النتائج 1 إلى 3 من 3
الموضوع:

مقامات الزهراء عليها السلام

الزوار من محركات البحث: 75 المشاهدات : 519 الردود: 2
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    صديق فعال
    تاريخ التسجيل: August-2013
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 942 المواضيع: 113
    صوتيات: 0 سوالف عراقية: 3
    التقييم: 358
    مزاجي: متفائل
    آخر نشاط: 11/March/2018
    مقالات المدونة: 2

    مقامات الزهراء عليها السلام

    المقام الاول
    القرآن و مقامات فاطمة (عليها السلام)

    الصفحة 12
    13


    اذا كُنا في مقام البحث عن مقامات فاطمة (عليها السلام)، فانّ القرآن قد تكفّل ذكر بعض فضائلها، اذ أمكن تتبع ما نزل من القرآن فى شأنها(1)(عليها السلام)، فاجتمعت أكثر من ستين آية تشهد لها بالفضل والفضيلة والمقام المنيع في الدين والأصل الأصيل فى الاعتقاد الواجب على كل مكلّف التدين به وان لها من الحقوق الجمّة اللازم التسليم بها عدا ما اشتركت مع آل البيت(عليهم السلام) من آيات صريحة، فحسبنا ما ذكره القرآن من شهادة، فهل بعد شهادة الله شهادة؟ وهل بعد تزكيته تزكية؟ فطوبى لها من ذكر خالد، وحسنُ مآب، ورفيع مقام الهي.
    ____________
    1- كتاب صدر بعنوان: "ما نزل من القرآن فى شأن فاطمة الزهراء(عليها السلام)" أُحصي فيه أكثر من ستين آية أعدها المؤلف من مختصات فاطمة عدا ما ذكرت من آيات مشتركة مع أهل البيت(عليهم السلام). والكتاب من منشورات دار الكتاب الاسلامي قم المقدسة.

    الصفحة 14

    الصفحة 15

    المقام الثاني
    فاطمة (عليها السلام) و حجّيتها على الأئمة(عليهم السلام)

    الصفحة 16

    الصفحة 17

    الجهة الأولى: حجّيتها على الأئمة(عليهم السلام)
    لما كانت علّة الخلق هي عبادة اللّه تعالى لقوله: {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون}(1) فانّ العبادة لا تتم إلا بمعرفته تعالى، ومعرفته لا تتم إلا برسله وأوليائه، اذ هم حججه على العباد في كل زمان فهم الطريق اليه والمسلك الى سبيله.
    عن هشام بن الحكم عن أبي عبدالله(عليه السلام)...قال: "انّما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء فى خلقه، يُعبّرون عنه الى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم وفى تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم فى خلقه والمعبرون عنه جلّ وعزّ وهم الأنبياء(عليهم السلام) وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين
    ____________
    1- الذاريات: 56 .

    الصفحة 18
    للناس على مشاركتهم لهم فى الخلق والتركيب فى شيء من أحوالهم، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة ثم ثبت ذلك فى كل دهر وزمان ممّا أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علمٌ يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته"(1).
    فالحجّة اذن هو الدليل الى الله تعالى يُحذّر به عباده وينذرهم ويهديهم.
    فمقام الحجية إلهي تصل بوساطته العلوم الإلهية اللدنيّة الى عباده.
    واذا كان أهل البيت(عليهم السلام) حجج الله على خلقه فانّ أمّهم فاطمة حجة الله عليهم، وهي ما صرّحت به رواية العسكرى(عليه السلام): "نحن حجة الله على الخلق، وفاطمة(عليها السلام) حجّة علينا"(2)، ويشهد لهذا المعنى ما ورد عن مصادر علومهم (عليهم السلام) كالجفر والصحيفة والجامعة، وأن منها مصحف فاطمة(عليها السلام) مما يدلّ على كونها واسطة علمية بين الأئمة(عليهم السلام)وبين اللّه تعالى في العلم المحفوظ فى مصحفها المتعلق بما يكون الى يوم القيامة، فهي حجة في هذا العلم الجم على الأئمة(عليهم السلام)يأخذون به، نظير حجية النبي(صلى الله عليه وآله)
    ____________
    1- الكافى، كتاب الحجة1: 128 .
    2- تفسير أطيب البيان 13: 235 .

    الصفحة 19
    فى شأن القرآن الكريم الذى هو مصدر علوم الأئمة (عليهم السلام) كما في الروايات الآتية.
    ولا يخفى أن وساطتها(عليها السلام) لذلك العلم ليس عبر نقش وخط ذلك المصحف، اذ الوجود الكتبي لمصحفها وجود تنزلي تنزيلي لحقائق ذلك العلم الذي ألقي إليها، فوساطتها بلحاظ عالم الأنوار لهم(عليهم السلام) فقد روى فراتى الكوفي في تفسيره، قال: حدّثنا محمّد بن القاسم بن عبيد معنعناً عن أبي عبداللّه(عليه السلام) أنّه قال: "(انّا أنزلناه في ليلة القدر)الليلة فاطمة والقدر اللّه، فمن عرف فاطمة حقّ معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، وانّما سميت فاطمة، لأن الخلق فطموا عن معرفتها، وقوله (وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر)يعني خير من ألف مؤمن، وهي أمّ المؤمنين، (تتنزل الملائكة والروح فيها)والملائكة المؤمنون الذين يملكون علم آل محمد(صلى الله عليه وآله) والروح القدس هي فاطمة(عليها السلام)(باذن ربّهم من كلّ أمر سلام هي حتّى مطلع الفجر)يعني حتّى يخرج القائم(عليه السلام)"(1)
    فقد روى زرارة عن حمران قال سألت أبا عبداللّه(عليه السلام) عمّا يفرّق في ليلة القدر هل هو ما يقدر اللّه فيها؟ قال: "لا توصف قدرة اللّه، إلا أنه قال (فيها يفرق كل أمر حكيم) فكيف يكون
    ____________
    1- تفسير فرات الكوفي: 581 طبعة طهران 1416هـ.

    الصفحة 20
    حكيماً إلا ما فُرق، ولا توصف قدرة اللّه سبحانه لأنه يحدث ما يشاء. وأما قوله (ليلة القدر خير من الف شهر) يعني فاطمة(عليها السلام)، وقوله (تتنزّل الملائكة والروح فيها) والملائكة في هذا الموضع المؤمنون الذين يملكون علم آل محمّد(عليهم السلام)و(الروح) روح القدس، وهو في فاطمة(عليها السلام) (من كل أمر سلام) يقول من كل أمر مسلّمة (حتّى مطلع الفجر) يعني حتّى يقوم القائم(عليه السلام)"(1) وكما هو الحال في وساطة النبي(صلى الله عليه وآله)لايصال القرآن لهم، ففي صحيحة زرارة قال: "سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: لولا أننا نزداد لأنفدتا، قال قلت: تزدادون شيئاً لا يعلمه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، قال: أما إنّه إذا كان ذلك عرض على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ثم على الأئمة ثم انتهى الأمر الينا".
    وفي رواية عن أبي عبداللّه(عليه السلام) قال: "ليس يخرج شيء من عند اللّه عزّوجلّ حتّى يُبدأ برسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ثم بأمير المؤمنين(عليه السلام) ثم واحداً بعد واحد لكي لا يكون آخرنا أعلم من أولنا"(2) فالوساطة ليست في خصوص الوجود الكتبي للقرآن، بل في ايصال الحقائق النورية للقرآن الى أنوار أرواحهم(عليهم السلام)، فالالقاء والتلقي نوريٌ بلحاظ نشأة الملكوت المطوي في وجوداتهم وأرواحهم
    ____________
    1- تأويل الآيات الظاهرة: 791 والظاهرة أنّه أخرجه عن تفسير محمّد بن عباس.
    2- الكافي 1: 255 .

    الصفحة 21
    كما يشير اليه قوله تعالى: {انّه لقرآن كريم في كتاب مكنون}(1).
    وقد بيّن الإمام أبو عبدالله الصادق(عليه السلام) ما يتضمنه هذا المصدر العلمى الإلهى في رواية بقوله: "انّ فاطمة مكثت بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)خمسة وسبعين يوماً، وكان دخلها حزنٌ شديد على أبيها، وكان جبرئيل(عليه السلام) يأتيها فيُحسن عزاءها على أبيها ويُطيّب نفسها ويُخبرها عن أبيها ومكانه، ويُخبرها بما يكون بعدها فى ذريتها، وكان علي(عليه السلام) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة(عليها السلام)"(2).
    وفي رواية أخرى يبيّن الإمام(عليه السلام) جانباً آخر من جوانب ما يتضمنه هذا المصدر الالهي، ففي حديث قال أبو عبدالله(عليه السلام): "ومصحف فاطمة ما أزعم انّ فيه قرآناً وفيه ما يحتاج الناس الينا ولا نحتاج الى أحد حتى أنّ فيه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش..."(3).
    ولعل الرواية الأخرى تفيدنا جانباً آخر مما يتضمنه مصحف فاطمة(عليها السلام):
    عن أبي عبدالله(عليه السلام): "الى أن قال: وانّ عندنا لمصحف
    ____________
    1- الواقعة: 77 .
    2- الكافي كتاب الحجة باب فى ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة(عليها السلام)1: 188 .
    3- بصائر الدرجات باب فى الائمة (عليهم السلام) أعطوا الجفر والجامعة ومصحف فاطمة(عليها السلام): 150 .

    الصفحة 22
    فاطمة(عليها السلام) وما يدريهم ما مصحف فاطمة(عليها السلام) قال: قلت: وما مصحف فاطمة(عليها السلام)؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد"(1).
    وقوله(عليه السلام): "والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد" ليس المراد منه خلو القرآن الكريم عن ذلك العلم المودع فى مصحف فاطمة(عليها السلام) اذ القرآن تبيان كل شيء، بل المراد أن ليس فيه من ألفاظ وآيات وكلمات القرآن شيء، اذ علمها(عليها السلام) بذلك بنزول جبرئيل عليها هو ما سيأتي بيانه من كونها مطهرة تُمسُ القرآن الكريم فى الكتاب المكنون، واللوح المحفوظ الذي يستطرُ فيه كل غائبة ورطب ويابس وما كان وما يكون، فعلمها بذلك هو من العلم بحقيقة القرآن العلوية، لا هو شيء خارج عن حقيقة القرآن، غاية الأمر أن تلك الحقيقة بالألفاظ الموجودة بين الدفتين وما علمت به(عليها السلام)كالشرح لبطونه وحقائقه التكوينية العلوية. ويشهد لذلك رواية أخرى عن مصحفها(عليها السلام) وهي ما رواه الطبري في دلائل الإمامة من معتبرة أبي بصير قال: "سألت أبا جعفر محمّد بن علي(عليهما السلام) عن مصحف فاطمة فقال: أنزل عليها بعد موت أبيها.
    قلت: ففيه شيء من القرآن.
    ____________
    1- الكافي 1، كتاب الحجّة باب مصحف فاطمة: 239 .

    الصفحة 23
    فقال: ما فيه شيء من القرآن.
    قلت: فصفه لي.
    قال: له دَفتان من زبرجدتين على طول الورق، وعرضه حمراوين.
    قلت: جعلت فداك فصفه لي ورقه.
    قال: ورقه من در أبيض، قيل له: كني فكان.
    قلت: جعلت فداك فما فيه؟
    قال: فيه خبرُ ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفيه خبر سماء سماء، وعدد ما في السماوات من ملائكة وغير ذلك، وعدد كل ما خلق اللّه مرسلا وغير مرسل، وأسمائهم، وأسماء من أرسل إليهم، وأسماء من كذب ومن أجاب، وأسماء جميع من خلق اللّه من المؤمنين والكافرين من الأولين والاخرين، وأسماء البلدان وصفة كل بلد في شرق الأرض وغربها، وعدد ما فيها من مؤمنين، وعدد ما فيها من كافرين، وصفة كل من كذب، وصفة القرون الأولى وقصصهم، ومن وليَ من الطواغيت ومدة ملكهم وعددهم، وأسماء الأئمة وصفتهم وما يملك كل واحد واحد، وصفة كبرائهم، وجميع من تردد في الأدوار.
    قلت: جعلت فداك وكم الأدوار؟
    قال: خمسون الف عام، وهي سبعة أدوار فيها أسماء جميع ما

    الصفحة 24
    خلق اللّه وآجالهم، وصفة أهل الجنّة، وعدد من يدخلها، وعدد من يدخل النار، وأسماء هؤلاء وهؤلاء، وفيه علم القرآن كما أنزل، وعلم التوراة كما أنزلت، وعلم الانجيل كما أنزل، وعلم الزبور وعدد كل شجرة ومدرة في جميع البلاد.
    قال أبو جعفر: ولما أراد اللّه تعالى، أن يُنزل عليها جبرئيل وميكائيل واسرافيل أن يحملوه فينزلون بها عليها، وذلك في ليلة الجمعة، الثلث الثاني من الليل، فحيطوا به وهي قائمة تصلي، فما زالوا قياماً حتّى قعدت، ولما فرغت من صلاتها سلّموا عليها، وقالوا: السلام يقرئك السلام ووضعوا المصحف في حجرها.
    فقالت: للّه السلام ومنه السلام، واليه السلام، وعليكم يا رسل اللّه السلام.
    ثم عرجوا إلى السماء. فما زالت بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس تقرأه حتّى أتت على آخره، ولقد كانت(عليها السلام) مفروضة الطاعة على جميع ما خلق اللّه من الجن والانس والطير والوحش،والانبياء والملائكة.
    قلت: جعلت فداك، فلمن صار ذلك المصحف بعد مضيها.
    قال: دفعته إلى أمير المؤمنين، فلما مضى صار إلى الحسن(عليه السلام)ثم الحسين(عليه السلام) ثم عند أهله حتّى يدفعوه إلى صاحب هذا الأمر(عليه السلام).
    فقلت: انّ هذا العلم كثير.

