانزياحاته اللغوية ، وصوره الشعرية الرحبة ، ودلالاته العميقة ، وكذلك يشكل هاجس الحس الإنساني الأصيل جانبا مهما من عالم القصيدة ، وهو يحلم بالأمان والسلام ، والحنان ، والحضن الدافئ ،لأنه يؤكد أن هذه العاطفة ، وأن هذا الحب ، وأن هذه المرأة التي ضاعت بين سطور القصائد ، لا يمكن لها أن تظهر ، إلا إذا عادت الحياة تنعم بالسلام والأمن.. فلا حب في زمن متردي ، ولا عاطفة وسط الحروب ، ومن خلال دخولنا وعبر بنية العنونة لقصيدة (جارة القلب) يضعنا الشاعر فائز الحداد في هذه الصورة ، وبعمق رمزي ودلالي محكم ومتقن ، لنكتشف كل ما مر ذكره
مهما يجري الحجر على جرحي
وتسرقني السيوف ..
لن يبلغ العشاق جرحي بالتمائم !؟
ولن تبلغ الشوارع ازدحامي ..
فأنا مكتظ كملجأ ، وطويل كتاريخ
فهو العاشق الذي لا يجاريه عاشق ، وهو مزدحم بهذه العاطفة ، أكثر من ازدحام الشوارع ، وهو مكتظ بالازدحام أكثر من الملجأ ، وطويل كتاريخ ، هذه الانزياحات والصور الدلالية ، خير تعبير على هذه العشق ، كما انه يثبّت من خلال جارة القلب ،بأنه يستطيع أن يقاوم هذا السحر ، ويستطيع أن ينفذ إلى عالمها لأنه سيحتمي فيه ..
ولن تمنعني عنكِ .. عيناك القناصتان
فمرآتك اللذيذة ستغيثني ..
ويصعب عليك تمزقي وأنت جارة القلب
وهذه الرؤية الشعرية التي يبثها الشاعر في واحة القصيدة من خلال المفردات الشعرية التي تهيء للمتلقي الدخول للقصيدة وتعبد له الدرب كي يكون مع النص الشعري ، تؤكد إمكانية الشاعر على بناء القصيدة
وكالماسة الخضراء في حضانة الذهب ..
تزدادين بريقاً ، حين تقدحك العيون
فاحضنيني بقلبك الماسي وأدفئيني بجواهر النار
أما قصيدة (لا تقرع الماء ؟؟) وبنية العنونة وحدها فيها استعارات دلالية تشير إلى متن النص ،
من وهب الحروب قلوب النساء ..
ونام مخصياً على كتف الملك ؟!
وهذا المستهل الشعري يشير إلى مضمون القصيدة وبنيتها ، وأن المرأة لا تصلح ان تعيش الحرب ، إلا إذا كان من زج بقلوب النساء داخل أتون الحرب مخصياً
لك الحياة سجادة ، ولي كفن الحبيبة
هل أدركت من أنت ..؟
لا أنت ..ولا انت ياااااااااا أنت
أنا الذاهب وحدي لعناق النسر ؟؟!!!
وفي قصيدة ( الشمعدانة) نعيش توالف شعري غريب بين ، الشمعدانة ، الشاعر ، الشعر ، الحب ، المرأة ، الذكريات ، فهذه الشمعدانة المضيئة يحسها الشاعر بأنها صاحبة الفضل في تأجيج بركان الشعر لديه ، وهي التي تمنحه انتعاش الفكر ، وقوة المفردة ، وهي التي تلهمه بضوءها ، وتدفعه إلى النزول الى واحة الشعر ، ثم تنصهر هذه الشمعدانة بضوئها لتكون جزء من بنية القصيدة ، ثم تكون الرمز ، ثم تكون المرأة ، أنه تداخل ممتع ، ونقل ضوء الشمعدان الى متن النص ليكون النض مضيئاً
فأنت شمعدانتي العاتقة البرد من النيران
في ثمالة الفعل المضارع ، وعلامة رفع الكأس
وما يجترحه التائه باتجاه منفلت!!
فلا خوف من خشوع غاف على مدارج الخجل
الحرية امرأة بكل الواخزات القارصة ..
تطارد الأوزان والرموز والأنوات
فهل ستتعانق الطيور في الهواء ؟!!
وتشكل قصيدة (شهريار ) هذا التحدي الجميل بين العاشق ومعشوقته ، ويصفها بأنها صفر افتراضي ، ولولاه لما كانت ، وهو يحسها شهرزاد ، ولكنها الخاسرة ، وليست المنتصرة ، ويطالبها بفك الشراكة ، وهو يقصد بذلك شراكة الحب والعشق والهيام ، لأنه هو الذي صنعها ، فهي تشكل لديه صفر بدون أرقام ، ورقم واحد بدون صفر وأنها لم تبلغ الألف لولاه، معادلة شعرية عميقة الدلالة..
