كما أعلم ويعلم الجميع فالأستاذ والتلميذ عبارة عن مُلقي ومتلقي، أي ملقي لأحد العلوم أو المعارف أو المهارات، ومتلقي لها. وذلك من أجل أن يكون المتلقي في المستقبل عالماً بما يَعْلَمُهُ المُلقي بعد انتهاء عملية الإلقاء والتلقي.
وهذا ما نستوعبه من خلال معرفتنا بالفيلسوف أفلاطون ومعلمه سقراط في مجال الفلسفة مثلاً، ومن خلال معرفتنا ببيتهوفن في مجال الموسيقى وتعليمه الذي كان على يد والده يوهان فان بيتهوفن، إضافة إلى موتسارت وباخ وهايدن وغيرهم، ثم تأثيره بدوره على تلميذته وصديقته تيريزا مالفاتي.
فالعلاقة هنا كانت عبارة عن صقل معرفي، قاد في النهاية إلى النضوج الفكري، سواء أكانت هذه العلاقة بين إنسان وآخر، أو بين إنسان وكتاب كما فعل الكثير من العظماء العصاميين. ولم تكن تلك العلاقة علاقة تلقي لتفاهات ينساها المرء غالبا حال نيله للشهادة التي كان يطمح إليها للحصول على عمل ما، كما هو الحال الآن.
إننا حاليا ندرس خوفاً من المستقبل، وليس شغفاً وفضولاً معرفياً، والذين يُدَرِّسُوننا يقومون بذلك من أجل الحصول على لقمة العيش فقط، وليس حباً في مهنة التعليم أو التدريس أو العلم حتى.
الأمر الذي ينتج لنا بيئة بعيدة كل البعد عن قيم ومعاني العلم والمعرفة الحقيقية. فكلام الأستاذ غالباً ما يكون عبارة عن نصّ نثري طويل ممل، والطلبة عبارة عن أجهزة تصنّت جامدة، يحفظون بملل قاتل ما يُملَى عليهم من قِبل سيادة البروفيسور الزائف، وذلك من أجل اجتياز امتحان لعين آخر.
إنك عندما تدخل إلى أحد أقسام المدرسة تجد فيه عدداً كبيراً من التلاميذ الذين يعامَلون كأنهم شخصا واحداً، دون أية مراعاة لحقيقة أن طرق التعليم كثيرة ومتنوعة وأن لكل شخص طريقته في التعلم، فالذي يجد مشكلة في التعلّم من خلال الطرق السمعية، مثل الاستماع إلى مُدَرِّسِهِ ساعة كاملة أو ساعتين، ربما يميل أكثر إلى الطرق المرئية مثل مشاهدة بعض الأفلام القصيرة، أو النظر إلى بعض الصور التي تبين وتشرح الموضوع المراد تعلمه.
والشخص الذي يتعلم بسرعة أكبر وهو متواجد مع مجموعة من أصدقائه، لا ينبغي أن تطبق نفس آليات تعلمه على من يجد صعوبة في ذلك، أو من يحب الدراسة بمفرده. فكلاهما يريدان تعلم الشيء ذاته، لكن لكلٍّ طبيعته وطريقته في التعلم، ولكلٍّ مزاجه وحالته الخاصة.
لا تتعجب من أولئك الأشخاص المثقفون الذين يفضلون عدم تسجيل أبنائهم في المدارس سواء كانت خصوصية أو عمومية، وذلك ليس لأنهم لا يستطيعون ذلك، بل لأنهم يفضلون تعليم أبنائهم بأنفسهم من خلال مناظرتهم بشكل تغيب فيه الأوامر والواجبات والقيود الفكرية، وفي جو تطغى عليه الحرية.
وللتقريب سأذكر مثالاً قام بذكره أحد الرحالة المغاربة في لقاء تواصلي معه، وهذا المثال لبروفيسور في أحد الجامعات المرموقة في المغرب، حيث أن هذا البروفيسور لم يسجل ابنه أبداً في أية مدرسة عمومية، والشيء العجيب أن ابنه الصغير هذا يملك رصيداً معرفياً كبيراً، ومما ذكره أيضا أنه في يوم من الأيام ذهب الابن إلى والده وأخبره أنه يريد تعلّم الحروف والأرقام، وبعد ذلك بمدة وجيزة لم تمتد إلى شهر واحد فقط كان الابن قد تعلمها وأصبح متمكناً منها، تماماً كالطفل الذي أمضى عشر سنوات في تعلمها.
فالأول نظر إلى المادة نظرة حُبّ وشغف، والثاني نظر إليها نظرة جامدة لا روح فيها. ويمكنك ملاحظة الاختلاف في طول المُدتين، فثلاثون يوما ليست مثل 3652 يوما.
تستوقفني دائما الخطوة التي قام بها الفيلسوف الفرنسي المعاصر
“ميشيل أونفري“، في المضي إلى الأمام بفكرة أن التعليم حق للجميع، وليس من حق أحد أن يقننه، أو أن ينزع الروح منه، أو أن يجعله يوافق هواه فقط، أو أن يجعله خاصاً به بصفته رجلاً نخبويّاً، ويقصي منه عامة من يريدون اكتساب وتبادل وتداول المعرفة والعلم من عامة الشعب.