    الصفحة 25
    قال: يا أبا محمّد انّ هذا الذي وصفته لك لفي ورقتين من أوله، وما وصفت بعد في الورقة الثالثة(1) ولا تكلمت بحرف منه(2)".
    ويجدر التنبيه إلى أن اختلاف ألسن الروايات في كيفية مصحفها امّا راجع إلى تعدد صحفها(عليها السلام) أو الاختلاف في أبعاض المصحف الواحد أو وجوه أخرى لا تخفى على القارىء بعد ملاحظة مجموع الكلام في هذا المقام. ويدلّ على ظاهرها ومفادها من اشتمال مصحفها على كل صغيرة وكبيرة ورطب ويابس وجميع ما خلق مما كان وما يكون وما هو كائن، وعلوم الكتب السماوية وكما سيأتي في المقامات اللاحقة من كونها مطهرة كما في صورة الأحزاب، والمطهّر كما في سورة الواقعة يمس حقيقة القرآن العلوية المكنونة في الكتاب واللوح المحفوظ الموصوف بأنّه تبيان لكل شيء كما في سورة النحل، وهو الكتاب المبين كما في سورة الدخان، والكتاب المبين وهو الذي يستطر فيه كل غائبة في السماوات والارض كما في سورة النمل، وكل ما في البرّ والبحر وكل رطب ويابس كما في سورة الانعام، فمضمون هذه الرواية مما دلّت عليه تلك الآيات مضافاً إلى كون القرآن هو الكتاب المهيمن على بقية الكتب السماوية،
    ____________
    1- في نسخة الثانية بدلاً من الثالث.
    2- دلائل الإمامة للطبري: 27 .

    الصفحة 26
    فهو يحيط بها، فالذي يمسُ حقيقته العلوية تتنزل عليه مثل تلك الحقائق.
    وفي رواية ثالثة قال أبو عبدالله(عليه السلام): ".. وليخرجوا مصحف فاطمة فانّ فيه وصية فاطمة"(1).
    فلم يكن مصحف فاطمة عليها السلام مصدراً لجانب علمي معيّن، بل يعمّ علوماً عدّة أشار لبعضها الإمام(عليه السلام) كالحوادث الواقعة الى يوم القيامة أي ما كان وما يكون وما هو كائن الى يوم القيامة، فضلاً عن الأحكام التي يتضمنه مصحفها ليشمل حتى إرش الخدش، على أنا لا نغفل عن قول الامام(عليه السلام) من انّ مصحف فاطمة فيه وصيّتها (عليها السلام)، ووصيتها هذه تتضمن أمراً خطيراً هاماً لم يصرح به الامام إلا انّه يُشعر من كلامه مدى خطورة وصيّتها هذه، اذ قوله(عليه السلام) "وليخرجوا مصحف فاطمة" نوع تهديد وتحدي لبعض الجهات يكمن من خلاله أن في وصيتها (عليها السلام) توصيات الهية تعيّن الامام الذي امامته من عند الله تعالى، فالإيصاء بإمامة الأئمة (عليهم السلام)، مما يدل على أن العهد بإمامة الأئمة(عليهم السلام) من ذريتها هو من شؤونها(عليها السلام) اذ متعلق الوصية لابد أن يكون ممّا يشمله ولاية الموصي، ومن ثم كان الإمام السابق يوصي بإمامة اللاحق، وكوصية النبي(صلى الله عليه وآله) بإمامة علي(عليه السلام) والأئمة من ولده(عليهم السلام)ويصرّح
    ____________
    1- المصدر السابق: 157 .

    الصفحة 27
    بهذا المقام لها (عليها السلام) النص الوارد في نزول اللوح الأخضر عليها المتضمن لتعيين أسماء الأئمة(عليهم السلام)، ومن ثمّ يصح أن الائمة من ذريتها أوصياء لها كما هو الحال فى كون الامام اللاحق وصي الامام السابق، وكما ورد في زيارة الحسين(عليه السلام) وزيارة الرضا(عليه السلام)"السلام عليك يا وارث فاطمة..." الدال على وراثة إلهية بينها وبين الأئمة وعلى الاجمال فإن مقام الوصاية بالامامة مقام خطير إلهي نظير ما كان لمريم بنت عمران من مقام حيث ألقي اليها كلمة الله عيسى، وكان لها مسؤولية البشارة بنبوّة عيسى للناس.
    مما يعني أن لمصحف فاطمة(عليها السلام) شأناً في تحديد منصب الامامة الإلهية، ويدلل فى الوقت نفسه ما لفاطمة (عليها السلام) من صلاحية خاصة في تحديد معالم القيادة الاسلامية المتمثلة زعامتها الحقة في إمامة المعصومين (عليهم السلام) ويؤكد كذلك عِظم حجيتها(عليها السلام) في أخطر شأن من شؤون الدين والأمة وهو تحديد مناصب الإمامة الالهية، علماً انّ هذا التحديد سيكون على مستوى الوصية الالهية التي تلقى الى النبي(صلى الله عليه وآله) ليحمّلها فاطمة(عليها السلام)، ومن هنا سنرى مدى خطورة مسؤوليات فاطمة(عليها السلام)في رسم مبدأ مسار الأمة ومنتهاه الى يوم القيامة، وسيتّضح انّ من هذا القبيل أمراً خطيراً ومهماً، وهو مدى أهمية موقف فاطمة(عليها السلام)إبّان أحداث البيعة وتوجهات السقيفة، واعلان استنكارها لما

    الصفحة 28
    أقدمت عليه جماعة السقيفة وقتذاك، اذ يعني استنكار فاطمة (عليها السلام)على ما أقدم عليه القوم مخالفتهم للمسار الذي جعله الله تعالى ورسمه لهذه الأمة ما تعاقبت أجيالها بحسب ما عهد اليها (عليها السلام) من وصية في تعيين الامام وهو ما تكفّله مصحف فاطمة(عليه السلام) وستؤكد الرواية التالية ما نذهب اليه من أن هذه الوصية هي وحي إلهي ألقي الى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وألقاه إليها(عليها السلام).
    قال ابو عبدالله(عليه السلام) في حديث: "... وخلّفت فاطمة مصحفاً ما هو قرآن ولكنه كلام من كلام الله أُنزل عليها، املاء رسول الله وخط علي(عليه السلام)"(1).
    مضمون هذه الرواية أن بعض مصحفها هو من إملاء الرسول(صلى الله عليه وآله)بعد وفاته على فاطمة(عليها السلام) لا من نزول جبرئيل عليها نظير الرواية المتقدمة في أصول الكافي من أن ما ينزل من العلم المتجدد من الله تعالى على الامام الحي القائم بالأمر يتنزل أولاً على رسول الله(صلى الله عليه وآله) في نشأته الاخروية ثم على أمير المؤمنين(عليه السلام)ثم على الإمام اللاحق فاللاحق الى أن يصل فى تنزله على الامام الحي القائم بالأمر...
    مما يدلل على وساطة النبي(صلى الله عليه وآله) في علوم المعصومين (عليهم السلام)اللدنية منه تعالى، وفي الرواية اشارة الى أن علياً(عليه السلام) كان يخط ما
    ____________
    1- بصائر الدرجات: 156 .

    الصفحة 29
    يمليه ويلقيه له بالنبي(صلى الله عليه وآله) في تلك النشأة على فاطمة(عليها السلام)، وهذا نظير ما كان من شأن علي(عليها السلام) من أنه كان يسمع ما يسمعه النبي(صلى الله عليه وآله) من الوحي ويرى ما يراه النبي(صلى الله عليه وآله) كما ورد ذلك في روايات عديدة وكما نقل(عليه السلام) ذلك عن النبي(صلى الله عليه وآله) قوله "انك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي" في آخر الخطبة القاصعة من نهج البلاغة، ويقتضيه مفاد حديث المنزلة "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى" اذ كان ما يتنزل على موسى يسمعه ويراه هارون كما هو مفاد الآيات الكريمة المشتركة بينهما فيما ينزل: فالذي يتنزل هو على فاطمة(عليه السلام)، لكنه يسمعه علي(عليه السلام)، ونظير ما سيأتي من نزول الملائكة على مريم بل والوحي المباشر من الله تعالى لها، مع أنها لم تكن نبياً ولكن كانت آية من حجج الله تعالى. ثم أن في التصريح بأن ما نزل عليها كلام من كلام الله تعالى القدسي غير القرآني، تبيان لمقام حجيتها الإلهية.
    على أن مصحف فاطمة هو أحد دلائل إمامة الامام عند حيازته له.
    عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: "ما مات ابو جعفر(عليه السلام) حتى قبض مصحف فاطمة(عليها السلام)"(1).
    فمصحف فاطمة أحد المنابع العلمية التي يتزود منها الامام
    ____________
    1- نفس المصدر: 158 .

    الصفحة 30
    إبّان مهمته الإلهية، فضلاً عن كونه أحدى دلائل إمامته الحقّة.
    من هنا تبيّن أن حجية فاطمة (عليها السلام)على أبنائها الحجج المعصومين(عليهم السلام)، فهي الواسطة العلمية بين الله تعالى وبين الأئمة (عليهم السلام)ومن خلال العلم المحفوظ في مصحفها المتعلق بما يكون الى يوم القيامة، فحجيتها نظير حجية النبي(صلى الله عليه وآله) في شأن القرآن المجيد الذي هو مصدر علوم الأئمة(عليهم السلام) كما هو المقرر.
    كما تؤكد أن العلم الذي يتلقونه (عليهم السلام) عن مصحف فاطمة غير مقتصر على ما نقش من وجود كتبي في ذلك المصحف، بل هذا الوجود الكتبي تنزلي تنزيلي لحقائق ذلك العلم الذي أُلقي عليها كما تقدم، فوساطتها اذن بلحاظ عالم الأنوار لهم (عليهم السلام)، ويشهد لوساطتها لعلومهم وحجيتها روايات بدء الخلقة وخلقة أنوارهم واشتقاقها على الترتيب من نور النبي(صلى الله عليه وآله) ونور علي، ثم اشتقاق نور الحسنين من نورهم مما يدل على كون رتبتها بعد علي أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأن بقية أنوار الائمة(عليهم السلام)أُشتقت منها فهي واسطة فيض تكوينية لوجودهم وكمالاتهم وهو مقام رفيع وسرّ عظيم.
    ففي حديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) مسنداً عن سلمان قال: "دخلت على رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلمّا نظر اليّ قال: يا سلمان انّ الله عزّوجل لم يبعث نبياً ولا رسولاً إلا جعل له اثني عشر نقيباً، قال:

    الصفحة 31
    قلت: يا رسول الله قد عرفت هذا من الكتابين(1) قال: يا سلمان فهل علمت نقبائي الاثني عشر الذين اختارهم الله للامامة من بعدي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا سلمان خلقني الله من صفاء نوره فدعاني فأطعته وخلق من نوري علياً فدعاه الى طاعته فأطاعه، وخلق من نوري ونور علي(عليه السلام) فاطمة فدعاها فأطاعته، وخلق مني ومن علي ومن فاطمة الحسن والحسين، فدعاهما فأطاعاه، فسمّانا الله عزّوجل بخمسة أسماء من أسمائه: فالله المحمود وأنا محمد، والله العلي وهذا علي، والله فاطر وهذه فاطمة، والله الاحسان وهذا الحسن، والله المحسن وهذا الحسين.
    ثم خلق من نور الحسين تسعة أئمة فدعاهم فأطاعوه قبل أن يخلق الله سماء مبنية أو أرضاً مدحية، أو هواء أو ماء أو ملكاً أو بشراً، وكلنا بعلمه أنواراً نسبحه ونسمع له ونطيع"(2).
    فالخلقة والاصطفاء كما جرى على رسول الله (صلى الله عليه وآله)وعلي(عليه السلام)، جرى مثله على فاطمة (عليها السلام)، وهذا لعمري مقام خطير وشأن رفيع.
    كما أن اشتقاق نور علي من نور محمد ونور فاطمة من نور علي ونور الحسن والحسين من نور فاطمة وأنوار التسعة من
    ____________
    1- أي التوراة والانجيل .
    2- البحار 25: 6 .

    الصفحة 32
    ذرية الحسين من نور الحسين، دلالة على ترتيب النورانية وكون المتقدم واسطة فيض للمتأخر، لذا فانّ فاطمة(عليها السلام) تُعد واسطة فيض نورانية للأئمة(عليهم السلام) لتقدمها عليهم بالنورانية، وهذا معنى كونها واسطة إفاضة على أولادها المعصومين(عليهم السلام) فهي بالتالي حجّة عليهم.
    ومما يؤكد أنهم من نور واحد ما روي عن الرضا صلوات الله عليه: "..انّ الله تبارك وتعالى أوحى الى عمران: أني واهب لك ذكراً، فوهب له مريم، ووهب لمريم عيسى، فعيسى من مريم ومريم من عيسى، ومريم وعيسى شيء واحد، وأنا من أبي، وأبي مني، وأنا وأبي شيء واحد"(1).
    فاذا كان عيسى من مريم ومريم من عيسى شيء واحد، فكيف بمن كانوا أنواراً يسبّحون الله قبل الخلق بألفي ألف عام؟
    عنهم (عليهم السلام): "انّ الله خلقنا قبل الخلق بألفي ألف عام، فسبّحنا فسبحت الملائكة لتسبيحنا"(2) .
    فهم(عليهم السلام) من فاطمة، وفاطمة منهم.
    وهذا دليل قولنا: أنها (عليها السلام) واسطة فيض تكوينية لوجودهم وكمالاتهم صلوات الله وسلامه عليهم وعلى أمّهم سيدة نساء العالمين.
    ____________
    1- البحار 25: 1 .
    2- نفس المصدر.

    الصفحة 33
    فيتلخص بذلك وجهان لمقام حجّيتها على الأئمة(عليهم السلام):
    الأول: كون مصحفها مصدر من مصادر علوم الأئمة(عليهم السلام)ومعنى ذلك وساطتها العلمية المنصوبة من قبله تعالى للائمة.
    الثاني: اشتقاق نورهم(عليهم السلام) من نورها في بدء الخلقة وهو يستلزم مقام الحجية لهيمنة المتقدم على اللاحق.