خذي واحدك من الألف ، والمتبقي لي
فأنا شهريار ألف ليلة ..
ثم أنت يا..
شهرزاد !!
أما قصيدة ( امرأة .. لن تغادر المعنى ) فأنه يحيل صياغتها إلى المرأة ذاتها ، فهذه القصيدة هي صوتها ، وحسها ، وهواجسها ، وخلجاتها ، وتداعياتها ، وتحديها لعالم الرجل
فأدخر بعض ما تبقى من صيف لقائنا الأول ..
لشتاءاتنا المقبلة ..!!؟
كيلا لا يكون الكي ..آخر قبلة للخريف
إن المرأة داخل تلك القصيدة ، تؤكد بأن خريف العمر قد حل ، وباتت المشاعر باردة جافة ،
وأنتِ رحيق الزهور في سني العمر القادمة ،
أبيض في الخوف من برد أنثى
فما عاد جسدي ، إلا هيكل زمن في ثلج الحياة
وأراه يتقاطر كماء الحناء على سوادي
في وداع الأميرة ؟!!
وقصيدة (قبل وحي الخطيئة) يناجي الشاعر الليل الذي يحل عليه وهو يقف على إطلالة ذكريات يؤججها الظلام ، ويعلن خساراته المتكررة أمام ربحه ، فقد غادرته أشياؤه التي كانت تمنحه الحياة وبات خريف موحش ، وصار يعيش لحفنة الذكريات الخاسرة
وما خلتك من فتق الباب ، تستعيرني دمية ..
ومنديل دمعي في نذالة الشيب !
لقد وهبتني دونما حدٍّ ، مقياس تيه الدرب ..
يا شباك آلهتي
ورحت كالروح الطالعة من عنق الزجاجة ..
أتنفس سبائي ، ويصرفني الليل كبخار المبيد
وفي قصيدة (الفرزانة ) ينقلنا الشاعر إلى جراحة بأنوثتها وجمالها وسحرها ، وهو يستحث القصيدة لكي ينال إعجابها
لكنني أحب من أهداني حبيبتي
وأسرى بها يسارا صوب جهة القلب
وفي قصيدة (نص لا جدوى له..!؟ ) يقدم لنا الشاعر زاوية نظر أخرى للمرأة وهو يحذرنا منها ، لأنها ” كالمرآة .. تريك نفسك بوضوح، فأحذر انكسارها في صورتك القاتمة “.. هذا هو مستهلها ، وهي تنحى منحاً تكسوه الحسرة والانكسارات ، ونجد هذا التنوع والتداخل الحسي الشعري ، المرأة ، الضياع ، الحلم ، الانكسارات ، الحسرات ،الآهات ، في ثيمات كبيرة ومتنوعة لا يمكن حصرها في هذه الدراسة ، لأنها تحتاج إلى مساحة أكبر ، فالشاعر فائز الحداد بحر ثر من الشعر ، ومن الفكر العميق ، ومن الرمز الكبير ، وهو كما يقال عنه عراب الشعر ، لأننا نجد ذلك ماثلاً أمامنا ونحن نسبر أغوار عالمه الشعري ،ضمت مجموعته الشعرية (غرانيق الأمس) واحد وثلاثون قصيدة وهي ، جارة القلب ، لا تقرع الماء؟؟، الشمعدانة ، شهريار ، امرأة لن تغادر المعنى ، قبل وحي الخطيئة ، الفرزانة ، نص لا جدوى له ، مروية لزمن المكان ، أبحر في هامش الفنار، أفضح من سؤدد الحب ، امرأة بنص سؤال ، القصيدة ..سمراء ، المرأة الحقيبة ، أناضوليات ، قبل أنثاي بتفاحة ، كيلا ينتصف الحب ، المبحر في العاصفة ، أسئلة فراغ داكن ، حداديات (خارج المتن ) ، أشير إلى خضراء خادعة ، المتكرّدة ، حين أغزل الماء ، أدور بخطيئة الحسنة ، ما يشبه الحب !؟ ، الياقوتة ، عازف الحب ، المرأة البندقية ، أوراق محترقة ، وهذه القصيدة تقدم لنا رحيق الشعر وعسله ومذاقه ، بكل تمكن لأنه يضع تجربته الشعرية التي رافقت عمره وهو يدخل خريفه الموحش ، ليقدمها منصهرة بوعيه وتجربته الطويلة في هذا المجال ، وهي تعطيك مذاق آخر إذا تذوقته ، فأنك تجد المحاولات الشعرية التي تحيطنا مذاقها مرّ حنظل لا يطـــــاق .