من أيامنا الجميلة التي تحمل في طياتها ذكريات لاتنسى وبمختلف سنين الحياة عن شهر رمضان
الكريم، الكريم بعطائه المبارك، الكريم بعبادة الخالق والألتزام بشرائعه، الكريم بمعانيه، الكريم لمعرفة
خصال الخير والمحبة والتواصل الديني والأخلاقي والحياتي والأجتماعي، وعلى الرغم من تشابه
العبادات وأحياناً العادات في الدول العربية إلا أن لدى البعض خصوصيات وتقاليد يختص بها دون
غيرها تبعاً لتراثها التي توارثتها من الأجداد، العراق جميل في رمضان له تقاليد يمتاز بها وتكاد تكون
متشابهة في مختلف المناطق ولكن أيضاً بعض من الخصوصيات تتميز بها وفقاً لتنوع طوائفه
وقومياته، البغداديون متمسكون بالعادات العريقة ذات التراث والأصالة ومنها الأعظمية التي عاش اهلنا
ونحن مايقارب الخمسون عاما، شهر رمضًان ذو التوجه الديني والروحي والحكايات الشعبية والطعام
المنوع بأصنافه، والجلسات العائلية، وجلسات المقاهي، تحتاج لمن يتقن إداء واجباتها، فجميل أن
نتذكرها حتى تبقى الجذور حية للنمو..
قبل أيام من رمضان تذهب العوائل الى سوق الشورجة والذي يعتبر أكبر سوق تجاري في قلب العاصمة
بغداد لشراء لوازم الشهر من العدس والماش والحبية ونومي البصرة والتوابل والجوز والمكسرات
بأنواعها والزبيب والطرشانة وتمر الهندي وكل على مشتهاته.
عند الأعلان عن يوم رمضان عن طريق الجوامع أو ألأذاعة تتلألأ المصابيح التي تزين الجوامع، فيتبادل الناس التهاني
في الشارع والمحلة والهاتف الذي لم يكن متوفر ألا في بعض البيوت، ويبدأ القسم بالذهاب الى الجوامع للأبتهال بقدوم
الشهر وبدأ صلاة التراويح،وتستعد النساء والأمهات لتهيئة اللوازم لليوم الأول منه.
يتميز البغداديون في أيام رمضان بالتجوال بعد الظهر والعصر تحديداً بالذهاب الى الأسواق للتسوق وقضاء الوقت وشراء
الطرشي والحلويات كالبقلاوة والزلابية من المكانات المشهورة مثلا في الأعظمية نعوش ورعد الشكرجي وفي شا رع
الرشيد كعك السيد وباقر وصادق الشكرجي، وفي الكرخ الحاج جواد الشكرجي وفي الكاظمية صبري وتوفيق الشكرجي
والمشهورة أيضاً بعمل حلوى الدهينة..
وفي أواخر الستينات وبداية السبعينات ظهرت حلويات الخاصكي في المنصور وأبو عفيف في الكرادة والحمداني لصناعة
زنود الست، وكل الحلويات الجيدة والطعم الشهي تعمل بالدهن الحر ،كما توجد بسطات لصواني البقلاوة والزلابية في
كافة أسواق بغداد الشعبية وبأسعار معقولة، البعض يتعني ويشتري شربت زبيب الحاج زبالة وشربت رمان جبار
المشهورين .
تتميز المائدة البغدادية عند الفطور بمذاق خاص ومتنوع، تتجمع العائلة عند بدأ الأفطار وتبدأ بأكل التمرة وشربت
النومي بصرة أو الزبيب أوتمر الهندي أوقمر الدين وبعده الشوربة العدس أو الماش أو شوربة كبة الحامض...
يوجد التشريب يوم لتشريب اللحم ويوم لتشريب الدجاج، يوجد على المائدة الكبب بأنواعها البرغل أو الحلب، وكذلك
الكباب والتكة وهنا يفضل الصائمون أن تتهيأ المنقلة قبل الفطور لشواء الكباب والتكة على الفحم وقوري الشاي المهيل
على الفحم المتقد بعد عملية الشواء، والرز وأحياناً السمك والدولمة، والهريسة،..
وبعض من العوائل لديها تنور لعمل خبز التشريب وشواء الدجاج أو السمك، والمائدة مزينة بالطرشي البيتي أو من
السوق، أن ماذكرنه عن التنوع ليس المقصود كله موجود في يوم واحد وأنما يتوزع على أيام رمضان ولكن الشوربة
والتشريب والطرشي من الأولويات تتطعم بالباقي حسب رغبة الصائمين..
كما تشارك العوائل المسيحية بأرسال بعض من أكلاتها ككبة الحامض والكبة الكبيرة والصغيرة،وبدورها ترسل العوائل
المسلمة بعض من أكالاتها والحلويات لجيرانه من العوائل المسيحية مما يبرهن قيمة التآلف والمحبة والأحترام المتبادل
بينهما.
بعد الأفطار وشرب الشاي المهيل يبدأ المدخنون وبرغبة جامحة لتدخين السكائر أو النركيلة بتلهف وشوق، بعدها أي بعد
صلاة المغرب قسم يأخذ غفوة أستعداداً لصلاة التراويح والذهاب الى القهوة لتمضية سهرة رمضان هناك، بعض النسوة
في المحلة يتزاورون بينهم، حيث أن التلفزيون أيام زمان قناة واحدة ولاتوجد فيه من المسلسلات كما هو اليوم لكثرة
القنوات والمسلسلات بل هي تعرض مسلسلة أو تمثيلية واحدة، يبدأ أكل الحلويات أثناء المساء والشاي متوفر على مدى
الساعة ويقدم في الأستكان.