    الصفحة 34

    الجهة الثانية: حجّيتها على الأنبياء المرسلين
    ويدلّ عليه من الكتاب بوجهين:
    الأول: كونها مطهّرة تمسُ الحقيقة العلوية الملكوتية للقرآن الكريم في اللوح المحفوظ كما تقدمت الاشارة إلى السور القرآنية الدالة على ذلك،وكما سيأتي في مقامات أخرى لاحقة والذي يُحيط بعلم الكتاب المهيمن على بقية الكتب السماوية السابقة يفضل على أصحاب تلك الكتب، حيث وصفت توراة موسى بأن فيه تبيان من كل شيء لا تبيان لكل شيء، فضلاً عن بقية الكتب.
    الثاني: قوله تعالى {وعلّم آدم الأسماء كلّها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا انّك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلّما أنبئهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس ابى واستكبر وكان من

    الصفحة 35
    الكافرين}(1)
    وقوله تعالى: {قال يا ابليس ما منعك أن تسجد لِما خلقت بيدي أَستكبرت أم كنت من العالِين}(2).
    فظاهر هاتين الآيتين والتي استعرضت كذلك في سور أخرى، من أنّ هذه الأسماء كانت موجودة حيّة شاعرة عاقلة، لأن الضمير واسم الإشارة المستخدم في الآيات المزبورة عائدة إلى العاقل الحي الشاعر، ومقتضى حصول آدم على شرف الخلافة الالهية واسجاد الملائكة كلهم أجمعون خاضعين طائعين له كان بسبب تشريفه بالعلم بتلك الموجودات الحيّة الشاعرة، مما يفضي بشرافة مقام تلك الموجودات الحيّة الشاعرة العاقلة على مقام آدم فضلاً عن جميع الملائكة، ومما يقضي أن خلفاء اللّه من الانبياء وجميع المرسلين أوصيائهم الذين يندرجون تعاقباً في قوله تعالى (واذ قال ربّك للملائكة انّي جاعل في الأرض خليفة) انّما يشرفون ويؤهلون بمقام الخلافة الإلهية في الأرض، انّما هو بتوسط تشريفهم بالعلم بتلك الوجودات الحيّة الشاعرة العاقلة، والتي أشار اليها تعالى في سورة ص بالعالين لأنّه تعالى حصر ما سوى آدم في قوله (أستكبرت أم كنت من
    ____________
    1- البقرة 31 - 34 .
    2- طه: 75 .

    الصفحة 36
    العالين)كونه دون آدم فيكون عدم سجود ابليس استكباراً، أو هو من العالين الذين لا يخضعون لآدم ولا لطاعته بل يفوقونه، وليس أولئك إلا الموجودات الحيّة الشاعرة العاقلة الذين ببركتهم شرّف آدم بذلك المقام،فكيف يكونون دونه خاضعين وطائعين له؟
    ومقتضى وصف اللّه تعالى لعلم آدم بتلك الموجودات بأنه غيب السماوات والأرض ولأجل ذلك لم تحط الملائكة علماً بتلك الموجودات لأنها بالنسبة إلى السماوات والأرض غيب أي ليست مشهودة فيها، ومقتضى كل ذلك كون تلك الموجودات الشاعرة الحيّة العاقلة هي من الأنوار المخلوقة قبل السماوات والارض قبل الملائكة وقبل آدم، وهو قوله(صلى الله عليه وآله): "أول ما خلق اللّه نور نبيك يا جابر" وان تلك الأنوار الحيّة الشاعرة العاقلة ليست هي نور آدم ولا نور الأنبياء والمرسلين، وإلا لكان آدم عالماً بذاته ولما احتاج أن يعلم بموجودات غير ذاته، وكذلك لما احتاج بقية الأنبياء والمرسلين في استخلافهم عن اللّه في الأرض إلى تعلّم تلك الأسماء مع أن الآيات قاضية بأن مقام الخلافة الإلهية عن اللّه انّما يستأهلها افراد البشر من الأنبياء والمرسلين والذي كان آدم هو المصداق الأول انّما يستأهلونها بالعلم بتلك الموجودات كسنّة إلهيّة دائمة كلية في مقام جعل الخليفة في الأرض.

    الصفحة 37
    وهذا المفاد لهذه الآيات متطابق للروايات الواردة عنهم(عليهم السلام)في ذيل هذه الآيات، وقد تضمنت تلك الروايات التنبيه على دلالةوظهور الآيات على مثل ذلك وانّها في الأنوار الخمسة(عليهم السلام)كما في روايات اشتقاق النور كما تقدم وسيأتي مفصلاً كذلك.
    أمّا من السنّة:
    فالأول: فهي روايات بدء الخلقة الآنيّة حيث دلّت على أنّ أول ما خلق نور سيد الرسل(صلى الله عليه وآله) ثم نور علي(عليه السلام) ثم نور فاطمة(عليها السلام) ثم الحسنين(عليهما السلام) ثم نور التسعة من ذرّيّة الحسين(عليهم السلام) مما يدلّ على تقدم خلقتهم النورية على سائر الأنبياء والرسل وبالتالي حجّية تلك الأنوار عليهم صلوات اللّه عليهم .
    الثاني: أخذ ولايتها وطاعتها على الأنبياء، وهو مستفاد من الوجه الثاني المتقدم في الكتاب، وقد تقدم في رواية دلائل الإمامة حول مصحف فاطمة(عليها السلام)عن أبي بصير وقوله(عليه السلام): "ولقد كانت(عليها السلام)مفروضة الطاعة على جميع من خلق اللّه من الجن والانس والطير والوحش والأنبياء والملائكة"(1)، وفي رواية بصائر الدرجات عال اسنادها عن حذيفة بن أسعد قال: "قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): ما تكاملت النبوّة لنبيّ في الأرض حتّى عرضت عليه ولايتي
    ____________
    1- دلائل الإمامة: 27 .

    الصفحة 38
    وولاية أهل بيتي(عليهم السلام)فمثلوا له فأقرّوا بطاعتهم وولايتهم"(1).
    الثالث: ما روي من قولهم(عليهم السلام) "لولا أنّ أمير المؤمنين تزوجها لما كانت لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمن دونه"(2).
    وقد أشار إلى ذلك المجلسي(رحمه الله) بقوله: انّه يستدلّ به على كون علي وفاطمة(عليهما السلام) أشرف من سائر أولي العزم سوى نبيّنا(صلى الله عليه وآله)إلى غير ذلك من الوجوه الروائية التي لا مجال لهذا المختصر من ذكرها.
    ____________
    1- وقد أورد المجلسي باباً ذكر فيه ستّين رواية ذكر فيها تفضيلهم(عليهم السلام) على الأنبياء راجع البحار 26: ص267 .
    2- البحار 43: 10 .

    الصفحة 39

    الصفحة 40

    المقام الثالث
    مريم بنت عمران مثل ضربه الله لفاطمة(عليها السلام)

    الصفحة 41
    قال تعالى: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين}(1).
    عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه قال: "ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها مثلاً ضرب الله لفاطمة(عليها السلام) وقال: انّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذريتها على النار"(2).
    وقبل ذلك، لابد من التنبيه الى قاعدة في باب المعارف أشارت اليها روايات أهل البيت(عليهم السلام) وهي أن ما ذكر في القرآن الكريم من الأنبياء والرسل والأوصياء والحجج وما لهم من مقامات ومناصب وشؤون إلهية ان من غاياته المهمة كونه مثلاً ضربه الله تعالى لمقامات وشؤون النبيّ وأهل بيته (عليهم السلام)، وهذه القاعدة باب ينفتح منه أبواب عديدة.
    فالمماثلة بين حالتي فاطمة(عليها السلام) وبين مريم(عليها السلام) تتم من وجوه قرآنية ـ قرآنية أي ستكون المقارنة بينهما على أساس استقراء
    ____________
    1- التحريم: 12 .
    2- البرهان في تفسير القرآن: 3:245 .

    الصفحة 42
    قرآني للآيات الواردة في مقامات مريم (عليها السلام) وبين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في مقامات فاطمة(عليها السلام) لنجد مدى الترابط الوثيق ووضوح المشتركات التي تؤهّل الباحث من متابعة أوجه التشابه بين المقامين.
    مقامات السيدة مريم (عليها السلام)
    اذا كانت مريم(عليها السلام) قد فضّلها الله بكمالات تقارب كمالات الأنبياء والرسل وهي سيدة نساء عالمها فكيف بسيدة نساء العالمين من الأولين والأخرين فاطمة بنت محمد صلوات الله عليها.
    عن المفضل بن عمر قال: "قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) أخبرني عن قول رسول الله في فاطمة: أنها سيدة نساء العالمين، أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال: تلك مريم كانت سيدة نساء عالمها، وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين"(1).
    والمراد من قوله تعالى {انّ اللّه اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين}(2) ليس مطلق العالمين إلى يوم القيامة، بل هو عالم زمانها بقرينة نظير قوله تعالى في بني اسرائيل
    ____________
    1- دلائل الامامة للطبري 540 مؤسسة الاعلمي بيروت.
    2- آل عمران: 42 .

    الصفحة 43
    {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنّي فضلتكم على العالمين}(1) وقوله تعالى على لسان موسى خطاباً لبني اسرائيل {قال أغير اللّه أبغيكم إلهاً وهو فضلّكم على العالمين}(2) وكذا قوله تعالى {ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين}(3) وقوله تعالى {ولقد اخترناهم على علم على العالمين}(4) فانّه ليس المراد تفضيلهم على كل الأمم وانّما المراد بها تفضيلهم على عالمين زمانهم لقوله تعالى {كنتم خير أمّة أخرجت للناس}(5) وقوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}(6) مما يعني أنّ هذه الأمة هي أفضل من بني اسرائيل مما يعني أنّ هذه الأمة وإن أريد منها بعض الأمة الاسلامية، مضافاً إلى ما سيأتي من دلالة الآيات من افضلية مقامات الزهراء(عليها السلام)على مريم(عليها السلام).
    فالمراد إذن من اصطفاء مريم على العالمين هو عوالم الأمم من العرقيات والأقوام والملل والنحل التي كانت تعيش في
    ____________
    1- البقرة: 7و122 .
    2- الاعراف: 140 .
    3- الجاثية: 16 .
    4- الدخان: 32 .
    5- آل عمران: 110 .
    6- البقرة: 143 .

    الصفحة 44
    زمانها من شرق الأرض وغربها.
    ولكي نستقرأ مقامات فاطمة (عليها السلام) يجدر بنا أن نتعرض للاشارات القرآنية عن مقام مريم (عليها السلام) ليتبيّن لنا مقامات سيدة نساء العالمين، عندها فلا تكون أية غرابة فيما تعتقده الامامية من مقامات فاطمة(عليها السلام)وسيتبين من النصوص القرآنية النازلة فيها انّ تلك المقامات حاصلة للصديقة(عليها السلام)، بغض النظر عن الاولوية المتقدمة ويكون ما ورد في مريم(عليها السلام) ما هو إلا مبين ما قد ورد فيها(عليها السلام)وستكون الأولوية حاكمة في معرفة وبيان مقاماتها بعد ذلك.
    أولاً: مريم وتحديث الملائكة لها
    ان ما ذكرناه من الاشارة الى مصحف فاطمة (عليها السلام) وكيفية نزول جبرئيل عليها ليسليها بمصاب أبيها بعدما دخلها من الحزن الشديد، لم يكن ذلك إلا حالة من حالات الوحي، إلا أنه وحي غير نبوي أثبته القرآن في مواضع عديدة لرجال ونساء كاملين في مقام الحجية لقوله {ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً}(1) ومعلوم أن ما وقع لمريم (عليها السلام)من وحي هو قسم أعظم من نزول جبرئيل(عليه السلام) وذلك لحصول القسم
    ____________
    1- الشورى: 51 .

    الصفحة 45
    الأول لها مضافاً الى الثالث كما أن تقديم ذكره في الترتيب في قوله تعالى (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً)لشرفيته على القسمين الثاني والثالث وهو الايحاء من وراء حجاب وارسال رسول يوحي باذن الله تعالى، والشاهد على حصول الأول لها قوله تعالى: (قالت ربّ أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء اذا قضى أمراً فانّما يقول له كن فيكون ويعلمه....)وفاعل قال ههنا هو الله تعالى لأنها وجهت قولها مخاطبة الله تعالى متصلاً بالآيات السابقة في سورة آل عمران (اذ قالت الملائكة يا مريم ان اللّه يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة...)ففي الآيات السابقة الاشارة الى نزول الملائكة عليها وقولها لها بالبشارة. ويشهد لكون الخطاب والقول هو من الله تعالى في الآية المزبورة، أن القول لم يكن من جبرئيل كما قد يتوهم اذ أن تمثّل جبرئيل لها والذي تستعرضه سورة مريم كان بعد مدة زمنية فاصلة عن نزول الملائكة بالبشارة، ويشهد لذلك أيضاً أن مريم(عليها السلام)أعادت تعجبها (قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّاً قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن ولأجعله آية للناس ورحمة منّا وكان أمراً مقضياً)من دون توجيهه الى الله تعالى، وكانت اجابة جبرئيل لها بتذكيره لجواب الله تعالى المتصل ببشارة الملائكة

    الصفحة 46
    في سورة آل عمران. وعلى ذلك فيظهر من سورة آل عمران أن الوحي الذي حصل لمريم بُعيد الوحي بتوسط الملائكة بالبشارة، هو من الوحي بدون وساطة الرسول الملائكي ولم يكن تكليماً من وراء حجاب أي أنه من النمط الأول من أقسام الوحي المشار اليه في سورة الشورى وهو أعلى أنماط الوحي كما يدلّ عليه الترتيب الذكري، وهو لا يحصل في الغالب إلا للأنبياء المرسلين من طبقة أولي العزم وفي بعض حالاتهم. فهذه منقبة ومقام عظيم يتلوه القرآن الكريم لمريم بنت عمران. كما أن مفاد الوحي لمريم هو ابلاغها بنبوّة عيسى وبعثته بشريعة الانجيل، فكان تصديقها بكلمات الله وكتبه بتوسط الوحي الذي حصل لها، لا عبر نبيّ مرسل وهو زكريا(عليه السلام) أو يحيى(عليه السلام) وقبل تولّد ابنها النبي عيسى(عليه السلام)، فكانت قد أوكل اليها مسؤولية ابلاغ نبوة عيسى(عليه السلام) الى الملأ من قومها، وهذا نظير ما ورد في الصديقة الزهراء(عليها السلام) من نزول اللوح الاخضر عليها المتضمن لأسماء الائمة (عليهم السلام)وما ورد من أن مصحفها(عليها السلام)متضمن للوصية بالامامة في ذريتها. كما أنها كانت محدثة من قبل الملائكة كما كانت مريم مع أنها ليست بنبي، وقد روى الصدوق في علل الشرائع عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) قال:

    الصفحة 47
    "سمعت أبا عبدالله(عليه السلام)يقول: انّما سميت فاطمة(عليها السلام)محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء تناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة انّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها قالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: ان مريم كانت سيدة نساء عالمها وان الله عزّوجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين"(1).
    على أن مريم أوحي اليها وكلّمتها الملائكة ولم تكن نبيّاً ولا رسولاً، فالتحديث لم يقتصر اذن على نبويّة الموحى اليه، بل يكفي ذلك أن يكون من حجج الله تعالى كما هو الحال في مريم(عليها السلام) اذ كلّمتها الملائكة وحدّثتها بالبشارة، وقد دلّت مجموعة آيات على تحديثها منها:
    قوله تعالى: {واذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا اليها روحنا فتمثّل لها بشراً سوياً، قالت إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا، قال انّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكياً، قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا، قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا وكان أمراً مقضياً}(2).
    ____________
    1- علل الشرائع للصدوق: 183 .
    2- مريم: 16 - 21 .