ما قام به هذا الفيلسوف الذي أُكِنُّ له كل الاحترام والتقدير هو تطبيق كل تلك الأفكار وتلخيصها في شعار مفاده أن الفلسفة حق للجميع، وذلك في مشروع أسسه سنة 2002، وسمَّاهُ “الجامعة الشعبية”. والهدف من هذا المشروع هو الترحيب بكل من يريد أخذ دروس في الفلسفة وما يجاورها من فَنّ وتاريخ، وكل ذلك بالمجان، وبدون أية شروط غبية مثل الشواهد الدراسية.
بل حتى لو كان الرجل لا يعرف القراءة والكتابة فهو مرحب به في تلك الجامعة المقدسة، التي ما كان لها أخيراً إلا أن يكون النجاح حليفها، وتُلهِم أناسا آخرين في أماكن أخرى للقيام بنفس الأمر في فرنسا وغيرها.
يقول أونفري في كلام له ينتقد فيه الرسميات والمظاهر المتعبة للإنسان العصري:
“نعثر في المتحف الهيدوني على العراة، السكارى، الشواذ، الملحدين، الموسيقيين، المتسكعين، الأطباء المغتربين، الشعراء المتوحدين، الفلاسفة المُهَمَّشين. كل هؤلاء فضلوا المأدبة والحانة على الأكاديمية والجامعة، والسجن على المؤسسة، والشارع أو الساحة على المكتبة أو الكنيسة. هاجسهم هو أن يعيشوا فلسفتهم وأن يفكروا في حياتهم ويتأملوها. الأخلاق في نظرهم هي فَنّ العيش اليومي وليس علم التَّقنِينَاتِ والنواهي والأوامر الكابحة…”
هنالك الكثير من العظماء يكرهون فكرة المنافسة، فهي غالباً لا تورث إلا الكره والعداء والغرور في رأيهم. إن الثقافة التي يجب أن تُستبدل بها المنافسة في نظري هي فكرة المشاركة. إنني أراهن على أن في مكان مثل الجامعة الشعبية لن تجد هنالك ما يسمى بالمنافسة، فالأفراد هنالك يحاولون بكل سرور تداول ما يتعلمونه فيما بينهم، ومن يجهل شيئا يحاول الآخر أن يُعَلمه له، وهكذا.. ولو كانت مثل هذه الثقافة منتشرة في المدارس النظامية، أجزم أنها كانت ستحقق نتائج عجيبة!
إن من الكتب التي كان ولايزال لها الأثر البالغ على تفكيري الخاص في هذا الموضوع، والتي أرى شخصيتي مجسّدة في بعض فصولها هي رواية
“تحت العجلة” للكاتب الألماني العبقري هيرمان هِسِّه. ففي هذه الرواية الساحرة أسلوباً ومعنى قام الكاتب بكشف نظام التربية والتعليم على حقيقته؛ هذا النظام الذي يحاول القضاء على مواهب الطلبة، وجعلهم مُجرّد مقلدين، لا مكان للإبداع في دواخلهم، من خلال تدريسهم مناهج أكاديمية جامدة لا تتغير إلا للأسوأ.
فكل السخط على هذه المناهج التي تحاول جاهدة غلق منابع المواهب في الدارسين بدل صقلها، بالرغم من أن أصحاب تلك المناهج يزعمون عكس ذلك أحيانا!
نحن الآن نتواجد في القرن الواحد والعشرين، أي في زمن الإنترنت، وهذا الأخير جعل عملية التعلّم سهلة بشكلٍ كبيرٍ جداً. فكل العلوم النظرية التي يوَدُّ المرء تعلمها يمكن إيجادها في هذا العالم الامتناهي من المعرفة. الشرط الوحيد هو عملية بحث بسيطة!
فإذا كنتَ تودّ مثلاً تعلّم لغة من اللغات، فالمواقع الخاصة بذلك تُعد بالمئات، وإذا كنت تَوَدُّ تعلم علم من العلوم، الشرط الوحيد لذلك كما ذكرت هو عملية البحث البسيطة تلك، إضافة إلى الوقت.
إن من أهم مظاهر تبسيط المعرفة وجعلها متاحة للجميع في الوقت الحالي هو ظاهرة الترجمة التي انتشرت بشكل واسع في الآونة الأخيرة. زيادة على الدورات أو الكورسات المباشرة التي انتشرت بشكل لا يصدق أيضاً، حتى أنها أصبحت تُبَثُّ من أرقى الجامعات في العالم. وهناك الكثير من المواقع العربيّى مثل موقع أراجيك الذي يحاول دائماً إبلاغها للقارئ العربي الباحث عن المعرفة في شتى مجالاتها،
من خلال تجربتي مع التعليم النظامي، كنت أقابل أحياناً بعض الأساتذة والمعلمين الذين كانوا يحاولون الخروج عن مسطرة المنظومة التعليمية الفاشلة، رغم نسبتهم القليلة التي لا تتعدى في نظري الواحد في المائة. لكنهم دائما ما كانوا يُثَبَّطون ويُواجَهُون من قِبل هذه المنظومات. وإن كان أحدهم يقرأ هذا المقال، حتى ولم لم نتقابل يوماً، فليعلم أنني لم أقصده شخصياً، بل الكلام ومجراه جَعَلتُهُ في كامل المقال عامّاً