تبدأ مجامبع الأطفال بالتجمع حيث يجوبون أزقة محلتهم ويمرون على كل بيت، وهم ينشدون الأنشودة الجميلة:
ماجينة ياماجينا
حل الجيس(الكيس)ونطونا
تطونة لو نطيكم
بيت مكة أنوديكم
ياهل السطوح
تطونا لو اروح
رب العالي يخليكم..
ويقومون بالدعاء لأهل البيت مع ذكر أسمائهم، ويقوم أهل البيت بأعطائهم الحلوى أو الجكليت أو النقود التي يفضلها
الصبيان وهكذا.
المقاهي تعج بروادها وهنا تبدأ سيدة اللعب الرمضانية الا وهي لعبة المحيبس(البات) بين فريقين من محلتين أو
منطقتين وتستمر حتى وقت السحور، والخاسر يدفع ثمن صينيتي البقلاوة والزبلاية، أن هذه اللعبة تبين قيم التآلف
والمحبة والألفة السائدة في المجتمع، والطريف أن مقهى أبراهيم عرب كان أيظاً ملتقى لعبة المحيبس وكان أبراهيم
عرب وضمن طرائفه المشهورة يحدث الفريقين وكل منهم يحوي على عشرة لاعبين، بانه أي أبراهيم عرب كان من
أحسن لاعبي أيجاد المحبس (الخاتم) وكان يقود مجموعة الرصافة وعددهم الف لاعب ضد مجموعة الكرخ ولنفس العدد
فكل مجموعة تجلس على ضفة نهر دجلة الرصافي في الرصافة والكرخي في الكرخ، وكان يذهب من الرصافة الى الكرخ
بواسطة البلم وبيده فانوس وكذلك بطل الكرخ يأتي بواسطة البلم والفانوس بيده ويقول بأنه عند معانيته لوجوه الكرخين
بواسطة الفانوس لم يرى أي أثر لوجود محبس في أي يد تحمله وهنا صاح بأن يفتح الجميع أيديم (الكل طلك بالتعبير
الشعبي) أي لايوجد محبس مخبى وظهر بأن من كان يحمل المحبس وبرهبة من أبراهبم عرب رمى المحبس في الماء
ويقول أني أستطعت أيجاده في الماء قرب الجرف، وهذا ماقاله للفريقين مستهزأً بعددهم القليل وعدم دقتهم بأيجاد
المحبس، وكانت قهوته مشهورة بأبراز بطولاته للقصص التي يوردها عن نفسه في أيام رمضان وغيرها من أيام
السنة..
المتحف البغدادي
كان هناك في بعض المقاهي راوي يتحدث عن السير القديمة كعنترة، وأبو زيد الهلالي، وألف ليلة
وليلة.
المسحرجي يقوم بأيقاظ النائم للسحور بصوته الجهوري وطرقات دمامه وبأيقاع جميل ومحبوك يتماشى مع مناداة التهيأ
للسحور، المسحرجي عادة من المنطقة، وتبدأ أضوية المنازل تتلألأ ويبدأ تجهيز السحور، وتكون وجبته الجبن والبيض
والرز والفواكه والعروك واللبن، وقسم من الصائمين يتوجه بعدها للصلاة في الجامع.
في هذا الشهر قسم كبير من شرابة الخمر يمتنعون عن تناوله ويبدئون بالصيام، وقسم يصوم العشرة الأواخر لأن فيها
ليلة القدر وهي خير من ألف شهر، وقسم لايصوم ولكن يمتنع عن الخمر، وقسم ضئيل جدا من لا يلتزم.
في العشر الأوخر من شهر رمضان تمتليء المساجد بالصائمين وتبدأ فترة قيام الليل وزيادة بقراءة القرآن والتمسك
بالطاعة والصلاة، وقسم من الموظفين يأخذون الأجازة للتفرغ للعبادة وأحياء ليلة القدر الوترية للعشر الأواخر، والكل
في خشوع وأبتهاج وصلاة تراها واضحة في وجوههم.
وفي نهاية رمضان يبدأ التسوق للتزود بالملابس الجديدة وتحضير الكليجة وحشوها بالجوز المبروش أو التمر أو
السمسم والسكر والهيل وقسم بدون حشو، وتعمل في البيوت وترسل الى الأفران أو في التنور لكي تكون جاهزة في
اليوم الأول، ويذهب الرجال والأولاد للحلاقة، وتنصب المراجيح ودولاب الهوى في المحلات بأنتظار العيد.
المسحرجي والچرخچي من الأوائل الذين يطرقون الأبواب للتهنئة وأستلام العيدية والكليجة، الشرابة يعودون لعادتهم
القديمة طبقا للمثل الشائع عادت حليمة لعادتها القديمة، وتبدأ العوائل بزيارة قبور أحباءها بعد صلاء العيد، والأطفال
بملابسهم الجديدة ينتظرون العيدية...
وكل رمضان وأنتم بخير ليعود العراق الى تلأله من جديد ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
منقوووووول