    الصفحة 48
    محاورة بين مريم وبين الوحي تُبيّن الاصطفاء الالهي المقدس الذي حضيت به مريم(عليها السلام)، فتمثّل جبرئيل بشراً سوياً ليُلقي لها البشارة من الله تعالى ويكشف ذلك عن الدرجة التي بلغتها مريم كحجة من حجج الله تعالى، اذ التمثّل هذا نظير التمثّل الذي حدث لابراهيم(عليه السلام) عند اتيانه البشارة كما في قوله تعالى: {ولقد جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى}(1) فكان البشارتين كانتا في سياق واحد، وهو منح ابراهيم اسحاق ويعقوب نبيين، كما منحت مريم (عليها السلام) عيسى نبياً مرسلاً، فالتشابه في مهمتي نبي الله ابراهيم لتلقيه البشرى في اسحاق ويعقوب كمهمة مريم في تلقيها البشارة الالهية في عيسى(عليه السلام)، وهذه البشارة الالهية لها دلالاتها الخطيرة في مهام المبشر فضلاً عن المبشَّر به.
    على أن حالتي التمثّل لدى نبي الله ابراهيم(عليه السلام) هي نفسها حالة التمثل التي حصلت لمريم (عليها السلام)، والتمثل لم يكن تغيّراً في المتمثل حقيقة، بل هو تغير في ظرف الادراك، فلا تغير اذن في الخارج ولا في نفس الماهية الملكية للوحي.
    ومن هنا سيتبيّن عِظَم مسؤولية مريم (عليها السلام) من كونها في مصافي الانبياء، وممن هداهم الله واجتباهم من غير النبيين وهي مريم (عليها السلام)التي تحتل مقام الحجية لله تعالى بما يقارب حجية
    ____________
    1- الشورى: 70 .

    الصفحة 49
    الأنبياء إلا في خصوصيات النبوّة والرسالة.
    ولم تقتصر حالة التكليم للملائكة من قبل مريم، بل تترقى الى الوحي المباشر مع الله تعالى مع أن وحي الله تعالى كان قبل تمثّل جبرئيل لها.
    قال تعالى حكاية عن مريم: {قالت ربّي أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء اذا قضى أمراً فانّما يقول له كن فيكون}(1).
    فالوحي الالهي المباشر الذي حظيت به مريم(عليها السلام) يكشف عن خطورة المنزلة التي تحتلها مريم(عليها السلام)، اذ الوحي الالهي المباشر لا يختص به إلا بعض الأنبياء وفي أوقات خاصّة، وهذا نظير ما حدث لزكريا(عليه السلام) حين كلّمته الملائكة وبشرته بيحيى ومن ثم كان وحي الله تعالى له مباشرة يكشف عن حقيقة مهمة، وهي تشابه حالتي زكريا ومريم في تلقي البشارة وتكليم الملائكة لهما ومن ثم تكليمها الله تعالى، فحالتا الاصطفاء والبشارة كما حدثت لنبي الله زكريا حدثت مثلها وفي ظرف زماني متقارب لحجة الله مريم(عليها السلام)، دليل على التقارب بين مهمتي المقامين، أي مقام النبوّة لزكريا، ومقام الحجية لمريم، والآيات التالية تتكفّل ببيان المقام، قال تعالى:
    ____________
    1- آل عمران: 47 .

    الصفحة 50
    {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب انّ الله يُبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً في الصالحين، قال ربّ أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء}(1).
    فتوارد النظائر في الحالتين دليل على وجود ترابط ظاهر أو خفي بين حالتي نبوّة زكريّا وحجية مريم (عليها السلام)، والنظائر الواردة في الآية للحالتين كما يلي:
    اتيان البشارة لزكريا وتكليمه الملائكة أثناء عبادته لله تعالى فقال تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب}(2).
    كما أن البشارة لمريم وتكليمها الملائكة حين قيامها لله تعالى منتبذة قومها قائمة لله قال تعالى {واذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا اليها روحنا فتمثّل لها بشراً سوياً}(3).
    وتكليم نبي الله زكريا لله تعالى بلا واسطة، قال تعالى حكاية عن زكريا: {قال ربّي انّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء}(4)
    ____________
    1- آل عمران: 38 - 40 .
    2- آل عمران: 38 .
    3- مريم: 15 - 17 .
    4- آل عمران: 40 .

    الصفحة 51
    وهو نظير ما حدث لمريم(عليها السلام)، قال تعالى حكاية عن مريم: {قالت ربّ أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء}(1).
    فكلاهما عرضا مقتضي الامتناع عن قابليتهما لبشارة الغلام، اذ احتج زكريا كون امرأته عاقراً غير مقتضية للحمل وهي في هذا السن المتقدم، ومريم احتجت بكونها غير قابلة للحمل لعدم امكان ذلك من دون زوج، وكان جوابه تعالى لهما واحداً: (قال كذلك الله يفعل ما يشاء)مما يدلل على وحدة المقام لكلا الحالتين حالة زكريا وحالة مريم فضلاً عن ارتباط المهمتين، والتشابه بين البشارتين تتكفله سورة مريم، قال تعالى: {انّ الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله}(2). على أنا لا نغفل عما تقدم من دعاء زكريا من كون دعائه في طلب الولد كان معللاً بخوفه الموالي من بعده أن لا يحسنوا خلافته، اذ كان زكريا مشفقاً على دعوته أن لا يخلفها أحد من بعده، فهو سيخلف من ورائه موالي سوء، لا يحسنون خلافته في دعوته فضلاً عن وراثته مما ترك، مما يعني أن يحيى سيواجه خطر التنافس على وراثة أبيه فضلاً عن عدم التصديق به من قبل قومه ومواليه، وكون هؤلاء يتحينون
    ____________
    1- آل عمران: 47 .
    2- آل عمران: 39 .

    الصفحة 52
    موت زكريا ليتوثّبون على خلافته، وسيكون لمريم وابنها أثراً مهماً في تأييد دعوة يحيى وتصديقه، إتماماً لرسالة زكريا ودعوته وحفظهما من الضياع الذي سيؤل اليه تنافس قومه، فمريم(عليها السلام)سيكون موقفهما موقف المدافع والمصدّق لرسالة زكريا في حفظ يحيى من تكذيب قومه ووثوبهم على خلافته، لكونهما يشتركان في نفس المهمة.
    وسيأتي التماثل بين فاطمة وبين مريم في مقامي الحجية، فانّ فاطمة(عليها السلام) أيضاً أثبتت بحجيتها خلافة رسول الله(صلى الله عليه وآله)المتمثلة في علي بن أبي طالب(عليه السلام) إبّان صراعها ومدافعتها المتوثبون للخلافة حيث تحفزوا أن يخرجوا وراثة الرسول(صلى الله عليه وآله)من آله عليهم السلام، تماماً كما تماثلت ظروف وراثة زكريا وما آلت اليه الخلافة الالهية ليحيى حيث قتلوه ونكلوا به أخيراً.
    حجية مريم بنت عمران (عليها السلام)
    وحجية مريم صرّح بها القرآن بقوله تعالى {وجعلنا ابن مريم وأمّه آية}(1) والآية هي الحجة أي جعلنا عيسى وأمّه حجة، عن يحيى بن أبي القاسم عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قول الله
    ____________
    1- المؤمنون: 50 .

    الصفحة 53
    عزّوجل(وجعلنا ابن مريم وأمّه آية) قال: {أي حجّة}(1)، فحجيّتها (عليها السلام) في عرض حجية ولدها نبي الله، بل حجيتها سبقت حجية عيسى، كما أن حجية عيسى تلت حجيتها زماناً واقتضاءً.
    فالترتب الزماني بين الحجتين ظاهر، اذ كان تكليم الله لها وكذلك الملائكة قبل ولادة عيسى بفترة، على أن السبق الزمني لا يكون بالضرورة لخصوصية معينة، وانّما هي أشبه بحالات ارهاص لنبوّة عيسى(عليه السلام) ولا شك أنها خصوصية عظيمة ومنزلة رفيعة. فقوله تعالى (وجعلنا ابن مريم وأمّه آية)أي انّ المسيح وأمّه كليهما من أصول الديانة المسيحية بل من الاعتقادات اللازم الاعتقاد بها عند المسلمين أيضاً لوجوب الايمان بكل كلمات الله وآياته وكتبه ورسله وآياته وحججه لقوله تعالى {آمن الرسول بما أُنزل اليه من ربّه والمؤمنون كلٌ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورُسله لا نُفرق بين أحد من رسله}(2)، أي انّ مريم(عليها السلام) من الحجج الالهية. كما سيأتي بيان الآيات الأخرى المفسرة لمعنى كونها آية.
    كما أنها مقتض لنبوّة عيسى(عليه السلام) لكونها قد حضيت بتكليم
    ____________
    1- البرهان 3: 113 .
    2- البقرة: 285 .

    الصفحة 54
    الله تعالى فضلاً عن تحديث الملائكة لها، وتلقيها البشارة كما أن تبتلها ومقامها وفضلها كان احدى مرتكزات بني اسرائيل كما يشير الى ذلك قوله تعالى {وما كنت لديهم اذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم}(1) وقوله {وأنبتها نباتاً حسناً وكفّلها زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا}(2) مما أكد على مصداقيتها لديهم فكان قبول معجزة عيسى ونبوّته بعد ذلك احدى موجبات حجيتها لديهم، لذا فان أخيارهم وعقلائهم قبلوا المعجزة وسلّموا لها، وبقي جهالهم وطغاتهم يخوضون في بهتانها وايذاءها وهو شأنهم.
    فأمُر الله تعالى لها بتحمّل مسؤولية الانجاب بطريقة المعجزة من دون زوج احدى مقتضيات نبوّة عيسى وشريعته المباركة، فحجيتها(عليها السلام)هي من حيث أنها المبلّغ الأول لبعثة النبي عيسى وشريعته المسيحية، حيث أنها أمرت من قبل الله تعالى بتحمل مسؤلية الانجاب بطريقة المعجزة من دون فحل ليمهد الطريق لبيان المعجزة لنبوّة عيسى وشريعته، ثم أمرت من قبله تعالى بحمله والمجيء به الى بني اسرائيل وأن لا تكلمهم وأن تشير اليه ليستنطقوه فيتكلّم في المهد فهي قد قامت بكل هذه
    ____________
    1- آل عمران: 44 .
    2- آل عمران: 37 .

    الصفحة 55
    المسؤوليات الموظفة من قبله تعالى لها لتبليغ واظهار المعجزة الاولى على نبوّة عيسى(عليه السلام) وكان ذلك عن اعتقاد منها بنبوة عيسى بتوسط ما أوحي لها من دون وساطة النبي زكريا أو غيره من الانبياء في زمانه، فهي ابتدأت بابلاغ شريعة جديدة من دون أخذ هذا الامر الالهي ذو الشأن العظيم الخطير من نبي ولا رسول ولا بوساطة النبي عيسى أيضاً، وهذا ما تعنيه الآية الكريمة (وجعلنا ابن مريم وأمّه آية) فلولا حجية مريم وحجية ما يوحى اليها لكان بامكانها ابطال المعجزة الالهية وهي ولادة عيسيى من دون أب، بأن تدعي ـ والعياذ بالله ـ أنه لقيط وجدته في الطريق أو أنها ولدته عن زوج غائب أو ما شابه ذلك، فانظر الى مقام كمال حجيتها ودورها في ابلاغ الرسالة في قوله تعالى (فأشارت اليه فقالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا). فهذاالنمط من المجاهدة والمخاطرة بالعرض بأمر من الله تعالى وتعيين منه، فهو حكمة بالغة من الله تعالى في اختيار هذا النمط من الجهاد، بحيث لا يتأدى اقامة الدين إلا بذلك من دون تدنس وابتذال في العِرضْ ولا زوال لطهارته وعصمة مناعته، وانّما هي مخاطرة ظاهرية بالسمعة، وهذا نظير ما وقع لعترة النبي(صلى الله عليه وآله) بعد واقعة كربلاء المفجعة، حيث كان فضح بني أمية وزيغهم، عن الدين وعدائهم لصاحب الرسالة لا يتم إلا بالمخاطرة بعيالات النبوة

    وتعريضهم للسبي من قبل بني أمية، ووقوف عقيلة بني هاشم وخفِرة الطالبيين في مجلس الطاغية ابن زياد ومجلس يزيد والقاء خطبها لبيان حقانية سيد الشهداء(عليه السلام) وبطلان بني أمية وحزبهم.
    اذن فما جرى للسيدة مريم (عليها السلام) من المخاطرة بحرمتها وقدسيتها قد جرى على حرمة وقدسية فاطمة(عليها السلام) اذ خاطرت بحرمتها وقدسها في الذب عن امامة علي(عليه السلام) وذلك بالتصدي للمهاجمين على بيته(عليه السلام)، فكان في ذلك فضح لكل ستار يتخفى من ورائه أصحاب السقيفة لغصب الخلافة وتحريف مسيرتها في الامة، ومن ثَم أحس الخليفة الاول بانتصار قضية علي(عليه السلام) في الامامة، وادحاض دعواه وصحبه فلم يمسك غيضه حتى تكلم بهجين الكلام وهو على منبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) كما نقل ذلك ابن ابي الحديد(1).
    فبلوغ مريم الى مراتب الحجية كان سبباً في تأسيس الشريعة العيسوية واكتمالها.
    كما أن حمل المولود المعجزة والمجيء به الى قومها تُعد احدى أخطر مهامها وأصعبها تحمّلاً فهي مجاهدة ومخاطرة بالعِرض وهو أشد للغيارى من قتل النفس. اذ لم يكن من اليسير
    ____________
    1- شرح النهج16: 215 .

    الصفحة 57
    أن تتحمل أقدس عفيفة في زمانها مسؤولية التهمة والبهتان ومحاولة تحدي أمّة لم تصل الى مستوى الرشد، بل لازالت في حضيض الجهل والسوء فكانت معاناتها النفسية مما هي فيه من الاستحياء ومخافة اللوم ما ادّى بها الى تمني الموت {قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً}(1) قال ابو عبدالله الصادق(عليه السلام): "لأنها لم ترَ في قومها رشيداً ذا فراسة ينزّهها من السوء"(2) مما يكشف شدة معاناتها ووطأة المهمة الملقاة على عاتقها، الا أن ذلك لم يفتَّ في عضدها، ولم يحبط همّتها، ولم يزعزع تسليمها وانصياعها وطاعتها لله تعالى ولأمره شعرة، بل ذهبت مع ما فيها من آلام التوجسات والخواطر، تحمل ولدها المعجزة لتثبت بكل تسليم واقتدار تحمّل المسؤولية المباركة، ويكشف في الوقت نفسه ما وصلت اليه من الاكتمال في التسليم والانصياع وتحمل المسؤولية من حين تحديثها الملائكة وقبولها لذلك، ولم يصدر منها أدنى تردد أو اعتذار لقبول المهمة، مما يعني بكل تأكيد كونها طرفاً مهماً في بلوغ الرسالة العيسوية هذا المبلغ من الاقتدار على تحدي طغام بني اسرائيل ولئامهم وزحفها مخترقة كل حواجز اليهودية المتربصة
    ____________
    1- مريم: 23 .
    2- كنز الدقائق 8: 210 .

    الصفحة 58
    لرسالات السماء. فتلخص:
    أولاً: أن الذي بدأ بإبلاغ بعثة النبي عيسى هي مريم(عليها السلام) وهو نمط فريد في بعثة الرسالات الالهية أن يكون الحامل الاول للبعثة هي امرأة.
    ثانياً: انّه يدلل على كمال ايمان مريم بما اوحى لها من الاوامر الالهية من دون توسط نبي فيما بينها وبين الله تعالى.
    ثالثاً: انّه يدل على حجية الوحي للمرأة المصطفاة المطهرة، ولو قدّر ـ العياذ بالله ـ أن مريم لم تؤمن بما اوحي اليها ولم تمتثل ما أمرت به مباشرة لكان في ذلك إحقاق للمعجزة الالهية على نبوّة عيسى وبعثته بديانة ناسخة لشريعة موسى(عليه السلام)، أي ولادته من غير أب، فمن ثم كانت عصمة مريم وانها من الصفوة المنتجبة للحجية على العباد آية الهية مع إبنها، على حقانية بعثة ونبوّة وشريعة النبي عيسى(عليه السلام) في زمانه، فمن ثَم جُعلت من أصول الديانة والشريعة العيسوية كما قال تعالى (وجعلنا ابن مريم وأمّه آية) بل هذه الآية الالهية واجبة الاعتقاد في الشريعة الاسلامية لوجوب الاعتقاد بكل آيات الله وكلماته وكتبه ورسله، وسيأتي نظير هذا المقام للزهراء(عليها السلام) حيث احتج الله تعالى بها على حقانية نبوّة سيد المرسلين وبعثته وشريعته كما في آية المباهلة، واعطاها الله تعالى مقام ودور صاحب الدعوة للدين

    الصفحة 59
    من قبله تعالى، وأن الخمسة أصحاب الكساء صادقون فيما يبلغونه عن الله تعالى من شريعة الاسلام ونبوّة سيد الرسل.
    كما أن حجية مريم(عليها السلام) اصلاً من أصول الديانة المسيحية، اذ كونها هي وابنها آية، أي حجة يجب على معتنقي المسيحية التسليم لها وقبولها والاعتقاد بها فهي المتمم لحجية عيسى ورسالته.
    فنرى أن القرآن الكريم في السور العديدة لا يدحض اعتقاد المسيحيين والنصارى في جعلهم مريم وعيسى كليهما من أصول الاعتقاد والديانة بل يدحض تأليههم لهما، فلا يخطّئهم في كونهما من أصول الدين بل غاية الامر أنه يحدد غلوهم الذي هو في تأليههم في مريم وعيسى، فيؤكد القرآن على بشريتهما مع تصريحه بكونهما معاً آية وحجّة.
    قال تعالى: {واذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم ءأنت قُلتَ للناس اتخذوني وأُمّي إلهين من دون اللّه}(1) وقوله تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمّه صديقة كانا يأكلان الطعام}(2).
    ____________
    1- المائدة: 116 .
    2- المائدة: 75 .

    الصفحة 60

    مراحل الاعداد والاصطفاء
    ولم تزل مريم ابنت عمران تحضى برعاية الرب ورضوانه طالما نذرت نفسها لطاعته وعبادته وانقطاعها اليه، فيغدقها بالرحمة ويحبوها بالكرامة ومن ثم يصطفيها لحجيته ويطهرها على نساء العالمين.
    ولم يكن الاصطفاء إلا بعد مراحل تتدرج فيها مريم ابنت عمران فقبولها من قبل الله قبولاً حسناً وانباتها إنباتاً حسناً ومن ثم فهي تحت قيمومة النبوّة ورعاية الرسالة، أمر موجب لخصائص الاصطفاء والتطهير لتلك المرأة التي سلّمت ارادتها للمرأة الصالحة ـ امرأة عمران أمّها التقية ـ حين نذرت ما في بطنها محرراً لله تعالى، وبالفعل تستجيب تلك الطاهرة لارادة الله فتنقاد مسلّمة لطاعته وعبادته، وهي أول مرحلة تظهر فيها مريم قابليتها على الاصطفاء وقدرتها على تلقي ارادات الله تعالى، وإلا فمن غير اليسير أن تستجيب فتاة في الانقطاع عن الدنيا وملذاتها لتبتلها للوفاء بنذر أمّها حتى كانت تحت ارادتها طيّعة بارّة مطمئنة بقضاء الله تعالى عابدة متبتلة بكل ايمان وشوق وانقياد مما يكشف عن مكنون الايمان الذي أودع في

    الصفحة 61
    مطاوي تلك النفس الكريمة واستحقاقها بكل جدارة تحمّل المسؤولية الإلهية في الحجية والاصطفاء قال تعالى: {اذ قالت امرأة عمران ربّ انّي نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبّل منّي انّك أنت السميع العليم، فلما وضعتها قالت ربّ انّي وضعتها انثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وإنّي سميتها مريم وانّي أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفّلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله انّ الله يرزق من يشاء بغير حساب}(1).
    فالاعداد لكي تكون مريم محلاً صالحاً للحجية يجري تحت رعاية الله تعالى وبقيمومة زكريا نبي الله الذي أوكل بمهمة الاعداد هذه.
    ومن هنا فستكون مراحل الاعداد لفاطمة الزهراء(عليها السلام) تشمل مرحلتين:
    الاولى: اعداد النبي (صلى الله عليه وآله) لتلقي هذه الكرامة وقبولها.
    والثانية: اعدادها(عليها السلام) تحت رعاية الرسالة وقيمومة النبوّة، وقد قال تعالى في مناقب مريم (وكفّلها زكريا)، وفاطمة(عليها السلام) قد كفّلها سيد الانبياء فضلاً عن سيد الأوصياء، فتلك المنقبة لها بنحو أرفع
    ____________
    1- آل عمران: 35 - 37 .

    الصفحة 62
    وأعظم.
    اذن فبعدما بلغت مريم مراتب الكمال لقابلية الاصطفاء نادتها الملائكة ببشارة الاصطفاء {واذ قالت الملائكة يا مريم انّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين}(1) والآية معطوفة على قوله تعالى {انّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين}(2) مما يعني انّ اصطفاء مريم كان بمستوى اصطفاء الانبياء من آدم ونوح وآل ابراهيم أي اصطفاءً نبوياً تختلف ماهيته بحسب حيثيات النبوّة والامامة التي لا تكون إلا في سنخ الرجال بخصوصيات ليس هنا محل بحثها.
    فاصطفاءها الاول هو قبولها لعبادة الله ومن ثم تطهيرها بعصمة الله وبالتالي اصطفائها لحجيته، فمراحل الاصطفاء تتدرج من نشأتها وتترقّى بتطهيرها وتكتمل بحجيتها.
    التشريك في النعمة... تشريك في الحجّية
    واذا خصّ الله عيسى برسالته وهو نبيّه، فانّ مريم ابنت عمران اشتركت في نعم الله السابغة مع نبيّه، أي تكون الاشتراك في النعمة دالّة على القرب الى الله ورفيع المنزلة والكرامة لديه،
    ____________
    1- آل عمران: 42 .
    2- آل عمران: 33 .

    الصفحة 63
    مما يعني وجود اشتراك في سنخية المهمة بين عيسى ومريم ابنت عمران، قال تعالى {اذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك اذ أيّدتك بروح القدس تكلّم الناس في المهد وكهلاً واذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل واذ تخلق من الطين كهيئة الطير باذني فتنفخ فيها فتكون طيراً باذني وتُبريء الاكمه والابرص باذنّي واذ تخرج الموتى باذني واذ كففت بني اسرائيل عنك اذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم انّ هذا إلا سحر مبين}(1).
    وهذه النعمة نعمة لدنيّة الهية خاصة بالمصطفين من اوليائه نظير قول سليمان {ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ}(2) وهي النعمة التي أشار اليها تعالى عندما ادرج مريم في مصافي الانبياء والرسل في سورة مريم حيث قال تعالى (ذكر رحمة ربّك عبده زكريا)وقال: (واذكر في الكتاب مريم)بعد ذكر يحيى ثم ذكر عيسى فقال (واذكر في الكتاب ابراهيم انّه كان صديقاً نبيا) ثم ذكر اسحاق ويعقوب ثم قال(واذكر في الكتاب موسى انّه كان مخلصاً نبيا)ثم قال (واذكر في الكتاب اسماعيل انّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً)
    ____________
    1- المائدة: 110 .
    2- النمل:19 .

    الصفحة 64
    ثم قال(واذكر في الكتاب ادريس انّه كان صديقاً نبياً)وكان قد ذكر لكل واحد منهم ما وهب الله له، فوهب لزكريا يحيى ووهب لمريم عيسى، ووهب لابراهيم اسحاق ويعقوب، ووهب لهم من رحمته وجعل لهم لسان صدق ووهب لموسى أخاه هارون نبيا، ثم قال تعالى في نهاية المطاف {اؤلئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية ابراهيم واسرائيل وممّن هدينا واجتبينا اذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً}(1) فأدرج مريم في من هدى واجتبى في مصافي الانبياء، وانّ نعمة الاجتباء والاصطفاء في مضاهاة نعمة النبوّة لكونهما من النعم اللدنية من نعم الله تعالى.
    فتماثل النعمة دالّ عليه الذكر المشترك الذي عنى بهما القرآن لقوله تعالى (اذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك)فعدم اختصاصه بالنعمة واشتراك والدته بالذكر دليل على النعم المشتركة التي فضل الله بهما حجية عيسى ومريم، فالامتنان الالهي على كلا المذكورين يستوجب اشتراكهما بجميع ما أوردته الآية الكريمة.
    ____________
    1- مريم: 58 .

    الصفحة 65

    الاعتقاد بحجية مريم ومقامها من خصوصيات الدين الاسلامي
    على أننا نؤكد في الوقت نفسه أن هذا الاعتقاد بحجية مريم ومقامها احدى خصوصيات دين الاسلام الحنيف، الذي تؤكد تعظيم مقام المرأة وامكانها بلوغ الكمال والرشد، وذلك بفضل الطاعة لله تعالى والتقوى والعفّة، ولا يكتفي الاسلام بالشعارات التافهة التي ترفعها الحضارة الغربية والتي لم ترَ أدنى قابلية الرشد والكمال للمرأة كما تراه الاسلام في نماذجه الطاهرة العفيفة، كمريم بنت عمران وفاطمة الزهراء عليهما السلام، اذ دعوى الحضارة الغربية بالدفاع عن حقوق المرأة وتكريمها تتكاذب مع ممارساتها اللاانسانية في اضعاف مقام المرأة وتسقيطه الى مستوى العبث والمتعة، فضلاً عن الغاء اعتقادها بمقام مريم وعظمتها وشرف مسؤوليتها في انبثاق الديانة المسيحية لكمال حجيتها التي من المفترض أن تكون من دواعي الديانة المسيحية، إلا أن الحضارة الغربية المطالبة بحقوق المرأة تغفل عما حضيت به المرأة من المقام السامي والشأن الكريم لدى الدين الاسلامى، فالعقيدة الاسلامية بمقام السيدة مريم وجهدها في نشوء الرسالة العيسوية وحجيتها الالهية، فضلاً عن المسؤولية العظمى والحجية الكبرى التي تختص بها فاطمة الزهراء(عليها السلام) احدى دواعي الاعتزاز بهذين المقامين الشامخين

    الصفحة 66
    اللذين كرمهما الله تعالى بحجيته.
    فالمطالبة بحقوق المرأة تكمن حقيقته في تحديد رسالتها السامية بتربيتها للأمة تربية صالحة، وباستطاعتها كذلك هدايتها للامة هداية تتناسب وتوجهات سعادتها وكمالها كما هو الحال في شأن مريم بنت عمران(عليها السلام) وهدايتها للامة من خلال حجيتها التي منحها الله تعالى تكريماً لها، وكما في سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(عليها السلام) التي اثبتت لياقتها التامة في تحمّلها مسؤولية تشخيص الانحرافات العقائدية والسياسية بُعيد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله)مستخدمة حجيتها التي منحها الله تعالى، وهذا مالم تجده في أية حضارة اخرى تدّعي المطالبة بحقوق المرأة حتى تجعلها وسيلة لهو ومتعة تتداعى من خلالها كل شعارات الحرية الوضعية البعيدة عن النهج الرسالي القويم.
    الوسط الاسلامي...والتطرف المسيحي
    ولم تهتدِ المسيحية لابتعادها عن الحق في تشخصيص مقام مريم وابنها المسيح، فتطرّفت في ذلك حتى جعلت المسيح ثالث ثلاثة، وألّهت المسيح وأمّه، وقد عالج الاسلام هذه المشكلة الفكرية التي وقعت بها المسيحية لابتعادها عن حقيقة تعاليمها السماوية، وأبطل أول الأمر الألوهية لهذين العبدين

    الصفحة 67
    القانتين لله تعالى، وأكّد خضوع المسيح وعبوديته لله سبحانه {وقال المسيح يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربّي وربّكم انّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}(1) اذ حدد مهمة عيسى أولاً وهي العبودية المحضة والطاعة الخالصة لله الواحد الأحد، ودون ذلك شرك وظلم يستحق معتقده النار، ثم أشار الى بشرية مريم وأمّه وأكد أنهما بشرين وأنهما نالا مقام الحجية لله تعالى بطاعتهما وعبادتهما له، فأشار لاحدهما بالرسالة وللآخر بالحجّية بقوله {ما المسيح ابن مريم إلا رسولاً قد خلت من قبله الرسل وأمّه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبيّن لهم الآيات ثم انظر أنّى يؤفكون}(2)، فالاسلام أكد حدود بشريتهما أولاً ثم أشار الى حجيتهما ثانياً بطاعتهما وعبوديتهما لله تعالى، ومع ذلك كلّه لم يجد الكافرون غير التكذيب والأفك امّا معاداة أو علواً ومن ثم على الله تعالى بادعائهم ألوهيتهما، لذا فانّ القرآن يصرّح بكل شدة الى كفر من قال انّ المسيح هو الله، {لقد كفر الذين قالوا انّ الله هو المسيح ابن مريم}(3) ولم يكتفوا هؤلاء بغيّهم وكفرهم حتى جعلوا الله ثالث
    ____________
    1- المائدة: 72 .
    2- المائدة 75 .
    3- المائدة: 72 .

    الصفحة 68
    ثلاثة وأشار الى كفرهم {لقد كفر الذين قالوا انّ الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا اله واحد}(1) فقد دأب القرآن الكريم الى كشف هذه الاعتقادات المزيّفة وفضحها لغرض تقنين المعتقد وعدم تسيّب الفكر بسبب الدوافع العاطفية والتي تؤول الى فوضى فكرية حقيقية، فحدد القرآن معالم هذا المعتقد وأطّره ضمن مبادىء ومسلّمات عقائدية والخروج عن هذه الدائرة الفكرية سيؤول الى الغلو والضلال {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق انما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه فأمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم انّما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الارض وكفى بالله وكيلاً}(2).
    فالقرآن كما استنكر على النصارى غلوهم في المسيح وأمّه، كذلك استنكر على اليهود تقصيرهم في الاقرار بمقامهما والعداء لهما والخصومة، فهو كما ينفي الغلو ينفي التقصير في التسليم لهما في الحجية، فلا حجيتهما تستدعي الالوهية ولا بشريتهما تستدعي عدم الحجية وهذا ما يركز عليه القرآن الكريم في كثير من الانبياء والرسل كما في قوله تعالى تعليماً لنبيّه(صلى الله عليه وآله)
    ____________
    1- المائدة: 73 .
    2- النساء: 171 .

    الصفحة 69
    (قل انّما أنا بشر مثلكم يوحى اليّ)فالوحي لا ينفي البشرية ولا البشرية تنفي تميزه واختصاصه بالوحي، وقوله تعالى حكاية عن ابراهيم(يا أبت انّي قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً). وكذا بقية الانبياء حسبما يذكره القرآن الكريم مع أقوامهم فانهم في الغالب يقعون في أحد الطرفين اما التقصير وظن أن البشرية تنفي الحجية والارتباط بالغيب، أو الغلو وأن الارتباط بالغيب ينفي البشرية، كما حصل لليهود في عزيز، فالطريقة الوسطى والمحجة الواضحة هو نفي كل منهما، والتسليم بالحجية وأنهم بشر ينفي الافراط والتفريط، كما ينفي المعاداة لأولياء الله، فالوظيفة اتجاه حجج الله أن لا يكون الفرد من الغالين المفوضين، ولا من الناصبين المعاديين ولا من المقصرين المرتابين، كما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة: "فالراغب عنكم مارق واللازم لكم لاحق والمقصّر في حقّكم زاهق".
    فبعد أن حدد ماهية المسيح البشرية وأشار الى رسالته، نهى الخروج عن دائرة هذا التشخيص والقول بخلاف هذه الحدود البشرية لرسول الله المسيح وأمّه الصديقة.
    أما ما يشهد للتشريك بالحجية، فضلاً عن اشتراكهما في ذكر النعم والمنن عليهما من قبل الله تعالى فلقوله تعالى (وجعلنا ابن مريم وأمّه آية)والآية هي الحجة كما هو معلوم عن أبي

    الصفحة 70
    عبدالله(عليه السلام) في قول الله عزّوجل: (وجعلنا ابن مريم وأمّه آية)قال: "أي حجة"(1)، فاقترانهما في ذكر كونهما آية دليل على تقارب حجيتهما واشتراكهما كذلك.
    التشابه بين مقامي مريم وفاطمة(عليهما السلام)
    وغرضنا من الاسهاب في مقام مريم (عليها السلام) سيتضح اذا ما عرفنا أن وحدة المناط بين مقامي مريم وفاطمة عليهما السلام سيكون بالأولوية القطعية المسلّمة لدى الفريقين.
    فاذا كانت مريم سيدة نساء زمانها قد حازت على تلك المقامات السامية التي شهد بها القرآن الكريم من الاصطفاء والعصمة، فانّ فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والأخرين(2) ستكون لها تلك المقامات التي تثبت حجيتها كذلك بل انّ تصريح القرآن بمقامات فاطمة الزهراء(عليها السلام) يضاهي ويعظم عمّا صرّح به في مقامات مريم فيغنينا في الاستدلال عن الاولوية
    ____________
    1- البرهان: 3:113 .
    2- البخاري4:248، وفي مناقب فاطمة(عليها السلام) نفس الحديث وكذلك في مجلد8:79، وصحيح مسلم4:1904 حديث97، والحديث بلفظ سيدة نساء أهل الجنة ومعلوم، وجامع الاصول9:129 - 131 حديث6677 وطبعة دار احياء التراث ح6665 والترمذي5:701 حديث 3872 - 3878 وسنن أبي داود4:355 حديث98 و99، ومعلوم ان ذلك يؤول الى انها سيّدة نساء العالمين من الاولين.

    الصفحة 71
    وان كانت هي حقيقة ثابتة في روايات الفريقين فليس بدعاً اذن أن تعتقد الامامية ما تعتقده في فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فصريح القرآن يثبت حجية مريم بما لها من المقامات الالهية الثابتة وهي حجة لاحدى الشرائع السماوية فكيف بفاطمة الزهراء(عليها السلام) وقد أثبت لها صريح القرآن دخولها تحت عنوان أهل البيت الذي شمل نبي الشريعة الخاتمة! مما يعني أن هناك مقامات يشترك بها أهل البيت تخصصها بعد ذلك رتبهم الإلهية.
    قال تعالى: {انّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}(1).
    اتفق الفريقان على نزولها في أهل البيت، محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام).
    أخرج السيوطي عن ابن جرير وابن أبي حاتم والطبرانى وابن مردويه عن أمّ سلمة رضي الله عنها زوج النبي(صلى الله عليه وآله): أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان ببيتها على منامة له عليه كساء خيبري، فجاءت فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها حريرة فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "ادعي زوجك وابنيك حسناً وحسيناً" فدعتهم، فبينما هم يأكلون اذ نزلت على رسول الله(صلى الله عليه وآله)(انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)فأخذ النبي(صلى الله عليه وآله) بفضلة ازاره
    ____________
    1- الاحزاب: 33 .

    الصفحة 72
    فغشاهم اياها، ثم اخرج يده من الكساء وأومأ بها الى السماء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" قالها ثلاث مرات، قالت أم سلمة رضي الله عنها فأدخلت رأسي في الستر فقلت: يا رسول الله وأنا معكم فقال: "انك الى خير" مرتين(1) هذاما أخرجه أهل السنّة في شأن نزولها ولعلّ طرقها بلغت العشرات لتصل الى حد التواتر دون أدنى ريب.
    وما رواه الامامية من طرقهم كثير إلا أننا سنختصر على ما أورده صاحب البرهان في تفسيره من رواية عن أبي عبدالله(عليه السلام)عن أبي بصير قال: "سألت أبا عبدالله عن قول الله عزّوجل: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) قال: نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين(عليهم السلام) فقلت له: انّ الناس يقولون فما له لم يسمّ علياً وأهل بيته(عليهم السلام)في كتاب الله عزّوجل؟ قال: قولوا لهم انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً حتى كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) هو الذي فسر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يسمّ لهم من كل أربعين درهماً درهماً حتى كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) هو الذي فسّر ذلك لهم ونزل الحج فلم يقل لهم طوفوا سبعاً وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزلت
    ____________
    1- الدر المنثور 6: 603 دار الفكر بيروت.

    الصفحة 73
    أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم ونزلت في علي والحسن والحسين عليهم السلام فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) في علي من كنت مولاه فعلي مولاه، وقال(عليه السلام): أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي فاني سألت الله عزّوجل أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما على الحوض فاعطاني ذلك، وقال: لا تعلموهم فهم أعلم منكم وقال: ثم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة فلو سكت رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلم يبيّن من أهل بيته لادعاها آل فلان وآل فلان ولكن الله عزوجل نزل في كتابه تصديقاً لنبيّه(صلى الله عليه وآله)(انّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) فكان علي والحسن والحسين وفاطمة(عليهم السلام) فأدخلهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) تحت الكساء في بيت أمّ سلمة ثم قال: "اللهمّ انّ لكل نبيّ أهلاً وثقلاً وهؤلاء أهل بيتي وثقلي" فقالت أمّ سلمة ألست من أهلك؟ فقال: "انّك الى خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي" فلما قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله)كان عليّ أولى الناس بالناس لكثرة ما بلّغ فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله)وأقامه للناس وأخذ بيده فلما مضى عليّ لم يكن يستطيع علي ولم يكن ليفعل ان يدخل محمد بن علي والعباس بن علي ولا أحداً من ولده اذاً لقال الحسن والحسين ان الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك وأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلّغ فينا رسول الله(صلى الله عليه وآله) كما بلّغ

    الصفحة 74
    فيك واذهب عنا الرجس كما أذهبه عنك...(1)
    والذي يعنينا من هذه الرواية على طولها:
    انّ هناك اشتراك في حيثيات الحجية لأهل الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير وخصصتهم الروايات المتواترة من قبل الفريقين بأنهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، لذا فقول الامام(عليه السلام) "اذاً لقال الحسن والحسين انّ الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك، وأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلّغ فينا رسول الله(صلى الله عليه وآله) كما بلّغ فيك واذهب عنّا الرجس كما أذهبه عنك..." مما يعني ان إذهاب الرجس عنهم له خصوصية في اثبات الحجية، فكما سيحتج الحسنان لاثبات حجيتهما بآية التطهير فانّ لفاطة الحجية كذلك منتزعة من آية التطهير ولإذهاب الرجس عنها(عليها السلام). وتلخّص من ذلك: أنه كما أُثبتت حجية السيدة مريم(عليها السلام) باصطفائها وتطهيرها لقوله تعالى {واذ قالت الملائكة يا مريم انّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين}(2)أمكن اثبات حجية السيدة فاطمة(عليها السلام)باصطفائها وتطهيرها للأولوية، ووجه الاولوية أن فاطمة (عليها السلام) قد تم اصطفائها وتطهيرها بآية التطهير مع النبي(صلى الله عليه وآله) وعلي
    ____________
    1- البرهان في تفسير القرآن309.
    2- آل عمران: 42 .

    الصفحة 75
    والحسنان(عليهم السلام) الذين ثبتت حجيتهم القطعية لكون الآية مشيرة الى اشتراك الحكم بين أهل البيت(عليهم السلام) الذين كانوا تحت الكساء ومنهم فاطمة(عليها السلام). وخصوص المطهّر في الأمّة الاسلامية في شريعة هذا الدين قد أثبت له القرآن وصف آخر وهو مس الكتاب المكنون الذي فيه حقيقة القرآن وذلك في قوله تعالى {فلا أقسم بمواقع النجوم وأنه لقسم لو تعلمون عظيم انّه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من ربّ العالمين أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أن تكذّبون}(1) ففي الآية قد عظّم الله تعالى القسم فيها بوجوه عديدة لا تخفى على المتأمل في تركيب ألفاظ الآية التي قد تربو على السبعة وجوه كل ذلك لتأكيد القضية التي أراد القسم عليها ثم أكد القضية بوجهين آخرين أيضاً مما يدلّ على أن القضية خبرية وليست انشائية والمخبر به هو كون القرآن ذو حقيقة تكوينية مكنونة علوية، وأن المصحف المنقوش بين الدفتين تنزيل لتلك الحقيقة من دون تجافي تلك الحقيقة التكوينية المحفوظة في كِن القرآن عن موقعها العلوي، وأن تلك الحقيقة لا يصل اليها ولا يدركها الا المطهر في شرع الاسلام.
    والكتاب المكنون هذا الذي فيه حقيقة القرآن قد وصف في
    ____________
    1- الواقعة: 79 ـ 81 .

    الصفحة 76
    سورة الانعام بأنه الذي يُستطر فيه كل رطب ويابس، وفيه ما من غائبة كما في قوله تعالى {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}(1) وقوله تعالى {ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب}(2) وقوله تعالى {وما من غائبة في السماء والارض إلا في كتاب مبين}(3) وقوله تعالى {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة}(4)وقوله تعالى: {عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والارض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}(5) وقوله تعالى {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ان ذلك على الله يسير}(6). فقد وصف الكتاب بأوصاف جامعة محيطة بكل مغيبات الخلقة المستقبلية، ما هو كائن وما يكون وما هو خفي في النشآت العلوية، ومن ثم كان مصحف فاطمة(عليها السلام)مشتملاً على الأخبار
    ____________
    1- الانعام: 59 .
    2- الرعد: 39 .
    3- النمل: 75 .
    4- النحل: 89 .
    5- سبأ: 3 .
    6- فاطر: 11 .

    الصفحة 77
    بالأمور المستقبلية بما كان وما هو كائن، الدال على أن احاطتها(عليها السلام)بذلك لاحاطتها بحقيقة القرآن العلوية في الكتاب المكنون بعد دلالة آية التطهير كونها مطهرة من كل رجس ودلالة سورة الواقعة على أنّ كل مطهر في هذه الشريعة يمس الكتاب المكنون، وهذا مقام لم تصل اليه مريم، بل هو خاص كما ذكرنا بالمطهرين في شرع الاسلام دون المعصومين بل الشرائع السابقة.
    فاطمة(عليها السلام) فوق مقام الأبرار
    قال تعالى: {انّ الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً، عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً، يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً، ويُطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، انّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}(1).
    وصفٌ لحال الأبرار الذين نعموا برضوان الله تعالى وكرامته وبيان لمقامهم، وأظهر مصاديق هذا المقام الكريم انّهم يشربون كأساً صفته ممزوج بكافور.
    ثم تنتقل الآية الى وصف هذه العين التي هي شراب المقربين، وهي عين يتولى أمرها عباد الله اذ يفجرونها تفجيراً،
    ____________
    1- الدهر: 5 - 9 .

    الصفحة 78
    فمن هم هؤلاء الذين يتولون تفجير هذه العين وأمرها، ومن ثَمَ يسقون منها الابرار؟
    ان الآية تكفّلت ببيان هؤلاء المتولين لأمر هذه العين وهم عباد الله الذين صفاتهم :
    1 - يوفون بالنذر.
    2 - يخافون يوم القيامة الذي يكون شره مستطيراً مهولاً.
    3 - يطعمون المسكين واليتيم والأسير لله تعالى عطاءً خالصاً لا يرجون من غيره جزاءً ولا شكوراً.
    فمن هؤلاء اذن؟
    اتّفق الفريقان أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام).
    فقد أورد الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بأربع وعشرين طريقاً أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) وخلاصة القصة انّهم(عليهم السلام) السلام نذروا إن عوفي الحسنان أن يصوموا لله تعالى ثلاثاً، فلمّا عوفيا، وفوا بنذرهم فجاءهم في اليوم الاول مسكين فأعطوه طعامهم وسألهم في اليوم الثاني يتيم فأعطوه طعامهم ووقف ببابهم أسير فأعطوه طعامهم فباتوا ثلاثاً طاويين فانزل الله بهم هذه الآيات، فثبتت صفة عباد الله الذين يفجرون هذه العين لهم(عليهم السلام).

    الصفحة 79
    فاذن هم الذين يفجرون عين الكافور ويفيضون منها على الابرار ليمتزج شرابهم بقليل من العين أي أنها واسطة فيض على الابرار ولهم القيمومة التامة على ذلك، وهذا يطابق قيمومتهم على الابرار وانّهم المقرّبون في قوله تعالى: {كلا ان كتاب الابرار لفي عليين، وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون}(1).
    فشهادة كتاب الابرار من قبل المقربين دليل على قيمومة المقربين على الابرار وشهادتهم عليهم، فالمقربون هم الشهداء على كتاب الابرار أي أعمالهم، ولذلك ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة "أنتم الصراط الأقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء.." وفي موضع اخر من الزيارة "شهداء على خلقه وأعلاماً لعباده" هذه هي شهادة المقربون وهيمنتهم على الابرار، والمقرّبون هؤلاء هم السابقون الذين وصفتهم الآية بقوله تعالى{والسابقون السابقون اؤلئك المقربون}(2) مع أن سورة الدهر لم تزل في سياقات وصف المقربين وهم الذين يوفون بالنذر {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً انّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً انّا نخاف من ربّنا يوماً عبوساً قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك
    ____________
    1- المطففين: 18 - 21 .
    2- الواقعة: 10 - 11 .

    الصفحة 80
    اليوم ولقاهم نضرة وسروراً وجزاهم بما صبروا جنّة وحريراً متكئين فيها على الارائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذلّلت قطوفها تذليلا، ويطاف عليهم بآنية من فضّة وأكواب كانت قواريرا قوارير من فضة قدروها تقديرا ويُسقونَ فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا، عيناً فيها تسمى سلسبيلاً}(1) هذا حال المقربين، ويطابق هذا الوصف لعباد الله وارتفاع مقامهم عن الابرار ما في سورة المطففين من قوله تعالى{كلا انّ كتاب الابرار لفي عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون انّ الابرار لفي نعيم على الارائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون}(2) فهذه الآيات تشير ايضاً الى أن المقربين واسطة فيض للابرار وهم الذين يمزجون شراب الابرار بشيء من التسنيم، ولأنهم وسطاء فيض فهم يشهدون اعمال الابرار، وهذا يتطابق مع ما تقدم من أن المطهرين في هذا الشرع المقدس، المعصومين يمسون الكتاب في اللوح المحفوظ المكنون الذي يستطر فيه كل غائبة، ومنها أعمال العباد، فالمطهر هو المقرّب، وهم عباد الله الذين
    ____________
    1- الدهر: 7 - 17 .
    2- المطففين: 18 - 28 .

    الصفحة 81
    يسقون الابرار من عين يفجرونها تفجيرا، وهذه العين هي عين الكافور، وهي عين فوق مقام الابرار، والسلسبيل الذي هو مصدر المقربين والعين التي يسقون منها هو رسول الله(صلى الله عليه وآله) اذ هو القيّم على المقربين الذين هم أهل البيت(عليهم السلام) وهو مصدرهم.
    فتلّخص اذن أن الابرار يُسقون كأساً ممزوجة بالكافور، والمقربون هم مصدر الابرار، والسلسبيل مصدر المقربين التي يسقون ويُسقوْنَ منها، على أن السقاية من العين وتفجيرها، تعني أن المقرّبين هم واسطة افاضة على الابرار، الذين يفيضون بالنور والعلم والحكمة والهداية على الابرار، وهؤلاء المقرّبين وهم علي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)يُفاض عليهم من عين السلسبيل بواسطة رسول الله(صلى الله عليه وآله) فعلومهم وراثة من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) كما في الروايات الواردة عنهم، مما يعني أن المقربين هم في مقام الحجية والقيمومة المهيمنة على الخلق اذ قيمومتهم تصدر من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي ينص على حجيتهم وامامتهم بأمر الله تعالى.
    وبذلك يتّضح مقام فاطمة(عليها السلام) وكونها إحدى وسائط الافاضة على الخلق النابعة من مصدر إلهي يمثله رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وظهر أنّها شاهدة للّه على الخلق، وأنّها هادية لهم، وأنّها من الراسخين في العلم الذين يمسون الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ،

    الصفحة 82
    فهي من الذين أوتوا العلم وأثبت في صدورهم وأنها ممّن يُعرض عليها أعمال العباد.
    فاطمة (عليها السلام) من المطهرين الذين يمسون الكتاب
    واذا ثبت أن المطهرين هم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) بحكم آية التطهير(انّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) فانّ من خصوصيات المطهرين أنهم هم الذين يمسون كتاب الله تعالى {انّه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون}(1) أي لا يعلمه إلا المطهرون، ولا يعني المس هنا مس نفس الوجود الخطي والكتبي للقرآن الكريم، اذ لا معنى لذلك والآية في مقام الاشارة الى مكنونية هذا الكتاب بمثل هذا القسم المغلّظ الذي يتعلّق بالأمر الخبري لا الإنشائي، فلفظ (لا) في الآية نافية لا ناهية بل يقصد الاخبار، كما أنّه قد وصف الكتاب المكنون بأنّه الذي تنزل منه القرآن المصحف الذي بين الدفتين، فالقرآن في الكتاب المكنون له حقيقة علوية لا يتناولها إلا المطهّرالمعصوم، فالحقيقة العلوية بعيدة عن افهام الناس إلا بواسطة المطهرين، فالمطهرون هم اهل بيانه وتفسيره ومعرفته، وهم العالمون
    ____________
    1- الواقعة: 77 - 79 .

    الصفحة 83
    ببطونه وعلومه {انّه في أمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم}(1) ولا يعلم تأويل الكتاب إلا الراسخون في العلم {ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم}(2) قال ابو عبدالله(عليه السلام): "نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله" واذا ثبت أن المطهرين هم المقربون كما تقدم ذكره من أن المقربين هم علي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) فانّ الكتاب المكنون لا يمسه إلا المطهرون، أخرج السيوطي عن ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس عن النبي(صلى الله عليه وآله)في قوله تعالى (انّه لقرآن كريم في كتاب مكنون)قال: عند الله في صحف مطهرة (لا يمسه إلا المطهرون) قال: المقربون(3).
    واذا كان المطهرون هم المقربون الذين يمسون الكتاب ويعلمون تأويل بواطنه فانّ لهم الحجية من الله تعالى على الخلق اذ الحجة هو الموصل لمعرفة الطريق الى الله ومن هنا نعلم أن احاطتهم(عليهم السلام) بكل شيء دليل حجيتهم اذ علمهم بالكتاب يعمّ علمهم بكل شيء، فالكتاب محفوظ فيه علم كل شيء لقوله تعالى: {ولا حبّة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس
    ____________
    1- الزخرف: 4 .
    2- آل عمران: 7 .
    3- الدر المنثور8: 27 .

    الصفحة 84
    إلا في كتاب مبين}(1) فالحجية تعني ولايتهم على الخلق بقسميها ولايتهم التشريعية المنبعثة من مقام علمهم بالكتاب الذي يضم علم كل شيء، اذ الولاية التشريعية لا تتم إلا بمعرفة أحكام كل شيء فهي من لوازم العلم، وبحكم علمهم بكتاب الله فانّ لهم الولاية التكوينية على الخلق، اذ هذا القرآن بحقيقته العلمية المكنونة التكوينية الملكوتية الذي لا يعلمه إلا المطهرون موصوف بقابلياته الالهية المودعة فيه {ولو أن قرآناً سُيّرت به الجبال أو قطّعت به الارض أو كلّم به الموتى...}(2) وقوله تعالى (وقال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ اليك طرفك)فالحجية هي المقام الالهي المنبعثة منها ولايتهم (عليهم السلام)بقسميها.
    وبهذا سيتم لنا معرفة مقام فاطمة(عليها السلام) من حيث معرفتها بكتاب الله وبواطنه وعلومه، ومن حيث ولايتها التشريعية والتكوينية معاً.
    وقد رويت في عرض ولايتها على الخلق كباقي ولاية أصحاب الكساء والأئمة المعصومين(عليهم السلام) روايات عديدة
    ____________
    1- الانعام: 59 .
    2- الرعد: 31 .

    الصفحة 85
    فلاحظ(1).
    فاطمة (عليها السلام) وحجّيتها لدين الاسلام
    وفيه جهتان:
    الجهة الأولى:
    تُعد آية المباهلة من أهم الآيات التي أثبتت حجية فاطمة(عليها السلام)، اذ هذه الآية كانت مقام الفصل بين حقانية الدين الاسلامي ونسخ غيره من الأديان.
    فالنصارى الذين احتج عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكل حجة لم يذعنوا في الظاهر، وتمادوا في تشكيكهم وتكذيبهم لدعوة النبي(صلى الله عليه وآله) ولم يملكوا إلا الاذعان لما دعاهم النبي(صلى الله عليه وآله) للتباهل الى الله تعالى ليلعن الكاذب، ولم يجد النصارى بداً من القبول بذلك، حتى اذا أراد النبي(صلى الله عليه وآله)مباهلتهم علموا صدق النبي(صلى الله عليه وآله)بالخروج بالمباهلة بنفسه وأهل بيته، مما دعى النصارى الى التسليم لصدق دعوته واذعانهم اليه، قال تعالى: {فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم
    ____________
    1- البحار 11: 172 و27: 199، و36: 261 و16: 361 و37:62 و37:62، وفي معاني الأخبار 38 ـ 39، وفي غيبة النعماني: 93 ـ 94.

    الصفحة 86
    ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين}(1).
    أخرج السيوطي في الدر المنثور عن جابر قال: "قدم على النبي(صلى الله عليه وآله)العاقب والسيد فدعاهما الى الاسلام فقالا: أسلمنا يا محمد قال: كذبتما ان شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الاسلام، قالا: فهات قال: حبّ الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير قال جابر: فدعاهما الى الملاعنة، فدعواه الى الغد، فغدا رسول الله(صلى الله عليه وآله)وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم ارسل اليهما فأبيا أن يجيباه وأقرّا له فقال: والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما ناراً قال لجابر: فيهم نزلت (تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم...)الآية قال جابر: (أنفسنا وأنفسكم)رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعلي، و(أبناءنا)الحسن والحسين، و(نساءنا)فاطمة"(2).
    وروى ذلك السيوطي بعدة طرق.
    وأخرج الحاكم النيسابوري في شواهد التنزيل القصة في تسع طرق(3).
    ____________
    1- آل عمران: 61 .
    2- الدر النثور للسيوطي2: 230 .
    3- شواهد التنزيل1: 155.

    الصفحة 87
    وروى ذلك ابن كثير في تفسيره عن جابر(1).
    فمباهلة النبي(صلى الله عليه وآله) بعلي وفاطمة والحسن والحسين يعني احتجاجه على النصارى بهؤلاء الذين هم الحجة على صدق دعوة النبي وبعثته. كما انّ المباهلة تعني بحسب ماهيتها أن النبي(صلى الله عليه وآله) جعل هؤلاء المتباهل بهم شركاء في دعوته، مما يعني أن مسؤولية الدعوة تقع على عاتقهم كذلك بحجيتهم ومقامهم، مشيرة الى وجود تعاضد وتقاسم بينهم وبين النبي(صلى الله عليه وآله) كما يفيد ذلك حديث المنزلة الذي رواه الفريقان، عن سعد بن أبي وقاص أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال لعلي: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ألا أنّه لا نبي بعدي"(2) فمنزلته(عليه السلام) بمنزلة هارون، وصفٌ لحجيته ومشاركته في دعوته كما شارك هارون موسى في دعوته، فهذه المقاسمة والمشاركة في المنزلة دليل حجيته(عليه السلام) كما أن مشاركة علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) في المباهلة مع النبي(صلى الله عليه وآله)دليل حجيتهم ومشاركتهم معه (عليهم السلام)في تبليغ صدق بعثته (صلى الله عليه وآله)هذا ما تبينه آية المباهلة من مقام فاطمة (عليها السلام)وحجيتها كذلك.
    فهذه مقامات يمكن متابعتها في اصطلاحات القرآن تفسّر مقام الزهراء(عليها السلام) وأنها بنص القرآن حجة من حجج الله تعالى في
    ____________
    1- تفسير ابن كثير 1 : 484.
    2- ذخائر العقبى: 63 .

    الصفحة 88
    مصاف الانبياء والرسل.
    وما روي عن ابي جعفر(عليه السلام) في حجية فاطمة(عليه السلام) قوله: "ولقد كانت فاطمة(عليها السلام) مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والانس والطير والوحش، والانبياء والملائكة"(1).
    فتحصّل أن مؤدى آية المباهلة هو بنصب الله تعالى فاطمة(عليها السلام)حجة على حقانية الاسلام ونبوّة نبيّه وشريعته، لاحتجاجه تعالى بها على النصارى وأهل الكتاب، فلم يحصر تعالى الحجية على الدين بالنبي(صلى الله عليه وآله)، بل جعل الخمسة كلهم حجة على دينه، ومقتضى هذا الاحتجاج منه تعالى أن متابعة علي وفاطمة والحسنين(عليهم السلام) للنبي(صلى الله عليه وآله)وتصديقهم به هو بنفسه دليل على صدق النبي(صلى الله عليه وآله) ورسالته، نظير قوله تعالى {كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}(2) حيث جعل شهادة من عنده علم الكتاب دليل على صدق النبي(صلى الله عليه وآله) من سنخ شهادة معجزة القرآن التي هي شهادة الله لنبيّه والآية من سورة الرعد المكية نزولاً النازلة في علي، حيث لم يسلم من أهل الكتاب في مكة أحد، بل لا يخفى على اللبيب الفطن أن من عنده علم الكتاب شامل للمطهرين في شريعة الاسلام وهم أصحاب آية
    ____________
    1- عوالم العلوم: 190 وفي دلائل الامامة: 30.
    2- الرعد: 43 .

    الصفحة 89
    التطهير، لأنهم هم الذين يمسون الكتاب المكنون كما أشارت اليه سورة الواقعة وتقدم مفصلاً فمنه يعلم أن قوله تعالى (وكفى بالله شهيداً) مفادها هو مفاد آية المباهلة في كونها حجة على بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهذا المعنى هو الذي يشير اليه ما رواه الواقدي أن علياً(عليه السلام) كان من معجزات النبي(صلى الله عليه وآله)كالعصا لموسى واحياء الموتى لعيسى(1).
    ففي مقام الاحتجاج على أهل الاديان لم يأمر الله تعالى نبيّه بدعوة زوجاته أمهات المؤمنين ولا أحد من الصحابة ولا سائر بني هاشم، ولا يخفى أن تعيين الخمسة(عليهم السلام) للمباهلة لم يكن موكولاً للنبي(صلى الله عليه وآله)، بل بأمر من الله وتعيين وتنصيص من الله في قرآنه النازل، وان كان النبي(صلى الله عليه وآله)مأموراً بدعوتهم للمباهلة.
    وبمعنى آخر إن المباهلة في اللغة تعني الملاعنة ودعاء كل طرف على الاخر، وهي انّما يتوسّل بها عند نفاد الحجة لكلا الطرفين، أي لا لعدم وجود الحجة ـ ويشير إلى ذلك صدر الآية (فمن حاجّك) أي في مقام الاحتجاج وإقامة الحجّة من كل طرف على مدّعاه في قبال الآخر ـ، بل لعدم استجابة أحد الطرفين لحجية الاخر فتكون المباهلة نوع من حكم الله بين الطرفين وكأنه استعجال لحكم الله وقضائه الاخروي الى هذه
    ____________
    1- الفهرست لابن النديم الفن الاول من المقالة الثالثة: 111 .

    الصفحة 90
    النشأة الدنيوية، ولا ريب انّ أهمية وخطورة المباهلة تتبع مورد المباهلة، فكلما ازداد خطورة اختلفت اهمية حكم الله وفصل قضائه وبالتالي اختلفت نوعية حكمه تعالى، كما انّ مقتضى ماهية المباهلة كون طرفي المباهلة هما المتداعيان أي كل منهما صاحب دعوة في قبال الاخر، فكلٌ منهما هو صاحب دعوى المتحمل لتلك الدعوى، كما هو الحال في بقية النزاعات والخصومات أن يكون كل منهما على تقدير صدق دعواه وثبوتها هو صاحب الحق ومن له صلة بالحق، كما لا معنى للنيابة في الخصومة في مقام الحلف وما هو من قبيله كالمباهلة، واذ تبينت ماهية المباهلة حكماً وموضوعاً ومتعلقاً، يتبيّن أن الخمسة أصحاب الكساء صلوات الله عليهم، هم أصحاب الدعوة للدين بالأصالة، وأن كلاً منهم ذو صلة وشأن في حقانية الدين وصدق البعثة النبويّة، ومعنى صدقهم في دعواهم أن كلاً منهم يخبر عن علمه بصدق الرسالة ونزول الوحي على النبي(صلى الله عليه وآله)وانبعاثه بدين الاسلام، ومن ثَمَ لابد أن تكون علومهم لدنّيه تؤهلهم للتصدي لهذه الدعوة، اذ بالعلم اللدني وحده يمكن الاطلاع على نزول الوحي، وبالتالي فانّ مسؤولية حفظ الدين وحمايته تقع على الخمسة بنحو المشاركة، مما يدلل على وحدة سنخ المقام والمنصب الشرعي ـ عدا النبوّة ـ فضلاً عن ولايتهم

    الصفحة 91
    الشرعية على الدين.
    الجهة الثانية:
    ما ورد في الحديث القدسي:"لولاك ما خلقت الأفلاك ولولا عليّ لما خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما جميعاً"
    ولتفسير الحديث ثلاثة أوجه:
    الأول: الوجه الكلامي:
    وليس هنا معنى الحديث ـ كما قد يتوهّم في باديء النظر ـ هو أفضلية علي أو فاطمة(عليهما السلام)، بل الرسول(صلى الله عليه وآله) أفضل الكائنات وسيد البرايا (فدنى فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى) دنواً واقتراباً من العليّ الأعلى، وقال عليّ(عليه السلام) "أنا عبد من عبيد محمد(صلى الله عليه وآله)" أي المأمورين بطاعته(صلى الله عليه وآله). بل مفاده نظير ما رواه الفريقين عن النبي(صلى الله عليه وآله) "عليّ منّي وأنا من عليّ" و"حسين منّي وأنا من حسين" وهو يحتمل أوجه من المعاني منها: انّ الغرض والغاية من خلق بدن الرسول(صلى الله عليه وآله) في النشأة الدنيوية وابتعاثه لا يكتمل إلا بالدور الذي يقوم به عليّ وفاطمة(عليهما السلام)من أعباء اقامة

    الصفحة 92
    الدين وايضاح طريق الهداية، نظير قوله تعالى النازل في أيام غدير خم يوم تنصيب النبي(صلى الله عليه وآله) عليّاً(عليه السلام) إماماً (يا أيّها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللّه يعصمك من الناس إن اللّه لا يهدي القوم الكافرين)فقد جعل تبليغ الرسالة مرهوناً بنصب عليّاً إماماً ليقوم بالدور الذي يلي النبي(صلى الله عليه وآله) وكذا قوله تعالى (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) وهو أيضاً نزل في أيام غدير خم فرضى الرب بالدين مشروط بما أقيم في ذلك اليوم حيث يئس الكفار من إزالة الدين الاسلامي والقضاء عليه، لأن القيم على الدين وحفظه لن ينقطع بموت النبي(صلى الله عليه وآله) بل باق ما بقيت الدنيا. ونظير قوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)فجعل الرسالة في كفّة ومودة الرسول(صلى الله عليه وآله) في كفّة معادلة وقال تعالى (ما سئلتكم من أجر فهو لكم)و(ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً)فكانوا هم السبيل اليه تعالى والمسلك إلى رضوانه وانّ الدور الذي قامت به فاطمة(عليها السلام)من ايضاح محجة الحق وطريق الهداية في وقت عمّت الفتنة المسلمين ولم يكن من قالع لظلمتها ودافع للشبه إلا موقف الصديقة الطاهرة(عليه السلام) فقد كان ولايزال حاسماً وبصيرة لكلّ

    الصفحة 93
    المسلمين ولكل الأجبال. اذ هي التي نزلت في حقّها آية التطهير والدهر وهي أمّ أبيها، اذ الأمومة للرسول(صلى الله عليه وآله) وهو مقام لا يقاس به الأمومة للمسلمين، وهي روح النبي(صلى الله عليه وآله) الذي بين جنبيه، فكل هذه الآيات والأحاديث النبويّة لم تزل حيّة وغضّة في آذان المسلمين.
    وهذا المعنى للحديث حينئذ يقرب من مفاد قوله تعالى (ما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) أي ليعرفون ثم يعبدون وذلك بوساطة هداية الرسول والدين الحنيف باقامة الائمة(عليهم السلام) له بعده(صلى الله عليه وآله).
    الثاني: الوجه الفلسفي
    قد حرر في علم المعقول تعدد الغاية، فمنها غاية نهائية ومنها غايات متوسطة، كما قد حرر أنّ العلل الغائية تكون بحسب مقام متعاكسة بحسب مقام آخر، ولنمثل بذلك مثال يوضح هذا الأمر، فقد يقول القائل: انّي أذهب إلى المدرسة لكي أتعلّم، وانّي اتعلم لكي أحصل على الشهادة العيا، كما يصح من هذا القائل قوله لولا ذهابي للمدرسة لما تعلّمت ولولا تعلّمي لما حصلت على الشهادة العليا، كما يصح منه القول: لولا الرغبة للحصول على الشهادة العليا لما تعلّمت ولما ذهبت إلى

    الصفحة 94
    المدرسة، فالحاصل من قول هذا القائل ليس مفاده أفضلية الذهاب إلى المدرسة من التعلم، ولا أفضلية التعلم من الدرجة العلمية الفائقة في حصول الشهادة، بل هذا التعليل هو بيان لدور وتأثير الغايات المتوسطة من دون أن يعني ذلك كونها غايات نهائية.
    فما يوهمه ظاهر هذا الحديث من كون فاطمة(عليها السلام) علّة غائية نهائية وراء النبي(صلى الله عليه وآله) ليس بمراد، بل حاصل ما يعنيه أنّها(عليها السلام) من الوسائط التي بمثابة غايات شريفة تتلو الغاية النهائية في المقام.
    الثالث: الوجه العرفاني
    ومحصّله هو التنويه بالذات النورية للخمسة اصحاب الكساء، وأن بذواتهم النورية اشتّق اللّه خلق بقية المخلوقات وهو نظير ما ورد بروايات الفريقين، "أول ما خلق اللّه نور نبيّك يا جابر" وفي رواية اخرى العقل، وفي لسان القرآن الماء لقوله تعالى: (وخلقنا من الماء كلّ شيء حي) فهو نظير الروايات الواردة في اشتقاق النور، وقد أسند اللفظ في صدر هذه الرواية، وجُعل الشرط في الشرطية الأولى ذات النبي(صلى الله عليه وآله)الشريفة لا خلقته، والمراد بها ذاته النورية التي هي من عالم الأمر أي المخلوقة بالمعنى الأعم لا المعنى الأخص كما يشير إلى ذلك

    الصفحة 95
    قوله تعالى (له الأمر وله الخلق) وقوله تعالى (انّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون)فالمخلوقات على قسمين من عالم الأنوار ومن عالم التراب والمادة الغليظة وهي النشأة الدنياوية.
    ففي الشرطية الأولى جعلت ذاته النورية واسطة لفيض خلق الأفلاك، وفي الشرطية الثانية جعلت ذات علي النورية واسطة فيض لخلق البدن الجسدي للنبي(صلى الله عليه وآله) وفي الشرطية الثالثة جعلت ذات فاطمة النورية واسطة فيض لخلق بدن النبي(صلى الله عليه وآله) وبدن الوصي. فمع الدقّة والتأمّل في ظرافة التعبير حيث لم يُسند في الشرطية الثانية ولا الأولى ولا الثالثة، ولم يُجعل الشرط في كل منها خلق الثلاثة الأطهار بل جعل ذواتهم النورية، وجعل الجزاء في الشرطيات الثلاث الخلق، فليس التعبير "لولا خلقك لما خلقت الاهفلاك ولولا علي لما كنت ولولا خلق فاطمة لما خلقتكما" والمغزى في اسلوب هذا الحديث المثير للوهم، هو التنبيه على مقامات فاطمة(عليها السلام) وأنّها تلو النبي(صلى الله عليه وآله) والوصي عليهما صلوات اللّه، دون سائر الأنبياء والمرسلين كما تقدم إيضاحه فيما سبق.
    فالمحصّل انّ أول المخلوقات نور النبي(صلى الله عليه وآله) ثم نور علي(عليه السلام)ثم نور فاطمة(عليها السلام) ثم بقية الأنوار ثم بقية عوالم ونشأت الخلقة التي تتضمن الأبدان الشريفة للمعصومين، فنور علي وفاطمة

    الصفحة 96
    يتوسط بين نور النبي(صلى الله عليه وآله) والاجساد الشريفة في تسلسل عوالم الخلقة، وهذا هو المراد من قولنا انّ نور علي وفاطمة(عليهما السلام) واسطة فيض لخلق بدن النبي(صلى الله عليه وآله)كما انّ نور فاطمة(عليها السلام) واسطة لخلق بدنهما


  2. #2
    عضو محظور
    تاريخ التسجيل: June-2015
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 9,133 المواضيع: 928
    صوتيات: 19 سوالف عراقية: 2
    التقييم: 3115
    مزاجي: مزاجية
    آخر نشاط: 24/February/2018
    السلام على سيدتي الزهراء
    شكرا اخ حيدر ع الموضوع

  3. #3
    صديق فعال
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رهف مشاهدة المشاركة
    السلام على سيدتي الزهراء
    شكرا اخ حيدر ع الموضوع
    عفوا اختي جعلكم الله من شيعتها

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال